هل تعزز حملته الانتخابية انقسام البلاد دينياً؟ ولماذا يدعمه التيار اليميني الإنجيلي إلى هذا الحد؟
الكارثة لا الحادثة تتمثل في السيناريو التالي “إذا فاز ترمب فسيزعم أتباعه أنه حصل على تفويض إلهي لإعادة تشكيل أميركا وربما العالم من ورائه”، أما إذا خسر فتتحول هذه النبوءات مرة أخرى إلى مبررات لمهاجمة المؤسسات “الشيطانية” اليسارية والليبرالية التي تجرأت على تحدي مسحة الله ورؤيته لترمب.
على عتبات انتخاب رئيس أميركي جديد، ضمن سياق انتخابات أميركية غير مسبوقة، يطفو على السطح التساؤل المثير، الذي طالما طرح من غير أدنى مقدرة على إيجاد جواب له “هل أميركا دولة دينية أم دولة علمانية؟”.
التناقض الواضح قائم في ثنايا وحنايا هذا البلد الإمبراطوري، الذي يستهل وثيقة الاستقلال بكلمات من عينة “نحن الشعب”، وهي أعلى درجات المدنية أو العلمانية، إذ يفرق الدستور الأميركي بين الدولة وسياقاتها، والدين وحرية العبادة من غير خلط بينهما.
لكن على الجانب الآخر نجد على الدولار الأميركي، العملة التي تشكل عصب هذه الأمة وقوتها القادرة، مكتوباً ما يدلل إلى أن الهوى الديني ضارب جذوره فيها، حيث كلمات مثل IN GOD WE TRUST “نحن نثق في الله” ظاهرة للعيان بشكل مثير للغاية.
واليوم مع عودة الرئيس السابق دونالد ترمب لدائرة الترشح للرئاسة الأميركية، تبدو أميركا على حافة صراع مذهبي بين أنصار ترمب المؤمنين بطهرانيته وباختيار السماء له، لا سيما بعد نجاته من حادثة الاغتيال، وبين من يرون أنه يسبب ضرراً بالغاً لأميركا من خلال الغزل على متناقضات المطلقات وأهمها الأديان، ويضيف هذا البعد الديني عاملاً جديداً للشقاق والفراق في انتخابات رئاسية غير مسبوقة، ولا يعلم أحد إلى أين تمضي بها المقادير.
في هذا السياق نحن بصدد عدد من التساؤلات المعمقة حول علاقة ترمب بهذا الفصيل الأميركي الذي يعد بالملايين، وما يمكن أن يلعبه بداية من نهار الخامس من نوفمبر (تشرين الثاني)، أي يوم الاقتراع، وصولاً إلى ما بعد إعلان النتيجة، وما يترتب عليها من سلام مجتمعي أميركي داخلي، أو صدام أهلي خطر.
بداية نتساءل: “هل كان ترمب وراء إحياء شعار: لنجعل أميركا تصلي ثانية”، الذي أطلقه قبل بضعة أشهر من ترشحه رسمياً لرئاسة ثانية؟ وإلى أي حد يتماهى هذا الشعار مع شعاره السابق “لنجعل أميركا عظيمة من جديد”، هذا الذي بات منطلق حركة “ماغا” الكفيلة بتغيير شكل أميركا ولو بطريقة سلبية، لا سيما في وجود حركات مضادة من نوعية “أنتيفا” في مواجهتها؟
دعوا أميركا تصلي من جديد
في أواخر شهر مارس (آذار) الماضي، الذي وافق ما يعرف مسيحياً بـ”الأسبوع المقدس”، ذاك الذي يسبق عيد الفصح المسيحي، كان ترمب عقد للتو صفقة مع القضاء الأميركي استطاع فيها، وبشبه معجزة، خفض قيمة غرامة قضائية من نصف مليار دولار إلى 175 مليوناً، مما يعني أنه مدان وليس طهرانياً ملائكياً ضمن واحدة من قضايا مشابهة عدة.
في ذلك النهار خرج ترمب من إحدى كنائس فلوريدا، ورفع بيده اليمنى نسخة من “الكتاب المقدس” المغلف بالجلد البني الفاخر، وتالياً ظهر على شبكته المعروفة باسم “سوشيال تروث”، وكتب “أسبوع مقدس سعيد، دعونا نجعل أميركا تصلي مرة أخرى، ومع اقترابنا من الجمعة العظيمة وعيد الفصح، أشجعكم على حيازة نسخة من الكتاب المقدس. بارك الله الولايات المتحدة الأميركية”.
ووفقاً لموقع ترمب على “شبكته المجتمعية” فإن نسخة الكتاب المقدس التي يبلغ سعرها 60 دولاراً، تتميز بطباعة كبيرة الحروف وسهلة القراءة، كما أنه سهل الحمل، ويدعو إلى استكشاف كلمة الله في أي مكان، وفي أي وقت، يمكنك أن تأخذه معك إلى الكنيسة، أو حلقات دراسة الكتاب المقدس، أو العمل أو السفر أو أي مكان.
ولعل المثير في نسخة ترمب، وهو ما لا يوجد في أية نسخة كتاب مقدس آخر، ومن نسخة “الملك جيمس” أهم نسخة كتابية عرفها الغرب منذ وقت الطباعة حتى اليوم، هو خلط ترمب الدين بالسياسة في نسخته هذه، كيف ذلك؟
تتضمن نسخة الكتاب المقدس لدى ترمب، جوقة أغنية غرينوود “الله يبارك الولايات المتحدة”، إضافة إلى نص الدستور الأميركي ووثيقة الحقوق وإعلان الاستقلال وتعهد الولاء، “مما يجعلنا مجموعة ملائمة لأولئك الذين سئموا من الاضطرار إلى فصل كنيستهم عن دولتهم”.
هل كانت هذه المرة الأولى التي يعزف فيها ترمب على أوتار المسيحية؟ أم أنه فعلها من خلال رئاسته؟
الجميع يتذكر أن ترمب وفي عمق أزمة “حياة السود مهمة”، والتظاهرات التي ملأت شوارع أميركا عامة وواشنطن بخاصة، من جراء قتل الشاب الأميركي من جذور أفريقية جورج فلويد، كيف أنه قام بزيارة إلى كنيسة تعرضت للتخريب من جانب بعض المتظاهرين، ويومها بالفعل رفع نسخة من الكتاب المقدس أمام الكاميرات، وقيل وقتها إنه حمل الكتاب رأساً على عقب، ذلك أن كل ما يهمه كان التقاط الصورة وليس أكثر.
لم يتوقف الأمر عند فكرة بيع نسخ الكتاب المقدس، بل تجاوزها عبر مقطع فيديو مدته أكثر من ثلاث دقائق تكلم فيه ترمب عن “عودة المسيحية والصلاة للولايات المتحدة”، هل كان الرجل يخاطب شريحة كبيرة في الداخل الأميركي قادرة بالفعل على تغيير مسار الأحداث الانتخابية لصالحه عما قريب؟
ترمب وحصار أميركا العلمانية
يدرك ترمب أن أكثر من 60 في المئة من الأميركيين، و88 في المئة من أعضاء الكونغرس، يعلنون أنهم ينتمون إلى شكل من أشكال المسيحية.
في الفيديو عينه قال ترمب “الدين والمسيحية هما أكبر الأشياء المفقودة في هذا البلد، وأعتقد أننا بحاجة إلى إعادتهما لنا، وأظن كذلك أن هذه واحدة من أكبر المشكلات التي نواجهها، ولهذا السبب فإن بلدنا يسير في طريق الجنون، لقد فقدنا الدين في بلدنا”، وأضاف “يحتاج جميع الأميركيين إلى جعل الكتاب المقدس ومن جديد ركيزة حياتهم وكتابهم المفضل”.
والمعروف أنه في عام 2015 قبل أن يصبح ترمب رئيساً، سئل عن كتابه المفضل فقال إن الكتاب المقدس تفوق على كتابه “فن الصفقات”، لكن عندما طلب منه مراراً وتكراراً أن يقتبس آية أو أن يتحدث عن مقطع كان ذا معنى له، واجه صعوبة في تقديم أية أمثلة، وقال بدلاً من ذلك “لا أريد الخوض في الأمر، لأنه بالنسبة إلي مسألة شخصية للغاية”.
هل كان الأمر مجرد مشهد تمثيلي؟
من اليسير جداً للقارئ أن يربط بين أقوال المرشح الجمهوري ترمب وبين حياته الخاصة والقضايا الأخلاقية المتورط فيها عبر أربعة عقود من حياته، ومن هنا يبدو “حديث الأفك المسيحياني”، إن جاز التعبير، يليق به أكثر من أي حديث آخر، غير أنه من الصعب إنكار الدور الذي لعبه ترمب وباحتراف بالغ في تأجيج مشاعر اليمين المسيحي الخائف جداً من العلمانية، وكثيراً ما ادعى أن المسيحيين في الداخل الأميركي باتوا تحت الحصار.
أبعد من ذلك فإن الرجل الذي عجز عن أن يتلو بعضاً من آيات الكتاب المقدس يعمد في كثير من الأوقات إلى محاولة مشاغبة فكرة تأسيس أميركا، حيث انفصال الدين عن الحياة العامة ركن أصيل في دستور البلاد وتقاليد العباد.
ذات مرة وخلال أحد التجمعات التي كانت تمهد لخوضه انتخابات الرئاسة الحالية قال ترمب “لقد قام الآباء المؤسسون لأميركا بعمل عظيم عندما بنوا أميركا على القيم اليهودية – المسيحية، والآن تتعرض هذه الأسس للهجوم، ربما أكثر من أي وقت مضى”، وأضاف “ماذا يمكننا أن نفعل؟ نقف ونتحدث ونصلي كي يبارك الله أميركا مرة أخرى؟ وأنا فخور بتأييدكم وتشجيعكم على الحصول على هذا الكتاب المقدس، يتعين علينا أن نجعل أميركا تصلي مرة أخرى”.
هنا يمكننا التوقف قليلاً والتساؤل: هل أفرزت هذه الدعوات الإيمانية حالاً من الاستقطاب الروحي لدى ملايين الأميركيين المؤمنين، سواء كانوا من التيار الإنجيلي أم الكاثوليك، بخاصة في ظل موجات اليسار الديمقراطي ذاك الذي انحرف وانجرف بعيداً بالولايات المتحدة منذ عهد باراك أوباما الذي رفع شعار “الحب انتصر”، ذاك الذي اعتبره المسيحيون الراسخون في هويتهم الإيمانية نوعاً من الترويج للفاحشة في صفوف الشعب الأميركي والأجيال المقبلة بنوع خاص؟
ترمب وحماية الله في بنسلفانيا
مؤكد أنه نجح في هذا الإطار نجاحاً هائلاً جداً، وجاءت محاولة الاغتيال الفاشلة في بنسلفانيا لتقنع ملايين الأميركيين وبما لا يدع مجالاً للشك أن يد القدير هي التي حرفت الرصاصة كي لا تصيبه. لقد رأى العالم معجزة أمام أعينهم، هذا هو التبرير الذي يعم داخل صفوف المحافظين جدد وقدامى، مسيحيين وبروتستانت وكاثوليك، وينتشر بسرعة غير اعتيادية، وبيقين مطلق أن الله تعالى الذي أنقذ ترمب من رصاصات الفتى كروكس، هو عينه الذي ضمن السلامة قبل أكثر من أربعة عقود، وبالتحديد في مارس 1981 حين أطلق الشاب العاشق هينكلي نيران مسدسه على الرئيس الأميركي رونالد ريغان، ليلفت انتباه معشوقته الأميركية الممثلة الناشئة وقتها جودي فوستر.
يقول أصحاب هذا التيار إن القدير كان يعد ريغان لمهمة إلهية تمثلت في ما بعد في انتصاره على إمبراطورية الشر المتمثلة في الاتحاد السوفياتي، واليوم تتساءل جموع الأميركيين “ترى ما المهمة التي أناطتها السماء بترمب من جديد؟”.
منذ وقت محاولة الاغتيال ترسخت المشاعر الدينية التي مفادها بأن ترمب نجا بفضل تدخل إلهي، بسرعة في الحزب الجمهوري بعد إطلاق النار، إذ قدم ناشطون شعبويون وشخصيات على الإنترنت ومشرعون جمهوريون أقوياء تفسيرات دينية لهذا الحدث.
على سبيل المثال قال بن كارسون وزير الإسكان والتنمية الحضرية السابق في حكومة ترمب أمام حشد جماهيري “ليس لدي أي شك في أن الله أنزل درع الحماية على دونالد ترمب”.
أكثر من ذلك عمد فريق من غلاة المؤمنين بنصوص العهد القديم “التوراة”، إلى استعادة بعض الآيات من سفر أشعيا النبي، وفيه أن “أي سلاح يصوب ضدك لن ينجح”.
بدت الابنة المفضلة لترمب إيفانكا من الذين ربطوا بين الأرض والسماء في تلك الواقعة، فقد قالت “أظن أن روح والدتي كانت تحرس والدي في تلك اللحظات”، أما النائب الجمهوري من فلوريدا أنطونيو جيمنيز، ففي تصريح لشبكة “فوكس” قال إنه نجا بفضل الله، كما عزز النائب كوري ميلر الجمهوري من فلوريدا فكرة التدخل الإلهي واليد الحامية التي أبقت ترمب على قيد الحياة.
لم يكن رئيس مجلس النواب مايك جونسون بحال من الأحوال بعيداً من هذه النغمة، ذلك أنه اعتبر أن “الله حمى ترمب بالفعل”، وكتب عبر منصة “إكس” “إن الله وحده هو الذي منع حدوث ما لا يمكن تصوره”.
هل جاءت محاولة الاغتيال لتعزز من حضور جماعة “ماغا” الأميركية في طول البلاد وعرضها؟
مؤكد أن ترمب عرف جيداً كيف يمكن له أن يستغل الحادثة أفضل استغلال، فقد كتب صباح اليوم التالي للحادثة يقول “الله وحده هو الذي منع حدوث ما لا يمكن تصوره”. كان هذا القول مدخلاً رائعاً لحركة “ماغا” لأن تشيع في عموم البلاد، كيف أن “نعمة الله هي التي أنقذت ترمب من رصاصة جبان”.
هذا التدفق من حلفاء ترمب، يمثل في واقع الأمر لحظة استثنائية في السياسة الأميركية، وبالنسبة إلى ترمب يعني أنه لم يعد في عيون أنصاره مجرد زعيم حزب، بل شخص مختار ينظر إليه باعتباره مختاراً من قوة أعلى ربما لإنقاذ البلاد.
هنا يمكن لنا التساؤل “هل يذكرنا هذا المشهد بمشهد سابق تسببت فيه باربرا بوش، زوجة الرئيس بوش الأب، ووالدة جورج والكر بوش، بدفع ابنها إلى صفوف قيادة أميركا عندما نظرت له ذات مرة أثناء صلوات نهار أحد وأخبرته أنه شبيه بموسى النبي الذي قاد العبرانيين من مصر إلى أرض كنعان؟”.
عن ترمب وأنبياء أميركا الجدد
يبدو المصطلح صادماً “أنبياء ترمب”، وقد يراه بعضهم متجاوزاً، غير أن الكاتب الأميركي ماثيو د. تايلور يرى أنه يكاد يكون حقيقة معاصرة، ود. تايلور باحث في معهد الدراسات الإسلامية – المسيحية واليهودية في واشنطن، ومؤلف الكتاب القادم “العنف يأخذها بقوة: الحركة المسيحية التي تهدد ديمقراطيتنا”.
عبر مجلة “بوليتيكو” الأميركية، يقر د. تايلور بأن اغتيال الرئيس السابق دونالد ترمب رسخ يقيناً لا يتزعزع عند نسبة غالبة من الأميركيين بأن ما جرى هو بالحقيقة جزء من تحقق لنبوءات حديثة. ويؤكد في الوقت ذاته أن التيار الديني المسيحي الأميركي يشهد في الآونة الحالية حالاً من حالات التطرف الجماعي المدفوع بأفكار تنبؤية، مما يعني أن مصطلح “إنجيلي” يتغير بهدوء مع انتقال نماذج جديدة من اللاهوت والممارسات مما كان ذات يوم هامشياً إلى التيار الرئيس المسيطر في البلاد.
هل المشهد الأميركي الداخلي مثير وخطر في الوقت ذاته؟
من المهم هنا أن تكون فكرة النبوءة كما يعنيها د. تايلور واضحة لا سيما كيفية فهمها من جانب مجموعات مختلفة من الإنجيليين المسيحيين، وللتبسيط يؤمن جميع الإنجيليين (كل تياراتهم تنتمي إلى الطائفة البروتستانتية) تقريباً بالنبوءة الكتابية، أي فكرة وجود مقاطع في الكتاب المقدس تصف أو تشير إلى أحداث مستقبلية. غير أن الفصيل الجديد الذي يدعم ترمب من هؤلاء الإنجيليين، يؤمن بالنبوءة الكتابية، بمعنى أن هناك أجزاء من الكتاب المقدس تصف أو تشير إلى أحداث مستقبلية، بما يسمونه “النبوءة الحديثة”، وأن هناك أنبياء حقيقيين اليوم يتحدثون بكلمات الله مباشرة.
ونشأت هذه الأفكار بشكل خاص من داخل القطاع الكاريزماتي غير الطائفي للإنجيلية، ويمثل حافة نمو غير متبلور موصوف في العهد الجديد (الإنجيل) بالمقدرة على التنبؤ والتحدث بالألسنة، أي اللغات الأجنبية، ومن ثم صنع العجائب والمعجزات.
أيكون ما يحدث هذه الأيام في الداخل الأميركي نوعاً من الانقلاب في المفاهيم التقليدية للإيمان المسيحي عينه؟
غالب الظن أنه كذلك لا سيما بعد أن انتشر عالم الكنائس الأميركية المبهجة، والقساوسة التلفزيونيون ذوو الألسنة الفضية، والأنبياء من أصحاب المشاريع التجارية.
يحدث هذا كله في غياب المؤسسات أو الطوائف الشاملة، وما يربط هؤلاء الكاريزماتيين المستقلين هو نظام إعلامي مشترك وثقافة المشاهير، إذ يشكل الأنبياء الحصة الكبرى من هؤلاء المشاهير.
ونجح ترمب بالفعل في الاستحواذ على خيال الكاريزماتيين غير الطائفيين والمؤمنين بالنبوءة على نحو لم يفعله أي سياسي أميركي قبله، ولهذا كان من الطبيعي جداً أن يزداد جنون التنبؤات والأنبياء عندما مرت رصاصة القاتل على بعد أجزاء من البوصة من قتل ترمب، وفي غضون دقائق من ظهور الحادثة في الأخبار لجأت مجموعة من المؤثرين من الأنبياء الجدد إلى وسائل التواصل الاجتماعي ليزعموا أنهم تنبأوا بهذه الحادثة.
هل يمكن لسكان دول العالم المختلفة مجابهة مثل هذه الأفكار الحديثة والتيارات الدينية الأميركية المثيرة إلى حد الخطرة؟
قد يكون الآتي هو الصعب بعينه، والمتمثل في مواجهة أميركا أخرى عما قريب.
صحوة القومية المسيحية الأميركية
تبدو الولايات المتحدة الأميركية في طريق ما يمكن أن يعرف بأنه نوع من الاستعداد لبث “روح القومية المسيحية” في عموم البلاد حال وصول ترمب إلى البيت الأبيض مرة جديدة، وهو ما يتحدث عنه كالب إيكارما بتوسع واستفاضة عبر مجلة “فانيتي فاير” الأميركية، ويشاركه في الآراء عينها كل من ألكسندر وارد وهايدي برزييلا من “بوليتيكو”، وغيرهم من الكتاب الأميركيين، مما يعني أن هناك مخاوف حقيقية من صحوة قومية مسيحية ذات طبيعة مطلقة، بما يتجاوز أعمال السياسة النسبية.
في الأحاديث الدائرة نستمع إلى وجود بعض المؤسسات البحثية المؤثرة المقربة من دونالد ترمب، والساعية إلى تطوير خطط لغرس أفكار القومية المسيحية في عمق إدارته المقبلة.
يقود هذه الجهود راسل فوغت، الذي شغل منصب مدير مكتب الإدارة والموازنة في عهد ترمب خلال ولايته الأولى، وظل على مقربة منه. فوغت الذي يستشهد به كثيراً باعتباره رئيساً محتملاً للموظفين في البيت الأبيض الثاني لترمب، هو رئيس مركز “تجديد أميركا” للأبحاث، وهي مجموعة رائدة في تحالف محافظ يستعد لولاية ثانية لترمب.
ما الذي يعتقد فيه هذا الفصيل؟
باختصار يؤمن أنصار التيار القومي المسيحي في عموم أميركا بأن الولايات المتحدة تأسست كأمة مسيحية، وأن القيم المسيحية لا بد من أن تحظى بالأولوية في جميع مجالات الحكومة والحياة العامة، ومع تقلص مساحة الدين في البلاد وزيادة التنوع، تبنى فوغت فكرة مفادها بأن المسيحيين يتعرضون للهجوم، وتحدث عن سياسات قد ينتهجها رداً على ذلك.
الذين لهم دالة على قراءة الأوراق التي أعدها فوغت لولاية جديدة لترمب يدركون هول المشهد، لا سيما أنه يضع في مقدمة الآليات تطبيق قانون التمرد في مواجهة أعمال الشغب المرتقبة، رفضاً لتلك القرارات، التي ستنجم عن رفض إنفاق الأموال المصرح بها من الكونغرس على مشاريع غير مرغوب فيها، وهي ممارسة محظورة من المشرعين منذ عهد ريتشارد نيكسون.
وبوضوح أشد إننا نجد شراكة بل قرابة روحية، بين أفكار فوغت وقوميته القادمة، والمشروع الأميركي العملاق المعروف بـ”مشروع 2025″، الذي قامت عليه تيارات أصولية يمينية أميركية بدورها تحاول تغيير شكل أميركا المعاصرة، بل تكاد تحولها من دولة علمانية ولو نسبياً إلى دولة دينية بالمطلق، عبر رفت 50 ألفاً من الموظفين الفيدراليين أول الأمر، وتالياً حل وزارات التجارة والتعليم، انطلاقاً من أن الأولى هي من أغرقت البلاد في مفاهيم الاستهلاك الرأسمالي المغرق في دنيويته، أما التعليم فهو من يقود الأجيال الأميركية المقبلة إلى وهدة الجحيم، بخاصة عبر قضايا التفكك والتحلل الأخلاقي، كالمثلية وتغيير الجنس وحرية الإجهاض وما شابه وهو كثير .
هل سيستعين ترمب حال عودته للبيت الأبيض برموز من هذا التيار، بعضهم تعاون معه من قبل، وإن لم يدم هذا التعاون طويلاً؟
لكي يكسب ترمب مزيداً من الدوائر المحافظة لجأ في كثير من الأحيان إلى الإشارة لهؤلاء ورموزهم، إذ أشاد بفوغت وقال عنه “لقد قام بعمل رائع في إدارتي، وأنا على يقين من أنه سيقوم بعمل رائع في مواصلة سعينا إلى جعل أميركا عظيمة مرة أخرى”.
ويتحدث ترمب أيضاً عن إعادة مستشاره للأمن القومي السابق مايكل فلين، وهو مناصر صريح للقومية المسيحية لمنصبه، ويركز فلين حالياً على تجديد ما يسميه “جيش الله”، وهو يجوب البلاد للترويج لرؤيته المتمثلة في وضع المسيحية في مركز الحياة الأميركية.
هنا ينبغي على القارئ التساؤل “هل سيقف اليسار الأميركي الديمقراطي والليبرالي على حد سواء مكتوف الأيدي في مواجهة ما يصفه بعضهم بالعودة لملامح ومعالم الدولة الدينية الأوروبية في القرون الوسطى، حين كانت مباركة البابا للإمبراطور شارلمان كلفته ما يعرف بالكانوسا، إذ وقف ثلاثة أيام في البرد والثلج تحت شرفة الحبر الأعظم للحصول على بركته؟”.
أميركا المتشظية وصراع ديني سياسي
الجواب عن علامة الاستفهام المتقدمة يأخذنا إلى منطقة أكثر إثارة تعتمد على الأرقام أكثر من العواطف، ذلك أنه من المقطوع به أن الجانب الآخر من أميركا غير الترمبية سيعمد إلى مواجهة هذا النحو باعتباره شططاً منافياً ومجافياً للدستور الأميركي.
وفي تقرير لشبكة “بلومبرغ” كتبه فرنسيس ويلكنسون نجد أن تبني ترمب النزعة المسيحية البيضاء يتزامن مع تراجع حاد في الانتماء الديني في الولايات المتحدة، فوفقاً لمعهد أبحاث الدين العام قال ربع الأميركيين عام 2023 إنهم غير منتمين إلى أي دين، وغير المنتمين هي الفئة الوحيدة التي تشهد نمواً، ففي عقد واحد من عام 2013 إلى عام 2023 انخفضت نسبة الأميركيين الذين يقولون إن الدين هو أهم شيء، أو من بين أهم الأشياء في حياتهم إلى 53 في المئة من 72 في المئة.
هنا يعتبر مايكل إيمرسون عالم الاجتماع الأميركي بجامعة “رايس” أن الانخفاض في نسبة الأميركيين الذين يقولون إن الدين مهم في حياتهم أمر مذهل، بخاصة في فترة قصيرة لا تتجاوز 10 سنوات. “إن الارتباط الوثيق بين الدين ومجموعة من المواقف السياسية والاجتماعية بالنسبة إلى عدد من الناس إما يدفعهم إلى الابتعاد عن الدين تماماً أو يقودهم إلى النأي بأنفسهم عنه”.
هل يعني ذلك أن الصدام داخل أميركا لا بد من أن يحدث حال مضى تيار القومية المسيحية هذا إلى نهاية سيرته؟
الديمقراطية هي الضحية الأولى
تبدو أميركا في حال صراع محتقن بدرجة كبيرة، وهو ما يعضده د. تايلور من “بوليتيكو”، وعنده أنه سواء كنت تؤمن بالنبوءات الحديثة أم لا فإن الهالة المسيحية والارتباطات الدينية بترمب التي تعززها هذه النبوءات الحزبية المفرطة، هي خنجر موجه إلى قلب الديمقراطية الأميركية.
ولا يفترض أن ينتخب الأميركيون المسيح نفسه، بل يفترض أن ينتخبوا الرؤساء التنفيذيين والقادة الأعلى الذين تتمثل وظيفتهم في تنفيذ إرادة الشعب.
هل كان السادس من يناير (كانون الثاني) 2021 يوم الكونغرس إشارة رؤيوية لما يمكن أن ينتظر أميركا من غضب ديني مكبوت وحان وقت انفجاره؟
الكارثة لا الحادثة تتمثل في السيناريو التالي “إذا فاز ترمب فسيزعم أتباعه أنه حصل على تفويض إلهي لإعادة تشكيل أميركا وربما العالم من ورائه”، أما إذا خسر فقد تتحول هذه النبوءات مرة أخرى إلى مبررات لمهاجمة المؤسسات “الشيطانية” اليسارية والليبرالية التي تجرأت على تحدي مسحة الله ورؤيته لترمب.
إنها العاصفة المحلقة فوق سماوات أميركا في كل الأحوال، وعلى العالم متابعة ما يجري لخطورته خارج أميركا، كما الحال داخلها من غير مواراة أو مداراة، ومن دون أدنى مغالاة أو مزايدات.
https://www.independentarabia.com/node/602901/%D8%AA%D8%AD%D9%82%D9%8A%D9%82%D8%A7%D8%AA-%D9%88%D9%85%D8%B7%D9%88%D9%84%D8%A7%D8%AA/%D8%AA%D8%B1%D9%85%D8%A8-%D9%88%D8%A3%D9%85%D9%8A%D8%B1%D9%83%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A4%D9%85%D9%86%D8%A9
المصدر: اندبندنت عربية
دعم التيار اليميني الإنجيلي بأمريكا للمرشح الرئاسي ترامب خطوة متقدمة نحو التحول الى صراع ديني بين البروتستانتية والإنجيلية وبين النيوليبرالية والمؤسسات “الشيطانية” اليسارية والليبرالية، فهل ستحول نتائج الإنتخابات لمواقف دينية بالإضافة العنصرية تجاه العرق الأبيض.