يحاول النظام السوري إعادة إنتاج الخطاب السياسي لنظامه اتكاء على ما يجري اليوم من محاولات حثيثة ومتسارعة للدخول في مفاوضات بينية تطبيعية تجمع نظام بشار الأسد والحكومة التركية، وأيضًا الطرف الروسي، بما بخص مصائر محافظة إدلب المستقبلي ومآلاتها، ضمن أي توافقات أو اتفاقات جديدة بين الأسد والرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
ولأن محافظة إدلب ما انفكت تشكل حجر عثرة كبرى في طريق تمدد وأطماع العسكريتاريا التابعة لنظام بشار الأسد، فهي علاوة على ما تمثله من فصائل معارضة عسكرية ومتماسكة تنظيميًا، فهي تمتلك أسلحة جمة ومتطورة نسبيًا، وفيها كذلك إرادات قوية لمناهضة نظام الأسد، وهي أيضًا تشكل الجزء الأهم من اتفاق ٥ آذار/ مارس 2020الموقع بين الرئيس الروسي بوتين والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، والذي أدى إلى خلق حالة من الهدوء النسبي والمتقطع، على عدة جبهات، كما ساهم هذا الاتفاق البروتوكولي إن لم يكن في إيقاف المعارك بين النظام والفصائل، فهو على الأقل اشرف على دينامية تأجيل الحسم العسكري إلى زمن قادم، تقتضيه أو تشارك فيه الظروف السياسية والجيوسياسية، التي ستبقى مرتبطة بجملة المعطيات والظروف الذاتية والموضوعية، التي ستفضي كما هو متوقع ومأمول غلى حل دائم لا يعرف أحد حتى الآن (على الأقل) ماهيته وملامحه شكله، ومدى تأثيره على مستقبلات وحيوات كل السوريين .
أوضاع محافظة إدلب الساكنة نسبيًا، تعكر صفوها بين الحين والآخر اختراقات، وانتهاكات عنيفة، يقوم بها نظام بشار الأسد وأدواته وميليشياته، وأحيانًا طائرات داعميه، من روس وسواهم. لكن إعادة طرح فكرة سيطرة وتهديد هذه المنطقة من قبل نظام الأسد، والترويج عبر وسائل إعلامه تساوقًا مع ما يحكى عن قرب الوصول إلى تفاهمات واتفاقات بين تركيا والنظام السوري برعاية روسية وعراقية، يشير وبوضوح إلى أن متطلبات النظام السوري من تركيا قد تكون على الأرجح حل مسألة خروج إدلب والشمال السوري، من تحت سيطرة النظام، ومن ثم عودة هذه المناطق الشاسعة إلى ما يسميه النظام السوري (حضن الوطن)، وهو بشكل أصح حضن وسيطرة نظام الأسد، والدولة الأمنية السورية، المدعومة روسيًا وإيرانيًا.
واقع الحال يقول: إن هناك حالة كبرى وملحوظة من التسارع تشهدها أروقة السياسة ضمن مشهد التطبيع المفترض، بين نظام دمشق وتركيا، وعلى هذا الأساس يحاول نظام دمشق بكل ما يستطيع الترويج لإشاعة أنه بصدد التحضير الجدي لقضم ما تبقى من محافظة إدلب، بعد السيطرة قبل ذلك على معرة النعمان وخان شيخون وسراقب، والنظام السوري بذلك يرسل رسائل عدة إلى الأتراك أولًا، من حيث أن النظام السوري وضمن المفاوضات المرتقبة، لن يرضى بأقل من السيطرة على محافظة إدلب كاملة، وصولًا إلى الحدود التركية، وبالضرورة التمكن من فتح طريق الترانزيت التجاري، وحمايته عبر أجهزته، وهو ما يسمى M ٤ الذي يعتبر من قبل تركيا أحد الطلبات المقدمة لحكومة النظام السوري، كي يتمكن الطرفان من إنجاز التفاهم أو الاتفاق المزمع.
كما أن النظام السوري يوجه رسالة اخرى أيضًا للحاضنة الشعبية للمعارضة، حيث تتواجد في محافظة إدلب، بما ينوف عن ثلاثة ملايين ونصف من السكان المدنيين، وبالتالي فالنظام يريد أن يقول، إن الولوج بالحل السياسي المطروح دوليًا، سيكون المدخل إليه، حسب إعلام النظام هو سيطرة مليشيا الأسد على كل مناطق شمال غرب سورية، بما فيها محافظة إدلب، وهي الأهم، حيث مازالت تتواجد فيها الآن ما ينوف عن ٣٥ نقطة عسكرية تركية مدججة بالسلاح، وهي التي سبق وأن جاءت نتيجة التفاهم الروسي التركي البروتوكولي المشار إليه. وهذا يعني أن تركيا سيكون بيدها إفساح المجال للحل السياسي، إذا تخلت عن دعمها وهيمنتها على أجزاء كبرى من محافظة إدلب والشمال الغربي السوري.
بينما تتحدث المعارضة السورية عن رفضها لمثل هكذا حلول، قبل الدخول بالحل السياسي الجدي وفق القرار ٢٢٥٤ وما يماثله، في وقت كانت قد خبرت فيه كل أطياف المعارضة السورية مدى كذب ونفاق وتسويفات النظام السوري ضمن كل حالات التفاوض ومساراتها، سواء في أستانا ومسارها، أو مسار اللجنة الدستورية المتوقف منذ ما يقرب السنتين، وهو الذي لم ينتج أي خطوة إيجابية على طريق الحل الدستوري أو السياسي، بعد ثماني جولات من اجتماعات اللجنة الدستورية المتعثرة، والتي كان نظام الأسد يصر على إغراق الجميع بالتفاصيل والتأجيل، منعا من وصول المجتمعين إلى أية صياغة دستورية، حتى ولا صياغة نص مادة واحدة من الدستور السوري المزمع.
في إدلب اليوم ولدى كل أهليها وكل القاطنين فيها حالة من الترقب والانتظار والتخوف لما يمكن أن يحاك في الخارج، على حافة وهامش اللقاءات القادمة بين تركيا والنظام السوري، برعاية روسية وهم يتخوفون بحق من أية نتائج قد تفضي (على الأقل) إلى قرار أو اتفاق برفع الحماية أو الدعم العسكري والسياسي التركي عن جل محافظة إدلب وما حولها، وهم في ذلك يدركون جيدًا أن الحل السياسي الدولي، لن يقبل به نظام بشار الأسد، بعد أن تغيرت كل الظروف المحيطة والمواكبة للمسألة السورية، وبعد أن باتت الأبواب أمام النظام السوري مشرعة على مصراعيها تطبيعًا وقبولًا به ومن ثم إعادة إنتاجه من جديد، علاوة على أن الرئيس الأميركي (جو بايدن) نفسه كان قد اوقف التوقيع على القانون الأميركي بمنع التطبيع مع نظام بشار الأسد، مكافأة له كما يقال على صمته و(صبره الإستراتيجي) عن الدخول في أية معركة عسكرية نصرة لأهالي غزة والشعب الفلسطيني، متخليًا بذلك عن (وحدة الساحات) الشعار (الممانع) المضلل. وهذا يعني كذلك أن باب التطبيع مع الأسد تركيًا أو عربيًا بات مفتوحًا وتسكت عنه الإدارة الأميركية.
يبدو أن مستقبل محافظة إدلب يرسم بالخارج بكل أسف، ومازالت المعارضة السورية بكافة تلوين الطيف السياسي والعسكري، تضع البيض كله في سلة الخارج، ولا يبدو أنها بصدد التعلم من تجاربها، هي لم تتعلم الدروس، ولم تدرك أن الخارج يعمل من أجل مصالحه، ومصالحه فقط، وهذا حقه، وطبيعي أن يفعل ذلك، لكن عليها هي أي هذه المعارضة السورية، أن تعي أنها لابد أن تعمل على مصالح السوريين، وليس مصالح الخارج الصديق أو سواه، وليس أيضًا مصالحها الذاتية، ومحاصصاتها التي لا تتوافق مع مصالح السوريين الذين ضحوا بأكثر من مليون سوري على مذبح الحرية والكرامة.
المصدر: مجلة الوعي السوري