يعد التغير سمة المجتمعات الإنسانية كافة، لكن درجة وطريقة التغير تختلف من مجتمع إلى آخر تبعًا لطبيعة العوامل الفاعلة في التغير، وهذا هو حال المجتمعات المستقرة إلى حد ما، فكيف الأمر بالنسبة للمجتمعات التي تعرضت للحرب الأهلية، كما هو حال المجتمع السوري، وبالتالي من الطبيعي أن تحضر خصوصية التغير فيها.
المجتمع السوري، ليس استثناء عن المجتمعات البشرية كافة، حيث تعرض لحرب مركبة إثر ثورة 2011، كان لها الدور الرئيس في تشظي الأنساق الاجتماعية وإضعاف أسوارها الاجتماعية والثقافية القيمية، مما استدعى بروز أنماط معيشية واجتماعية جديدة تتكيف مع الظروف التي أنتجتها الحرب.
أجبرت ظروف الحرب معظم السوريين على القيام بمجموعة من التغيرات القيمية الثقافية النمطية شملت أساليب الحياة المعيشية اليومية، كما شملت مساحة وحدود السلوكيات الشخصية، وأطر العلاقات الاجتماعية وطبيعتها ومفاهيمها، وترسخت تلك التغيرات في الأنماط والتفاعلات البشرية والنظم القيمية الاجتماعية من خلال سعي الشرائح الاجتماعية المتضررة بشدة من الحرب وتداعياتها الاقتصادية المعيشية إلى سلوك أنماط عيش قسرية وجديدة بهدف التكيف مع معطيات الواقع وضمن صراع شديد الضراوة، للبقاء على قيد الحياة، والتي قد تتشكل كثقافة قيمية (عادات وتقاليد) جديدة في المستقبل.
يعد البحث في أنماط العيش القيمية الجديدة في سوريا مسألة معقدة ومركبة لا يمكن البحث فيها من جانب واحد على أساس اقتصادي أو سياسي أو اجتماعي أو ثقافي بالمعنى الكلاسيكي للبحث، إنما تجتمع عوامل متعددة تتعلق بالتمثّلات والتصوّرات والعادات والتقاليد، أي أن نمط العيش في أي مجتمع يتبلور في زمان ومكان محددين، ولا ينبع من قرار مسبق من قبل بعض الأفراد، وإنما ناتج عن مجموعة من العوامل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المركبة التي لا يمكن فصل بعضها عن بعض، والتي تعمل بشكل غير ملاحظ على تنميط نوعية الحياة المعيشية كثقافة قيمية (عادات وتقاليد).
الحرب في سوريا وتداعياتها الاقتصادية المعيشية ولدت مجموعة من الممارسات الاجتماعية والثقافية الخاصة بالجوانب المعيشية والاجتماعية، والتي إذا ما استمرت زمنًا طويلًا تحولت شيئًا فشيئًا إلى عادات وتقاليد (ثقافة قيمية) سائدة في المجتمع السوري كما حصل في المجتمعات الأخرى التي تعرضت للحروب، وخاصة الأوروبية إثر الحرب العالمية الأولى والثانية، حيث كان على معظم الأوربيين التكيف مع النقص الكبير في الغذاء وكان عليهم التكيف مع نظام غذائي مقنَّن في زمن الحرب كأنماط معيشية ثقافية فردية والتي استمرت إلى ما بعد الحرب.
التحليل السوسيولوجي للتغيير في أنماط العيش الجديدة في سوريا يرسّخ القاعدة القائلة بأن نمط حياة المجتمعات لا يؤسس بقرارات إرادية مسبقة من قبل الأفراد، بل هو مبني اجتماعيًا ويجمّع مختلف المكونات: سياسية، اقتصادية، اجتماعية، أنثروبولوجية، ثقافية. فتناول وجبة ما من الطعام من قبل معظم أفراد المجتمع السوري بعينها وبطريقة مرتبة مسبقًا وشبه ثابتة، يمكن تصنيفه سوسيولوجيًا تحت عنوان “الممارسات الاجتماعية” التي تشير إلى فكرة أو تمثّل ما للحياة من قبل هؤلاء الأفراد والتي بدورها تعكس إرادتهم ورغباتهم، وهذا ما يحث على التفكير في مدى قدرة الممارسات الثقافية على قولبة نمط العيش.
هذه الممارسات الثقافية في هذا الموضوع تتطلب بحثًا أعمق في الممارسات الاجتماعية المركبة والمنظّمة والمرتبة والتي تترافق مع القيم والعادات والتقاليد والأعراف والتي تدل على فهم معين للحياة وعلى تصوّر لها وعلى تبنّي نظام قيمي معين.
تطرح الحرب في سوريا وآثارها إشكالية نمط العيش الجديد، الذي يرتبط بمجموعة من المفاهيم والتصنيفات المتباينة اجتماعيًا، حيث هناك ما هو كمي (مستوى العيش)، وما هو نوعي (أسلوب العيش)، حيث الاختلاف بالعادات والاتجاهات الاستهلاكية والسلوكيات التي تتباين ضمن كل طبقة اجتماعية بذاتها.
في التحليل السوسيولوجي يجب أن نقف أمام المؤشرات الكمية، التي تعبر عن تفاوت معيشي بين الناس، بينما موضوع نمط العيش يدخل في منظور التغيرات الاجتماعية، التي تتباين بدورها تبعًا لاختلاف الأوساط الاجتماعية وتباين الأماكن الجغرافية (ريف/مدينة، أحياء غنية/فقيرة وعشوائية، بادية، ساحل…الخ).
في دراسة استقصائية من قبل مركز حرمون للدراسات المعاصرة، بينت كيف انعكست تداعيات الحرب في المؤشرات الاقتصادية المعيشية انعكاسًا مباشرًا على الأنماط المعيشية القيمية، وعلى رأسها النظام الغذائي لارتباطه الوثيق بتوفر وقود الطبخ، ومن ضمن الاحتياجات الخمسة الرئيسية التي شكا السوريون من نقصها عام 2022 حيث تبين “أن نسبة 93% من السوريين لا يتناولون ما يكفي من الطعام، ونسبة 57% يتناولون أقل من ثلاث وجبات طعام في اليوم، ويفتقد (63%) منهم لوقود الطبخ والتدفئة”. و”44% من الأسر تستهلك أنظمة غذائية رديئة بانتظام، بسبب ضعف القدرة على التكيف مع انعدام الأمن الغذائي.
أدى الواقع المعيشي الجديد إلى تبدلات معيشية تمظهرت وفق أنماط اضطرارية لجأت إليها أولًا الشرائح الفقيرة والأضعف في المجتمع، في مسعى منها للتكيف السلبي مع الواقع الجديد، وضمن محاولاتها لتأمين بدائل متاحة، لكنها مع الاستمرار الزمني الطويل، وتنامي مستويات النقص، وانخفاض القوة الشرائية لليرة السورية، وعجز النظام عن تأمين مصادر الطاقة الرئيسية بالكمية اللازمة والسعر المناسب، وارتفاع مستويات الفقر إلى نسب تزيد على 90 في المئة من المجتمع، اتسعت كأنماط معممة، وأُجبرت شرائح المجتمع معظمها على اتباعها، ورُسخت كنماذج اجتماعية عامة مألوفة وشديدة الشيوع، بدءًا من أنماط السلوك الشخصي، وأنماط التغذية والتعليم والعناية بالمظهر والاستحمام وأنماط التنقل، والعلاقات الاجتماعية في العائلة الواحدة ومع الأقرباء والجيران.
أما التغير في المؤشرات النوعية (أسلوب العيش) فقد لوحظ بروز النظم الغذائية الجديدة التي قُسمت إلى ثلاث فئات: (جيدة، متوسطة، منخفضة) وذلك تبعًا لاحتوائها على الكميات الكافية من اللحوم والبروتين الحيواني والفواكه والخضار والحبوب والحلويات بما يحقق التوازن الغذائي المطلوب صحيًا، وبما تحتويه من السعرات الحرارية الكافية بحيث تبين أن 52% من أفراد العينة يكاد نظامهم الغذائي يخلو من اللحوم والبروتينات الحيوانية والفاكهة والحلويات، ويصنفون نظامهم الغذائي ضمن المستوى المنخفض، ورأى 32% أن نظامهم الغذائي يقع ضمن التصنيف المتوسط، لاحتوائه على اللحوم والفاكهة والبروتين الحيواني بكميات أقل من المطلوب، فيما رأى 16% أنهم يتناولون نظامًا غذائيًا جيدًا.
وبالتالي يمكن الحديث عن تغيرات حصلت في الجانب الكمي (مستوى العيش) والكيفي (أسلوب العيش)، الناتجة عن تداعيات الحرب، وهذا يؤشر إلى حصول تغير في كل من مستوى العيش وأسلوبه، أي نمط العيش كطريقة يعيش الإنسان بواسطة مجموعة من الأنشطة والممارسات التي تخضع أيضًا بالضرورة إلى عوامل اجتماعية أخرى (شخصية، أسرية، مجتمعات محلية، مهنية …الخ).
هذا النمط المعيشي الجديد انعكس في منظومة العلاقات الاجتماعية السائدة على صعيدي الشكل والمحتوى، فتهشمت في بعض أجزائها الروابط الاجتماعية والتفاعلية المباشرة، وتحولت في بعض أجزائها إلى أشكال جديدة، فانخفض التواصل الاجتماعي القائم على الزيارات الشخصية حتى مع المقربين، وتراجعت نسب المشاركة في المناسبات الاجتماعية، كالأفراح والمباركات بالمواليد والنجاح، وزيارة المرضى والتعازي، وقُلّصت الهدايا المرتبطة بها وتراجعت قيمتها المادية، وتوقفت الهدايا والمباركات عند البعض الآخر بشكل كلي لعدم القدرة على تحمل تكاليفها.
كذلك انعكس النمط المعيشي الجديد في إضعاف الروابط الأسرية التي تصدعت بقوة بفعل الحرب أولا، فساهمت قلة المداخيل بتعزيز الشعور المتنامي بعدم الأمان ضمن مكونات الأسرة الواحدة وتجريدها من أهم وظائفها الأساسية وهي الرعاية والحماية الاقتصادية لأفرادها، وأضعف الدخل المتدني باطراد الدور الوصائي للأبوين على الأولاد، وانعكس على طبيعة ومتانة العلاقة الزوجية، ما أسهم بتأجيج الخلافات وارتفاع حالات الخلاف في العديد منها على خلفية عدم القدرة على إعالة الأسرة وتلبية احتياجاتها. وارتفع منسوب القلق الفردي ضمن الأسرة الواحدة بشكل يعبر عن الضيق وعن مسعى الأفراد الذاتي لتلبية احتياجاتهم الخاصة، أو السعي لتحديد مصائرهم الشخصية بشكل إفرادي.
خلاصة القول إن البحث في مسألة أنماط العيش الجديدة كممارسة ثقافية قيمية يتجاوز ما هو كمي استهلاكي إلى ما هو نفسي شخصي واجتماعي، حيث للمرجعيات القيمية الاجتماعية (العادات والتقاليد) دور فاعل فيها. أي أن نمط العيش في المجتمع السوري بعد الحرب ليس نابعًا عن قرار السوريين كأفراد، إنما هو تكيف وتأثر مع مخرجات الحرب، التي تشير إلى تمثل للحياة الواقعية، والتي تشير إلى قدرة الناس على قولبة نمط العيش بما يناسب الواقع المفروض عليهم في سنوات الحرب، التي عادة تتشكل كقيم وعادات جديدة، وتشير إلى رؤية اجتماعية للحياة ويبنى عليها نظام قيمي معين.
السؤال الإشكالي الذي يحتاج إلى دراسات استشرافية للإجابة عنه بدقة علمية يتعلق بمدى استمرار هذه الأنماط الجديدة من العيش في المستقبل؟ وهل تقوم بتشكيل بنى اجتماعية وقيمية ثقافية مواكبة لها، وبالتالي تصيغ صورة اجتماعية قيمية جديدة للمجتمع السوري المستقبلي؟ أم تبقى هذه التغيرات في الحدود الزمانية والمكانية للحرب؟ بمعنى هل يمكن للسوريين العودة إلى أنماط العيش السابقة للحرب إذا ما تراجعت تداعياتها الاقتصادية المعيشية؟
الإجابة الأولية في المدى المنظور عن هذه الأسئلة وبناء على تجارب مجتمعات تعرضت لحروب مشابهة للحرب السورية تقول إن بعض التغيرات القيمية الثقافية في الأنماط المعيشية الجديدة باقية ومستمرة كما حصل في المجتمعات الأوروبية إثر الحرب العالمية الأولى والثانية.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا