أخطأ النظام السوري، بتوقيعه الاتفاق العسكري الشامل أخيرا مع إيران، والذي يعطيها دوراً كبيراً في إصلاح جيشه، ويسمح لها بتعزيز الدفاعات الجوية لمواجهة إسرائيل. هذا الاتفاق تتويج لاتفاقيات كثيرة عقدتها إيران معه، بل لعلاقة قديمة بينهما. النظام الراهن، بعد أن وجد نفسه يتحول إلى أداةٍ بيد الروس، وأن هناك طبخة تعدُّ له، وقد تطيح أغلب قياداته، قرّر الموافقة على ذلك الاتفاق. إيران تحتاجه بشدة، وسيكون ورقة إضافية، حينما تحين لحظة التسوية بخصوص سورية، وتحتاجه في ترتيب شؤونها في المنطقة، وفي مواجهة تركيا وروسيا وأميركا. النظام يحتاج الاتفاق لأن روسيا تهمّشه كل يوم، وتمتّن علاقاتها مع إسرائيل؛ ولإسرائيل دور مركزي في كل ما ستؤول إليه الأوضاع في سورية، وفي كل ما آلت إليه أيضاً. إن دمار سورية وخرابها وكل مآسيها تصب في مصلحة إسرائيل وقوتها.
يعلم النظام السوري أن روسيا وأميركا لا تريدان تغييره، وتتطلعان إلى إصلاحه، ومشكلته هنا، فكل إصلاح فيه سيفضي لا محالة إلى تغييره! إذاً ليس من دولةٍ في العالم تريد بقاءه كما هو إلا إيران، وبالتالي اتجه نحوها، محاولاً ألّا تتم إطاحته، وبحثاً عن مخرجٍ له، حينما تلوح لحظة التسوية. يتوهم النظام بذلك أن إيران لن تضحّي به، وبأرخص الأثمان، حينما تتفق روسيا وأميركا، وتضمنان مصالح إيران.
الآن، وفي ظل تعثر التسوية، ومتابعة روسيا خياراتها في تهميش إيران والنظام، اتجه الأخيران نحو تعزيز التحالف، ولكن هل ينجحان في إرباك الخيارات الروسية أو يبتزّانها؟ سيما أن إيران تشعر أن روسيا تقترب من إسرائيل أكثر، ومن تركيا وحتى أميركا. تحاول إيران بذلك اللعب منفردة، ويلحق بها النظام السوري، ولكنها اللعبة الأخطر في المرحلة الحالية، فهناك رفض إقليمي واسع لوجودها، ووجود المليشيات التابعة لها، من أحزاب الله في لبنان والعراق، وهناك سياسات أميركية وإسرائيل تقول بضرورة خروج إيران من كل المنطقة، وليس من سورية والعراق فقط.
روسيا التي أُعطِيت سورية، أعطيت لها، ولكن بشروط، أوّلها إخراج إيران من سورية. وبالتالي، يأتي الاتفاق أعلاه في سياقٍ معاكس كلية لكل السياسات الروسية والأميركية والإسرائيلية، بل والتركية. إيران التي لديها فائض من المليشيات الرخيصة ليست لها خيارات أخرى إلا المواجهة. يعلي هذا الاتفاق من وزن حضورها في سورية، وقد تستخدمه فعلاً من أجل شن حروب في إدلب أو شرق سورية، باعتبارها والنظام يؤكدان أحقيّة الأخير في كل سورية، وربما تستخدمه في توتير أجواء المنطقة بأكملها، وعلى مبدأ “فليحترق الجميع أيضاً”، ما دام الحصار يشتد عليها عالمياً. وكذلك يشتد على النظام السوري الذي أحكم قانون قيصر الخناق عليه، وأحكمت روسيا قبضتها عليه، فهي من حماه عالمياً عبر الهيئات الدولية، وهي من أنقذته من سقوطٍ حقيقي.
والآن، كيف سترى روسيا الاتفاق العسكري؟ هو موجّه ضدها أيضاً؛ وهي من تسيطر على سورية أجواءً وأرضاً، وحمته بخمسة عشر “فيتو” في مجلس الأمن، وألف شكل وشكل. لا يستساغ القول إن الاتفاق جاء ضمن لعبة روسيا، ولتقوية نفوذها في مواجهة أميركا وإسرائيل. لا، روسيا الآن تعترف لأميركا وتركيا بوجودهما العسكري، وتعلم أن ما يعيق أيّ حلحلةٍ للوضع السوري، وكي تستفيد منه روسيا هي أميركا بالتحديد، ولكن أميركا لا تشن حروباً على روسيا في سورية ولا تركيا، وبالتالي الدولة التي تنافس روسيا حالياً في سورية هي إيران بالتحديد.
يعاكس الاتفاق السوري الإيراني، الموقّع أخيرا، كل التوجيهات الروسية التي ترسلها إلى النظام. ويعطي لإيران مكانة كبيرة في سورية، وهذا يعني أن النظام “يلعب بذيله مع الروس”. المسألة أصبحت مكشوفة الآن، والاتفاقُ علنيٌ، وبالتالي، وعلى الرغم من الفيتو الروسي أخيرا في مجلس الأمن، والذي يحمي النظام ويحاول شرعنته عالمياً، فإن النظام يتجه نحو إيران. مسألة تتطلب التدقيق إذاً.. هل النظام لا يعي مصلحته فعلاً؟ وكيف تحمي روسيا نظاماً يدير لها ظهره؟ هذا الحال يمكن تفسيره أن روسيا لا تحمي النظام، إلا من أجل مصالحها التي وقعتها معه، ومن أجل أن يظلّ لها الدور الأساسي في سورية. النظام يعي ذلك، ولكنه يرتكب خطأ كبيراً في الاتفاق، وربما سنشهد تطورات روسيّة ضد النظام نفسه.
يستفز الاتفاق أميركا وإسرائيل، ولكنه أيضاً يورّط إيران الغارقة في مشكلات متعدّدة، وعلى المستويات كافة. لن تتوقف إسرائيل عن قصف أية مواقع إيرانية في سورية. وتقول الأخبار إنها المسؤولة عن قصف الموقع النووي الإيراني أخيرا. ستشدّد أميركا الحصار أكثر فأكثر، عبر قانون قيصر وسواه، وستكون إيران أكثر المتضرّرين؛ فالحدود ستغلق بين سورية ولبنان وسورية والعراق، وسيشمل الحصار حتى المناطق السورية التي تسيطر عليها كل من تركيا وأميركا، وفصلها عن المناطق الواقعة تحت سيطرة الروس والإيرانيين. عدا ذلك كله، هناك تصعيد أميركي كبير ضد كل الوجود الإيراني، ويلاحظ حالياً في سورية والعراق ولبنان.
ذهنياً، يفترض بإيران البحث عن أوراقٍ للتسوية، والانكفاء داخليّاً، ولكن ما يحدث عكس ذلك؛ ففي سورية عقدت اتفاقاً عسكريّاً شاملاً. وفي العراق، تشنّ مليشيات تابعة لها عمليات ضد القواعد العسكرية الأميركية. وفي لبنان، يعلن حزب الله مواقف رافضة قانون قيصر، وأيّة علاقة بين أميركا ولبنان، وفصل الأخير عن سورية. وتستفيد إيران من التراخي العسكري الأميركي، واكتفائه بعمليات عسكرية محدودة هنا وهناك. المشكلة أن إيران لن توقف مشاريعها الإقليمية، على الرغم من أنها تتعرّض لحصار أميركي، ولديها أزمات اقتصادية شديدة داخلياً، وتقوم أيديولوجيتها على تصدير الثورة والتمدّد الإقليمي والسيطرة على عدة عواصم عربية، وأن ذلك شأن عظيم، وعلى الشعب الإيراني الصبر من أجل رفعة دولته. وبالتالي، أي انكفاءٍ إيراني، أو التوقف، سيعني نجاحاً للمشاريع المغايرة لها في كل المنطقة، وسيكون السؤال في إيران حينها: ماذا جنينا من كل تدخلنا في المنطقة العربية، واستنزاف ثرواتنا على مليشيات طائفية، لا يمكنها أن تستولي على دولةٍ واحدةٍ في المنطقة، بل وأكسبتمونا عداواتٍ كبيرةٍ مع محيطنا العربي والإقليمي.
يورّط النظام نفسه بتولية وجهه نحو إيران التي ستستخدمه ورقة بيدها حينما تحل التسويات. ليس هو فقط، بل وكل المليشيات الطائفية التابعة لها. ما يسرّع بذلك هو عقد تسويةٍ روسيّة أميركيّة، تشمل سورية وسواها. ليس الوقت الحالي في صالح الروس أبداً، وأميركا وتركيا تستفيدان منه، بل وحتى إيران، فهل تعي روسيا حجم خساراتها الحالية والمستقبلية.
المصدر: العربي الجديد