المرأة التي كانت وراء المهدي بن بركة

أحمد المرزوقي

بعد أكثر من نصف قرن على تغييب زوجها المهدي بن بركة (في باريس 1965)، أسلمت السيّدة غيثة بناني الروح لبارئها (10/7/2024)، من دون أن تقف على ظروف تصفية زوجها، التي طبقت أخباره الآفاق وملأت الدنيا ضجيجاً بالقيل والقال، وكثرة الاحتمالات التي لم تزد المتابعين المغاربة والعرب والأجانب سوى غموض يتكدّس فوق غموض، وإن كانت الحقيقة ظلّت تائهة بين فرنسا والمغرب والولايات المتّحدة وكيان الاحتلال الصهيوني، وهي الأطراف الرئيسية التي كانت لها مصلحة كبيرة في التخلّص من هذه الشخصية العربية والعالمية الفذّة، التي كان لها من القوّة والإشعاع والكاريزما ما جعلها تجمع حولها جلّ دول العالم الثالث، وذلك في أفق تشكيل قطب متراصّ لمواجهة الإمبريالية الغربية، التي كانت وما زالت تروم إخضاع العالم كلّه لجشعها اللامحدود.
ما زلت أذكر في بداية الألفية الثالثة تلك الحماسة منقطعة النظير التي جيّشت مشاعر آلاف من المغاربة حين حجّوا إلى مطار الرباط ـ سلا لاستقبال بشير بن المهدي بن بركة، وأسرته، العائدين من فرنسا إلى الوطن الأمّ، بعد اغترابٍ قسريٍّ دام حوالي ثلث قرن قضوه مرتحلين بين القاهرة والجزائر وباريس. كان يوماً مشهوداً صدحت فيه الحناجر بمختلف الأهازيج والشعارات، وثملت فيه القلوب طَرَباً من شدّة التفاؤل والاستبشار، معتقدة بسذاجة مدهشة أنّ مرحلة عصيبة قد ولّت بغير رجعة، وأنّ أخرى مغايرة قد حلت مع هذا الاستقبال الجماهيري العظيم المُبشر أخيراً بحلول طلائع الحرّية والكرامة والعدالة والمساواة. كيف لا، وواحد من أقرب أصدقاء الزعيم بن بركة، وهو عبد الرحمن اليوسفي، المحكوم بالإعدام في عهد الملك الحسن الثاني، أصبح وزيراً أول في رأس حكومة اشتراكية ستعمل من بين ما ستعمل، بحسب ما كان يُنتظر منها، على رفع اللبس عن ذلك الاختطاف “الهتشكوكي” (على طريقة المخرج ألفريد هتشكوك)، الذي دوّخ العقول وحيّر العالم. ونحن ننتظر بتشكيلتنا الرسمية مع المنتظرين المتحمّسين أن تحطّ الطائرة على مدرّج المطار، وفينا من احدودَب ظهره، وفينا من غارت عيناه وبرزت عظام وجهه، وفينا من كان يطقطق كطائر اللقلق بأسنانه ويمنعها من السقوط، وهو لم يستأنس بعد بطاقمه المعبأ عند “ميكانيكي الأسنان”. حدثت جلبة كبيرة بعدما انبرى مسؤول أمني رفيع المستوى لزجر بعض المناضلين لحملهم، في ما اعتقدت وقتئذ، على عدم احتلال أماكن بعينها، فثارت ثائرة بعض الحقوقيين، وسرت عدوى غضبهم كالنار في الهشيم في جمهرة من الحاضرين، ولولا أنّ الشرطي اشتمّ رائحة الغضب المتصاعد فسارع إلى إطلاق ساقيه للريح واحتمى بالدخول إلى أحد مكاتب الإدارة، لكان قد عرف سوء المُنقلب.

وهنا علّق أحد أصدقائنا على الحدث بسخرية: لقد أخطأ التقدير هذا وأولئك، فالأول تصرّف تصرّفه العادي المجبول على القمع من دون أن يدرك أنّ الأمور قد تغيّرت شيئاً ما، ولو مؤقتاً، والآخرون توهّموا أنّ الديمقراطية هبطت بالمظلة من السماء، وغاب عنهم أنّ سياسة المَخزن الذي يُمثّل الدولة العميقة في المغرب هي سياسة القصبة، تنحني عند اشتداد هبوب الرياح، ثم تعود إلى وضعها الطبيعي عند سكون العاصفة. وقد بيّنت الأحداث لاحقاً صدق تحليل صديقنا، وإن لم يكن سوى عسكري بسيط لم يدرس لا علوماً سياسية ولا تاريخ الثورات. وفي خضمّ انتظار وصول عائلة الشهيد بن بركة، انتقلت ذاكرتي لتسترجع حدثاً من الطفولة البعيدة، إذ كانت قبيلتنا بني زروال، الموجودة في شمال غرب مدينة فاس عند الحدود المرسومة بين الاستعمارين الفرنسي والإسباني، التي عشت بين جبالها ومراتعها الخضراء، مشتعلةً بالأحداث المتلاحقة، ومسرحاً في سنة 1955، لسلسلة من عمليات فدائية مُتكرّرة كانت تقوم بها فصائل من جيش التحرير المغربي ضدّ إمدادات قوافل اللفيف الأجنبي، التي كانت تأتي من مدينة فاس وتتوجّه إلى الثكنة العسكرية الكبيرة المنتشرة فوق جبل راس راس، حيث كانت السلطات الفرنسية تراقب قرية غفساي وما جاورها من غابات ومرتفعات وهضاب مترامية إلى ما وراء جبل “ودكة”.
وكنّا نحن تلامذة المدرسة نعيش على وقع تأثير دروس الوطنية التي كان يُلهب بها حماستنا أستاذنا الحاج الحسن إمريزق، كما كنّا قد تعوّدنا سماع طلقات الرصاص وهي تلعلع يومياً في ساحة الرماية الموجودة بمكان يسمّى برويز، حيث كانت الوحدات الفرنسية تتدّرب فيه على امتداد ساعات النهار. لكنّ خيالنا الصغير كان يزداد اشتعالاً وقلوبنا تتأجّج وطنية كلّما سمعنا عن كمائن تُنصَب هنا وهناك للعدوّ. وقتها، كنّا نتمنّى لو كنّا كباراً حتّى تتسنّى لنا فرصة المشاركة مع المجاهدين في دحر المُستعمر الغاشم. وكم كنّا نحترق كمداً لمّا كنّا نرى رأي العين الطائرات الفرنسية وهي تستهدف معاقل وحدات جيش التحرير المنتشرة في الغابات المجاورة بالقصف الهمجي الذي يحرق الأخضر واليابس، لا سيما بعدما اشتدّ أوار سعارها وهي تستشعر حتمية الرحيل. ولمّا استقرّت الأمور نسبياً بعدما رحل القسط الأكبر من الفرنسيين عن المنطقة، قدّم الزعيم المهدي بن بركة إلى مدينة غفساي للقاء بعض قادة جيش التحرير المغربي هناك، وتشرّف باستضافته الحسن إمريزق، الذي ساهم بدور فعّال في إقناع عشرات من أفراد “الكوم” المغربي بالالتحاق بالثوار بعدما كانوا يقاتلون تحت الراية الفرنسية. وما زالت جلبة سكان غفساي ونواحيها، التي حجّت للقاء الزعيم بن بركة، حاضرةً أمام ناظري وكأنّها أمس.
وتلاحقت الأحداث السياسية بسلبياتها وإيجابياتها، وأصبح اسم بن بركة اسماً عالمياً ذا شهرة تطبق الآفاق، ويستقبل استقبال زعماء الدول في العواصم التي زارها عربياً وعالمياً. لكن سرعان ما جاء حادث اختطافه بغتة كما يُختطف العندليب من فوق غُصنه، وهو يصدح بصوت رخيم مبشّراً طيور الغابة بفجر جديد. وما زال اختطافه سرّاً مغلقاً لم يقدر أحد على فكّ طلاسمه، إذ عاشت الراحلة غيثة بناني، التي كانت سنده ونصيره، على حلم الوصول إلى حقيقة اختطافه واسترجاع جثمانه، لكي يصبح للرجل قبر ترتاح فيه روحه. لكنّ الحلم لم يتحقّق بعد.

وقبل سنين قليلة، رافقت صديقَين لزيارة سيّدة تسكن في حي الليمون بالرباط. فدخلنا إلى فيلا متوسّطة من تلك الفيلات العادية التي لا يميزها شيء سوى أنّها نظيفة وبسيطة. وجدنا في استقبالنا سيدةً قد تكون بحسب ما بدا لي على عتبة العقد الثامن، تميل إلى القِصَر، أساريرها مُستبشِرة، حيّة الطلعة، أنيقة اللباس وخفيفة الروح، بادرتني بالتحيّة والسلام عليّ بحرارة وكأنّها تعرفني من زمان، وبادرتني قائلة: أهلاً وسهلاً. تفضّل.. تفضّل.. لقد قرأت مجموعتك القصصية “محنة الفراغ” (الدار البيضاء، 2012)، ولم أكن أتوقّع أن يتخلّلها كثير من السخرية والهزل. شكرتُها وأنا لا أكاد أصدّق أنّ مثلها قد يقرأ لكاتب هاوٍ مثلي. وبعد أن أكملنا واجب التحية والسلام على أختَين لها، كانتا معها تأخذان قسطاً من شمس الأصيل، اغتنمت فرصة وسألت صديقي، الذي كان معروفاً بتدبير المقالب: “من تكون هذه السيدة الطيبة؟”. فأطلق ضحكة عالية، وقال لي متهكّماً: “مغمورٌ يسأل عن مشهور”. وتابع “لقد أحجمت عمداً عن تعريفك بها مسبقاً حتى تكون مفاجأتك أكبر.. إنّها السيّدة غيثة بناني زوجة الشهيد المهدي بن بركة ورفيقة دربه الطويل”.
لتنطلق ذاكرتي في ربط الماضي بالحاضر، مستحضراً الصورة الملهمة للزعيم بن بركة التي ما زال طيب ذكراها عالقاً في أذهان الأجيال المتعاقبة في المغرب والوطن العربي، وعبر العالم رغم رحيلها المفجع منذ زمن بعيد. كم أسعدني ذلك اللقاء الذي لم أعرف كيف مرّت ساعاتُه حديثاً ونقاشاً وضحكاً، تعرفت فيه عن قرب إلى سيّدة كانت وراء رجل عظيم سمعتُ عنه ولم أره، لكنّ أثره بقي خالداً في مقابل نسيان أثر جلّاديه. رحمها الله برحمته الواسعة، وجعل مثواها ديار الخالدين.

 

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى