أخذ أنتوني بلينكن غيتاره إلى كييف لرفع معنويات الأوكرانيين، فيما العرب محرومون على ما يبدو من أنغامه.
أُولي قدرٌ كبيرٌ من الاهتمام مؤخرًا لمهارات وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، في العزف على الغيتار، هو الذي سافر إلى كييف لإعادة تأكيد دعم الولايات المتحدة لأوكرانيا في حربها ضد روسيا. وأثناء وجوده هناك، خصص بلينكن بعض الوقت لزيارة إحدى الحانات، حيث عزف أغنية نيل يونغ Rockin’ in the Free World (عزف الروك في العالم الحر) مع فرقة محلية. وكانت الرسالة وراء اختياره لهذه الأغنية واضحة لا تتطلب الكثير من الشرح. لكن كل ما في سلوك إدارة بايدن مؤخرًا بشأن غزة يظهر إلى أي مدى يبدو مفهوم “العالم الحر” نسبيا لصانعي القرار في البيت الأبيض.
أحد أبرز الدروس المستفادة من الصراع الدائر في غزة هو أن الدول الرائدة في الغرب، وعلى رأسها الولايات المتحدة، تخلت عن المبادئ الليبرالية التي تتلوها على الدوام كلما ألقت المحاضرات على البلدان في مختلف أنحاء العالم. وقد صور الأميركيون الحرب في أوكرانيا على أنها معركة من أجل الديمقراطية والحرية ضد روسيا الاستبدادية، فكان من المنطقي تمامًا لبلينكن أن يختار الأغنية التي اختارها. ولكن لا يسع المرء سوى أن يتساءل: هل يرى الأميركيون أن بعض الشعوب جديرة بالحرية والقيم الليبرالية أكثر من غيرها؟ قد يجيب الكثيرون بـ”نعم”.
تمثل غزة بشكل أساسي مرحلة جديدة في العلاقات الدولية. فقد اجتمعت أمور كثيرة لتقويض الرؤية الليبرالية التي يقوم عليها النظام العالمي المهيمن منذ نهاية الحرب الباردة. وتشمل هذه المرحلة أولًا دولة، هي إسرائيل، انبثقت من الحرب العالمية الثانية في الكثير من الجوانب باعتبارها تجسيدًا لكل ما يناقض الدول المجرمة التي هُزمت في جحيم تلك الحرب. ولم يُعد اليهود، أكثر ضحايا النازيين وضوحًا، إحياء أنفسهم في دولة ديمقراطية (لإخوانهم في الدين على الأقل) فحسب، بل كانوا أيضًا في المرحلة الأخيرة من مسار نحو تقرير مصيرهم الوطني. وبدت إسرائيل من خلال وجودها ذاته بمثابة دحض لكل ما حاربه الحلفاء.
جرى تجاهل الكثير من الأمور ببساطة في تلك النسخة البطولية من التاريخ، ليس أقلها أن ما أسماه الإسرائيليون “استقلالًا” في العام 1948 بُني في الواقع على حرمان السكان العرب الأصليين، الذين سرعان ما طردوا من فلسطين، من الاستقلال وتقرير المصير. لكن ذلك لم يكن مهما كثيرا في السردية الغربية، ولذا لم يزعزع، بعد عقود من الزمن، الرضا عن انتصار القيم الليبرالية المزعوم في حقبة ما بعد الحرب الباردة، وهو الاستنتاج الذي وصفه فرانسيس فوكوياما، بثقة مفرطة، بـ”نهاية التاريخ”.
أتاحت أواخر تسعينيات القرن الماضي، وأوائل العقد الأول من القرن الحالي، للدول الغربية إضافة لبنة جديدة إلى صرح النظام الدولي القائم على القواعد الذي بَنَته، ولا سيما مفهوم التدخل الإنساني. وبدأ العقد بحرب دامية في البوسنة، وانتهى بحرب أخرى في كوسوفو، وكلاهما في منطقة البلقان. وواقع أن جهودا قليلة بذلت لإنهاء الإبادة الجماعية في رواندا، (وهو ما ندم عليه بيل كلينتون لاحقا)، إنما يشير إلى أن الدافع كان في المقام الأول احتواء الصراعات في أوروبا، المنطقة الواقعة في قلب النظام العالمي الليبرالي الجديد، وذلك بطريقة تعزز قيمَها للحؤول بشكل أفضل دون الرجوع المفترض إلى أزمنة أكثر ظلامية.
وكان للغزو الأميركي للعراق، وما ترتب عنه من نتائج سلبية كثيرة، الأثر الكبير في الإضرار بمصداقية النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة، حتى لو عارض واشنطن بشدة عدد من حلفائها الغربيين البارزين. لكن ما فعله الغزو هو أنه أظهر أن “الغرب الليبرالي” كان في الواقع مجرد محور أميركي يحيط به حلفاء أوروبيون ضعفاء على نحو غير معهود. فالولايات المتحدة هي التي حددت مسار السياسة الدولية كما أرادت، مهما تذمر حلفاؤها. ولم يخفَ على أحد أن الأوروبيين حاولوا سابقًا حل الصراع في البوسنة وفشلوا، إلى أن تدخلت الولايات المتحدة بنجاح في عهد كلينتون عقب مجزرة سربرنيتسا.
كم هو غريب إذن أن يكون التدخل الأميركي بعد حدوث مجزرة قد أسهم في تعزيز مصداقية النظام الدولي الليبرالي القائم على القواعد والمبادئ الإنسانية، في حين أنه، بعد وقوع مذبحة أخرى، أي تلك المرتكبة بحق الفلسطينيين في غزة، عكَس تخلي النخب الغربية بالكامل عن القيم الإنسانية. فعلى مدى ثمانية أشهر حتى كتابة هذه السطور، أقدمت إسرائيل على قتل مئات آلاف الفلسطينيين بلا هوادة؛ وجوعت سكان غزة وسمحت للعصابات المتطرّفة بمهاجمة قوافل المواد الغذائية والمساعدات بصورة منتظمة؛ وحاولت تنفيذ استراتيجية تطهير عرقي بمساعدة أوروبية، وعندما تعذر عليها ذلك، دمرت مناطق واسعة من القطاع لجعلها غير قابلة للعيش.
والأسوأ أن مؤيدي إسرائيل أخذوا بشكل عشوائي رقمًا صادرًا عن الأمم المتحدة احتسب حصيلة القتلى المعروفين في غزة عند أقل بقليل من 25 ألفًا، كي يجادلوا بأن الأرقام الصادرة عن وزارة الصحة الخاضعة لسيطرة حماس، التي قدرت عدد الضحايا بنحو 35 ألفًا، مرتفعة للغاية. وعلى الرغم من أن الأمم المتحدة أصدرت لاحقًا بيانًا نفت فيه قيامها بمراجعة تنازلية لإجمالي عدد الضحايا، لم يصدر أي تصحيح عن مناصري إسرائيل. فهدفهم كان واضحًا: لا يتمتع الفلسطينيون حتى بامتياز تصديقهم في ما يتعلق بضحاياهم. وكانوا يرددون فحسب ما قاله قائد العالم الحر الرئيس جو بايدن في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، حين شكك علنًا في أرقام الضحايا الفلسطينيين، قبل أن يُعلِم أحد كبار الدبلوماسيين في إدارته الكونغرس بأن عدد الضحايا كان على الأرجح أعلى من الرقم المُعلن.
على المرء الاعتراف بأنه لا مكان للعرب إلى حد كبير في التصور الليبرالي الغربي، ناهيك عن النظام العالمي الذي انبثق منه. فبينما رحبت الدول الأوروبية الغربية بمئات آلاف الأوكرانيين بعد الغزو الروسي لبلادهم في العام 2022، كاد الاتحاد الأوروبي أن ينقسم حين حاولت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل استقبال اللاجئين السوريين وحث الدول الأوروبية الأخرى على أن تحذو حذوها. ولكن حين استخدم النظام السوري الأسلحة الكيميائية ضد شعبه في آب (أغسطس) 2013، كشف استطلاع لصحيفة نيويورك تايمز/شبكة (سي بي إس نيوز) عن ردود فعل قاسية وغير متعاطفة إلى حد كبير. فعلى الرغم من أن 75 في المائة من الأشخاص المستطلعة آراؤهم أعربوا عن اعتقادهم بأن الرئيس السوري بشار الأسد كان مسؤولًا بالفعل عن استخدام هذه الأسلحة، عارض 60 في المائة من هؤلاء إطلاق عملية عسكرية للرد عليه. وفي المقابل، أظهر استطلاع صادر عن جامعة كوينيبياك في تشرين الأول (أكتوبر) 2023، بعيد هجوم حماس على إسرائيل، أن 76 في المائة من الناخبين الأميركيين رأوا أن دعم الإسرائيليين يندرج في خانة المصالح القومية الأميركية.
وبالعودة إلى تلك الحانة الصاخبة في كييف وأنغام الحرية المنبعثة من غيتار أنتوني بلينكن، نرى أن وزير الخارجية يتقمص هوية مختلفة أينما حل. فحين زار إسرائيل بعد 7 تشرين الأول (أكتوبر) بقليل، قال “أقف أمامكم كيهودي”. وفي كييف، أطل أمامنا كبطل حرية رخيم اللحن. لذلك، لا بد أن يتساءل المرء أي هوية سيتقمص بلينكن حين يزور غزة أو الخرطوم أو صنعاء، أو بالأحرى إذا فعل ذلك. هل سيحضر معه غيتاره؟ في هذه الحالة، قد يرغب في عزف ألحان أغنية I Never Loved You Anyway (لم أحبك أبدًا على أي حال) لفرقة ذا كورز.
*مايكل يونغ: محرر مدونة “ديوان”، مدير تحرير في مركز مالكوم كير-كارنيغي للشرق الأوسط.
المصدر: الغد الأردنية/(مالكوم-كير كارنيغي الشرق الأوسط)