واجه الياس مرقص بقوة ميتافيزيقية الفكر القومي البعثي في فهمه للأمة، الأمة ليست جوهرا خارج الزمان والمكان، خارج التاريخ، بل هي عملية صيرورة عبر التاريخ عملية تحول، في قومية البعث وما شابهها تقول ” الأمة ” كما تقول ” جبل ” أو ” شمس ” لكن الأمة في الحقيقة كائن صائر , منتج , قابل للتغيير والارتقاء مثل قابليته للنكوص والانحلال .
هذه الرؤية السرمدية لمفهوم ” الأمة ” جعلت الفكر القومي لايعير أدنى أهمية لمسارات الانحطاط والتدهور في التاريخ العربي – الاسلامي خاصة في الحقبتين المملوكية والعثمانية .
ترتبط فكرة ” الأمة ” الجوهر برؤية ميتافيزيقية للتاريخ تجعل من التاريخ العربي الاسلامي أسطورة للتفوق , يصبح التاريخ مقدسا , يحمل خصوصية قومية عربية , خصوصية تضعه فوق تاريخ الأمم , كل الأمم تمتلك تاريخا يتكدس فيه المجد والانتصار مع الهزيمة والانحسار , العرب ليسوا استثناء , ومحاولة تقديس التاريخ يمكن أن تنتهي بصدمة لدى فحصه معرفيا في مختلف مراحله .
الهوية لاينبغي أن تكون عقدة لتحجب الواقع , واقع التجزئة والتأخر , بل هوية تاريخانية منفتحة على المستقبل , ألمانيا مع انبعاث الهوية الألمانية كان هناك انبعاث روحي ثقافي فلسفي علمي عام غمر أمة مجزأة متأخرة وكونها كشعب وذات .
من يقرأ نقد الياس للفكر القومي يحسب أنه لايقيم أي وزن للقومية العربية , بالعكس هو يريد دحض المفاهيم الميتافيزيقية , الأوهام , الخصوصية التي تضع مفهوم “الأمة العربية” فوق التاريخ ,كل ذلك وغيره لصالح قومية عربية واقعية معرفية منفتحة على المستقبل, هو يريدها رافعة وليس قيدا كسلسلة حديدية تشد للماضي وتمنع التقدم .
توقف الياس مرقص عند مفهوم الديمقراطية قليلا وتفحصه وتوصل بسرعة إلى المسألة التي نحن فيها اليوم , الديمقراطية لاتعني حكم الأكثرية للأقلية بدون حقوق الانسان أولا وبدون حقوق المواطن ثانيا .
الفرق بين من تسحره أو تأسره كلمة ” الديمقراطية ” وبين من يضع تلك الكلمة , ذلك المفهوم تحت الفحص ويفكر في جوانبه وفي الواقع هو في الفقرة السابقة لالياس مرقص .
عقلانية االياس مرقص قادته إلى اتخاذ مواقف نقدية من كل التيارات الفكرية – السياسية التي حفل بها عصره في سورية خاصة والمنطقة العربية , من اليسار الطفولي والشيوعية الستالينية والمقاومة الفلسطينية ومن القوميين وأضدادهم العدميين القوميين , مثل تلك المواقف النقدية العقلانية كانت فتحا جديدا في الفكر السياسي في سورية . لم يتخل الياس عن ” القومية العربية ” لكنه تخلى تماما عن القومية البعثية .
” لقد أسقط التيار القومي العربي طرفي المسألة الديمقراطية أي الليبرالية والشعب , فهو تصالح باكرا مع التقليد وطرد الحداثة
من برامجه ومناهجه ومنظوراته فكانت الليبرالية بالنسبة إليه مرتبطة بالاستعمار والامبريالية واستحضر المجتمع التقليدي بكل تأخره السياسي والثقافي والاجتماعي لمواجهة الخارج , في الوقت نفسه أسقط مقولة “الشعب” مستعيضا عنه بمقولة ” الجماهير ” الكادحة المناضلة العظيمة السائرة نحو دحر الصهيونية والامبريالية .
مع طرد مقولتي ” الشعب والليبرالية ” أسقط التيار القومي العربي مقولة الديمقراطية أيضا من سلوكه ومنظوراته ثم سقطت ثلاثية ” الليبرالية , الديمقراطية , الشعب ” ومع إسقاط هذه الثلاثية بدأ التيار القومي الاشتراكي يؤقلم مقولتي ” الجماهير ” , و ” الديمقراطية الشعبية ” وبذلك بدأ بتأسيس التوتاليتارية ف ” جماهير” التيار القومي المؤطرة في مؤسسات (الدول ) السلطانية المحدثة هي التي كانت سندا لمشروعات الاستبداد القومي وأنظمته التي قادت للدمار والخراب .
لم يمنع نقد الياس للفكر القومي ( البعثي ) من انحيازه التام إلى الأهداف القومية العربية فيقول : ” إيماني مطلق أن لامستقبل ولا حياة للشعوب العربية بدون الوحدة القومية لأمة العرب , وإيماني مطلق أيضا بأن المسيرة الطويلة الشاقة متعددة الوجوه ….هذه المسيرة تتوقف على الوعي , إذن على الفكر , في رأيي لاوحدة عربية بدون الديمقراطية والعلمانية , فإما أن تكون أمة العرب أمة مدنية حرة ديمقراطيةأو لاتكون ” هذا الانحياز لهدف الوحدة العربية هو ما يصنع الفرق بين النقد الذي يستهدف إزالة الجوانب الفكرية المهترئة عن الفكر القومي العربي وتسليحه بأدوات معرفية موضوعية بعيدا عن الايديولوجيا وبين من ينقد لاسقاط الرابطة العربية ذاتها , ووضع الفكر القومي العربي كله في سلة الايديولوجيا ثم قذفه للبحر .