لم تأت الأمم المتحدة بجديد عندما شبهت صور قطاع غزة بسطح القمر، سوى أنها رمزت إلى ذلك بما يحمله المشهد من بشاعة وخوف ووحشة، على عكس ما يمثله القمر في ثقافتنا العربية من كونه رمزًا للجمال، ووسيلة للغزل والمديح في أدبنا، من شعر ورواية وغناء، وأناشيد، من الجاهلية إلى ما بعد الحداثة. أما القمر كما يعنيه عند (الغرب) في غزة فقد صنعته آلة حرب غاشمة، متعمدة في ذلك تنفيذ مهمتها في هدم الذاكرة المكانية للفلسطينيين، في مخطط واضح لمسح المدن، وقتلها، والتنكيل بها، وبما تحمله من بصمات إنسانية تمتد إلى نحو ما يزيد عن ثلاثة آلاف سنة.
غزة، أو “سيدة البخور”، أو “غزة هاشم”، كما كان يطلق عليها، هي عند الفلسطينيين والعرب عمومًا، ليست مكان إقامة، هي حاضنة ذكريات العيش الفلسطيني بكل تفاصيلها، من لحظات السعادة إلى الولادة والعمل والتعب والبحث عن لقمة العيش، وكذلك ألوان الحلم والنجاح وانكسار الفشل وفراق الموت، هي ذلك التاريخ الذي انكسرت على أعتابه أعتى المطامع الاحتلالية لها منذ القرن السابع عشر قبل الميلاد وصولًا إلى إسرائيل.
ما يعني أن هذا التدمير لم يأت في سياق الأضرار المحتملة للحرب التي أعلنتها إسرائيل على غزة، حيث لا مبررات عسكرية أو حيوية في مناطق القصف التي يستهدفها الاحتلال، وهي أي إسرائيل، إذ لم تأت بجديد عما سبقها إليه كثير من الغزاة على مر العصور، إلا أن الجديد هو أن يكون هذا العدوان في مرمى عين الكاميرا التي توثق الجريمة، وتكشف عن وجه فاعلها، وهو يتحدى كل القوانين الدولية والمبادئ الإنسانية، كأنها حرب هاربة من زمن الهمجية، لتعلن عن هزيمة التحضر والمدنية والحقوق الإنسانية ومنظمات المجتمع المدني والمنظمة الأممية بكامل هيئاتها وتقاريرها التي بقيت حبرًا على ورق لا تبعد شبح الموت عن أهل غزة ولا تخفف من نيران مقتل مدنها.
على ذلك، فإن إسرائيل في حرب الإبادة ضد غزة تتقصد تدمير المكان، أو بالأصح إعدام المكان، لأنها في ذلك تعدم تاريخه، وتمحو ذاكرته، وتنفي عمرانه، وتؤسس فيه تاريخها الجديد، تمامًا مثلما قامت عام 1948 على أنقاض الشعب الفلسطيني، من نقطة الصفر مع الزمان والمكان، في تلك البقعة المسماة فلسطين.
وليس عبثًا، أو زائدًا عن الحاجة، ما قامت به إسرائيل لدى إعلان إقامتها قبل ست وسبعين سنة، بتدميرها أكثر من أربعمئة قرية فلسطينية، بحسب ما وثق ذلك المؤرخ الفلسطيني المعروف وليد الخالدي، لأن وجود فلسطين، في عرف الحركة الصهيونية، هو نقيض إقامة إسرائيل، ودلالة على زيف ادعاءاتها، لذا فإن إسرائيل لم تقم فقط باقتلاع معظم الفلسطينيين من أرضهم، وإنما قامت بتدمير مناطقهم، أو تغيير معالمها وأسمائها، في محاولتها احتلال المكان والزمان.
لذا فإن ما تفعله إسرائيل اليوم في قطاع غزة، منذ قرابة عشرة أشهر، وهي تشن حربًا وحشية غير مسبوقة على فلسطينيي غزة، هو امتداد لحرب الإبادة، التي تأسست عليها إسرائيل، بمحاولتها محو الفلسطينيين، ومحو المكان والزمان، في النكبة الأولى (1948)، من دون حاجة إلى ذلك، لذا نراها اليوم تفعل ما فعلته سابقًا، وهذا هو معنى تحويل غزة إلى منطقة غير صالحة للعيش، وتغيير معالمها الجغرافية والديمغرافية، مع تدمير عمرانها، بكل حمولته التاريخية، لتصبح حقًا كأنها سطح القمر، بخلوه من العمران البشري، والذكريات الإنسانية.
صحيح أن التاريخ يحمل سوابق كثيرة تدلل على همجية الحروب، وبخاصة تلك التي وقعت في قرون سابقة، من مثل تدمير المغول، بقيادة هولاكو، لمدينة بغداد، حيث اجتياحهم لشوارعها (1258)، وكما ذكرت كتب التاريخ لم يكتفوا بتدميرها، بل استباحوها وقتلوا كُلَّ نفسٍ صادفتهم فيها، وحرقوا ودمروا معظم عمرانها، ولم تسلم من ذلك مكتباتها، إذ تقول الرواية التاريخية إن مياه النهر اصطبغت بألوان الحبر، وأنهم استخدموا ما تبقى منها لتكون جسرًا يربط بين ضفتي نهر دجلة.
وكذلك في عصرنا الحديث، وإبان الحرب العالمية الثانية، حين قصفت الولايات المتحدة الأميركية اليابان بقنبلتين ذريتين (1945)، وقصف سلاح الجو الألماني النازي بالتعاون مع سلاح الجو الايطالي لمدينة “غيرنيكا” في إسبانيا (1937) بطلب من الجبهة القومية الإسبانية خلال الحرب الأهلية، والتي خلدها الفنان التشكيلي بيكاسو في لوحة شهيرة حاول فيها تمثيل هول المذبحة الناجمة عن القصف الجوي الألماني للمدينة، وإبقاءها شاهدة على الجريمة. ولعل هذا ما يذكرني بما يحدث في بلدي سورية، حيث يستعين النظام السوري بآلة الحرب الروسية والإيرانية لقصف مناطق معارضته، وفي المقابل تستعين بعض الفصائل والتنظيمات بآلة حرب تركية وأميركية، وغيرها، لمواجهة النظام، وكذلك من يعارضهم.
وعلى سبيل المثال، أيضًا، ثمة القصف الأميركي والبريطاني لمدينة درسدن الألمانية، الذي دمر المدينة بشكل همجي (1945)، رغم تباشير انتهاء الحرب العالمية الثانية، حتى باتت مثالًا يقاس عليه في التدمير “مثل درسدن”، وكذلك ثمة مثال قصف القوات الروسية لمدينة غروزني عاصمة الشيشان (1999).
في حالنا في العالم العربي، يمكن ملاحظة أن ثمة “مثل درسدن”، تدلل على التوحش، في هذا الإطار يأتي نموذج قصف حماة وطرابلس (مطلع الثمانينيات)، ثم قصف المدن السورية، دمشق وريفها، وحمص، وحلب، من قبل النظام السوري الحالي خلال مواجهته لثورة الشعب عليه منذ عام 2011، حتى باتت الصحافة الإسرائيلية، أو بعض الخبراء العسكريين، يتحدثون عن اعتماد هذا النموذج لتهديد الفلسطينيين، وتهديد لبنان، على أساس مماثل، وبدعوى أنه غريب عنهم، وهو ما تم في “نموذج الضاحية”، والمقصود به نهج إسرائيل في تدمير الضاحية الجنوبية لبيروت في حرب 2006.
فكرة قتل المكان، تدميره، ومحوه، وهو ما تفعله إسرائيل في غزة، هي دلالة على أقصى التوحش، وهي صنو حروب الإبادة، إبادة البشر والشجر والحجر، إبادة الجغرافية والتاريخ والعمران والهوية، باعتبار ذلك عنوان القيامة الجديدة، قيامة الطغيان، سواء أتى على شكل أباطرة، أو محتلين، أو على شكل أنظمة استبدادية.
المصدر: العربي الجديد