في القضية الفلسطينية :
لم تكن هناك قناعة لدى أي من المفكرين الأربعة بفكر المقاومة الفلسطينية وممارستها السياسية والعسكرية . الياس مرقص خصص جزءا هاما من جهده الفكري لنقد الخط السياسي للمقاومة الفلسطينية , كتب : ” المقاومة الفلسطينية والموقف الراهن ” أيضا : عفوية النظرية في العمل الفدائي ” .
سحب القضية الفلسطينية من إطارها العربي إلى الإطار الفلسطيني كان التمهيد الأكثر فاعلية في تحجيم تلك القضية ومنح الأنظمة العربية الصكوك التي تحتاجها للهروب من المسؤولية تجاه تلك القضية .
أيضا جرى وضع الفلسطينيين وحدهم بمواجهة دولة حديثة وجيش متطور تدعمه الولايات المتحدة بقوة .
لم تكن هناك قناعة بحرب تحرير شعبية لايمكن المضي فيها لا من الداخل الفلسطيني المحاصر ولا من الخارج العربي المتخلف الاستبدادي والمجزأ .
كانت المسألة تتطلب مقاربة مختلفة , ربما كان حجر الزاوية في تلك المقاربة وقتها هو استعادة وحدة مصر وسورية , مثل تلك الدولة ستكون الطوق حول اسرائيل , من خلالها يمكن التخطيط للمواجهة ووضع تلك المهمة كمهمة قومية وليس كمسألة فلسطينية – اسرائيلية .
وهي أيضا : مرتبطة ببناء دولة حديثة قادرة على سد الفجوة العلمية – التقنية مع الغرب , والفجوة الحضارية الفكرية وفق ياسين الحافظ لاحقا .
في كتابه “عفوية النظرية في العمل الفدائي – نقد الفكر المقاوم ” يضع الياس مرقص يده على ما يسميه ضلال الفكر المقاوم بادئا بمفهوم ” الثورة الفلسطينية ” فالثورة عموما إما أن تكون ثورة شعب ضد نظام حاكم أو ثورة شعب ضد محتل أجنبي أو ثورة طبقة ضد طبقة سائدة ومستغلة , أما ” الثورة الفلسطينية ” فلا ينطبق عليها شيء مما سبق فليس هناك في فلسطين شعب ضد نظام بل أقلية عربية بعيدة عن أن تكون قادرة على هزيمة مجتمع ودولة اسرائيل وهذا التوصيف الواقعي هو بداية استبدال الشعارات بالحقائق .
” في فلسطين المحتلة سابقا , في اسرائيل قبل حزيران 1967 , المرشحون للثورة هم أقلية صغيرة من السكان , وأعداء ” الثورة ” ليسوا عساكر محتلين , أو طبقات محددة هي جزء من مجتمع وحسب بل دولة – مجتمع أو مجتمع – دولة , كيان اجتماعي – سياسي بالكامل ” مع ذلك فالياس لا يقول بإسقاط مصطلح ” الثورة الفلسطينية ” لكن بوعي مضمونه بما يحمله من فردانية يختلف بها عن الثورات الأخرى , وعي هذه الحقيقة ضروري لعدم سحب تجارب الثورات الأخرى بصورة آلية نحو ” الثورة الفلسطينية “
ما يود الياس مرقص قوله هو أن من الضرر البالغ إسقاط مفهوم الثورة بما في ذلك الثورة المسلحة نحو الحالة الفلسطينية دون وعي لخصوصية المسألة الفلسطينية وشروطها الواقعية , التاريخ اللاحق يثبت صواب ذلك , مجرد حمل السلاح والقيام بعمليات مسلحة دون رؤيا للهدف ودون استراتيجية للعمل يعني الوصول إلى طريق مسدود , أليس ذلك ما حصل حين انتهت تلك ” الثورة ” باتفاق أوسلو بعد كل تلك التضحيات العظيمة , فهل كان الأمر بحاجة لكل تلك التضحيات للوصول إلى اتفاق هزيل يمنح جزءا من الضفة لحكم ذاتي منقوص للسلطة الفلسطينية باشراف أمني اسرائيلي ؟
بلاشك فقد دخلت القضية الفلسطينية مرحلة تاريخية مختلفة بعد اوسلو , حماس اليوم تجرب ما جربته فتح سابقا , وليس بعيدا اليوم الذي تصل فيه إلى الطريق المسدود ذاته وتتحول إلى سلطة أوسلو أخرى في غزة , أليس ماتريده اسرائيل هو بقاء سلطتين مختلفتين في الضفة وغزة ؟
يقول الياس في الكتاب السابق : “بداية كل نظرية، وشرطها الأول، وما قبل الأول، إبعاد الأوهام… وبالمثل، طرد الأشباح، الحركة الفدائية ستعمل وتنمو وتعيش حتى النصر، حتى التحرير، بدون هذا الشطح. تحرير فلسطين، أكبر بكثير من العمل الفدائي… إن “حرب الأنصار” الفدائية الفلسطينية تنتظر نظريتها العسكرية، السياسية ـ العسكرية، التي ليست مجموعة من آراء غيفارا وجياب ولينين وماو تسي تونغ، ولا مجموعة صورهم، ولا عددًا من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ولا اجتماعات ما بين هذه وتلك”.”
لكن النظرية لم تكن لتوجد قط , ف” الثورة الفلسطينية ” هي الشعارات والوهم حول الذات , هي الذات نفسها المتحررة من شروط الواقع في تصورها عن نفسها والخاضعة لتلك الشروط خضوعا قاسيا فيما بعد كضريبة لتجاهل تلك الشروط في الوعي .
” “بدلًا من أن تكون لدينا نظرية واستراتيجية وتكتيك، وبدلًا من أن يكون لدينا تصور عن الواقع والمستقبل والاحتمالات والسبل والمراحل والهجوم والدفاع والسياسة والحرب يكون لدينا شعارات”
استراتيجية مواجهة الاحتلال الصهيوني لايمكن أن تكون محض ” فلسطينية ” تلك مهمة أكبر من أن تكون كذلك , هذا التفكير القطري الفلسطيني سوف يصل للعجز ثم اليأس والاستسلام , تلك هي باختصار وجهة نظر الياس مرقص وياسين الحافظ والتيار الفكري – السياسي الذي نحن بصدده .
أما ياسين الحافظ فقد وضع ماسبق بإطار نبوءة شهدنا لاحقا كيف تحققت حيث يقول : “من أخطر وأكبر الثغرات التي تلغم “الاستراتيجيات” الرائجة لتحرير فلسطين هي الزعم بأن من الممكن أن تقوم حرب فدائية تتنامى إلى حرب تحرير بمعزل عن الظروف السياسية السائدة في البلدان العربية المحيطة بإسرائيل… إن الدول العربية بتكوينها الطبقي والسياسي الراهن لا يمكنها أن تترك العمل الفدائي بعيدًا عن نفوذها أو رقابتها… فإما أن تخاف الدول العربية المعنية مضاعفاته، بسبب ردود الفعل الإسرائيلية والإمبريالية، أو تخاف من إفلات الزمام من يدها، فتعمل عندئذ على قمعه وتصفيته. وهنا يقع العمل الفدائي بين نارين من الأمام ومن الخلف: نار إسرائيل ونار الحكومات المعنية. والاحتمال الثاني الذي يترصد العمل الفدائي هو أن تتولى الدول العربية احتواءه ليكون طوع بنانها… إن أفق الحركة الفدائية الراهنة يقف عند الحدود التي تقررها أنظمة الحكم العربية.. ستضع الحركة الفدائية في طريق مسدود” (
الياس مرقص في ” حوارات غير منشورة” يمضي أبعد من ذلك , هو وفق مضمون مايقول يضع القضية الفلسطينية بإطار تاريخي , يقدم وعيا مختلفا ينطلق من الحقائق الصلبة للواقع , معترفا أن تغيير ذلك الواقع غير ممكن بضربة واحدة , ذلك مجرد حلم , أو إحلال الرغبات مكان الاستراتيجية :
” من أفضل ماقام به عبد الناصر حين وقف وقال ” ماعنديش خطة لتحرير فلسطين ” ومن أفضل ما عمله حين أيدت مصر وسورية عام 1955 قرارا اتخذ في مؤتمر باندونغ يتعلق بالقضية الفلسطينية وهو بالنتيجة تأييد لقرار التقسيم الصادر عام 1947 والعودة إلى حدود الدولتين العربية واليهودية وليس تحرير كامل التراب الفلسطيني ” يتابع الياس في ذات السياق : ” من يزاود فهو الذي يسير نحو الاستسلام …المزاودة جاءتنا بالخراب ….خربنا الاتجاه نحو الديمقراطية , أقمنا سجونا وقمنا بمجازر في شتى البلدان , انقسامات عربية لا طائل من ورائها , خربنا معيشتنا وساهمنا بتسليط نظام نهب لانهاية له علينا , الذي لايرى مافعلت المزاودة بالقضية الفلسطينية , وبالقضية الاجتماعية الاشتراكية وكم أصابنا من تدهور بسببها فهو بعيد بعدا مطلقا عن الواقع , وهو إما جاهل أو تاجر سياسي يكسب من المزاودة ويستخدمها في ضرب الأطراف بعضها ببعض “
لابد أن القارىء سيخطر بباله وهو يقرأ ماسبق ” حزب الله ” اللبناني , وتدميره للدولة اللبنانية تحت شعار مقاومة اسرائيل . لاستكمال جوانب الموقف من القضية الفلسطينية وفق المرحلة التاريخية المعنية بالبحث فالنقد السابق لم يكن بحال من الأحوال انسحابا من الساحة الوطنية – القومية , فإلى جانب النقد كان هناك التضامن والمشاركة في النضالات السلمية , والدعم السياسي للمقاومة الفلسطينية في مختلف المراحل .
بتاريخ 22/9/1962 نشر ياسين الحافظ في جريدة ” البعث ” التي كان جمال الأتاسي مشرفا عليها مقالا بعنوان ” قضية فلسطين بين الواقعية الثورية والثرثرة الديماغوجية ” اعتبر فيها الدعوة لأعمال عسكرية لتحرير فلسطين في ظل ميزان القوى غير المواتي للعرب بمثابة عملية انتحار وتسليم ما تبقى من فلسطين لاسرائيل وتوريط مصر في هزيمة عسكرية , يكتب ياسين الحافظ في كتابه ” تاريخ وعي أو سيرة ذاتية ايديولوجية – سياسية ” : ” وبالفعل فالتناقضات العربية منذ ذلك الحين وحتى حزيران 1967 وبخاصة التناقضات المصرية – السورية كانت تدفع في هذا الاتجاه , اتجاه القضاء على عبد الناصر من خلال حرب بين مصر واسرائيل ” . …. يتابع ياسين الحافظ : ” من هنا كنت مع سياسات عبد الناصر الاستراتيجية والتكتيكية تجاه اسرائيل , سياسات معتدلة , دفاعية , ذات نفس طويل , وكان يلفتني أن تكون اسرائيل على هذا القدر من العداء لعبد الناصر رغم سياساته هذه ازاءها , وفي الوقت نفسه لاتأبه بمن كانوا يرفعون ليل نهار شعار تحرير فلسطين , السياسة علاقات موضوعية , واسرائيل تعرف أين الخطر المحتمل وأين الخطر الوهمي ” .
تقترب رؤية ياسين الحافظ هنا إلى حد التطابق مع رؤية الياس مرقص كما في السرد السابق , ولا حاجة للتفصيل في أنها رؤية جمال الأتاسي وعبد الكريم زهور عدي أيضا فالخط السياسي للاتحاد الاشتراكي منذ تأسيسه عام 1964 لم يختلف عن رؤية عبد الناصر للقضية الفلسطينية في اي وقت .
ليبرالية الناصرية المتجددة :
في السابق تعرض البحث في أكثر من مكان لمسألة إعادة النظر في الموقف من المهام الليبرالية والتي تعاملت معها الثورات البورجوازية في الغرب , تلك المراجعة التي نمت خاصة بعد العام 1970 , ويتداخل ذلك مع وعي ما سمي ب ” الفوات ” المجتمعي العربي , ويقصد به التأخر في بنية المجتمع بغض النظر عن الأنظمة الحاكمة , وهو تأخر مركب في الفكر وفي بنية المؤسسات الاجتماعية بحيث تصبح أي محاولة للتغيير من فوق مهددة بتحولها إلى مغامرة نخبوية مرشحة لاكتساب الطابع الفاشي بغض النظر عن النوايا الأصلية .
لكن يبقى ضروريا إلقاء نظرة أكثر تفصيلا حول التوجهات الليبرالية المستحدثة ضمن الخط السياسي للمفكرين والسياسيين الأربعة .
في كتاب ” حوارات غير منشورة ” والذي يعتبر الكلمة الأخيرة التي قالها الياس مرقص في الفكر والسياسة بعد رحلته الطويلة نجد أن الياس يراجع بوضوح وحسم مقولات ماركسية رئيسية ولايتردد في القول إنها خاطئة ومنها الموقف من ” السوق ” و” الليبرالية ” :
في موضوع السوق والليبرالية يقول الياس مرقص ” نظام السوق هو نظام اختلاف البشر وتعدد منتجاتهم، وهذا النظام هو الذي يقيم مجتمعًا حقيقيًا، وهو الذي يضع قانون تسوية المصالح المختلفة، وهو نظام تتنافس فيه الكفاءات. والماركسية أخطأت حين نظرت إلى السوق وإلى الليبرالية وإلى العرض والطلب نظرة سلبية “
يلاحظ الياس مرقص هنا أن ” السوق ” و”الليبرالية ” أمران مرتبطان , لايمكن أن توجد ليبرالية بدون سوق , والليبرالية هنا هي الليبرالية الاقتصادية , لكن مرة ثانية الليبرالية الاقتصادية ترتبط بالليبرالية السياسية , هل يمكن أن توجد ليبرالية اقتصادية بدون ليبرالية سياسية ؟ واقعيا نعم ومثال الصين أمامنا وكذلك روسيا , لكن ليبرالية اقتصادية كهذه سوف تبقى تحمل معها تناقضها الداخلي , ومع الزمن لابد أن ينفجر ذلك التناقض .
تجد الليبرالية جذرها الاجتماعي في مفهوم ” السوق ” الاقتصادي ومن ذلك المفهوم يمكن العبور نحو الليبرالية السياسية الوثيقة الصلة بالديمقراطية .
يقول الياس مرقص في الكتاب السابق : ” في المجتمع الديمقراطي الحديث والمعاصر , رأسماليا كان أم اشتراكيا أم غير ذلك , لابد من أن يكون فيه أحزاب متعددة وتيارات متعددة , ولابد من أن يكون فيه حزب ديني ولكن ديمقراطي , وحزب قومي عربي ولكن ديمقراطي , وحزب سوري قومي لكن ديمقراطي , وحزب ليبرالي ولكن ديمقراطي , وحزب شيوعي ديمقراطي , واشتراكي ديمقراطي . “
الناصرية المتجددة لم تعد تعتبر الليبرالية فكرة عدوة , بل رافدا للفكر السياسي , أما الديمقراطية فهي ضرورة حيوية للمجتمع , وهي حسب مرقص لاتضع فيتو على أي تيار فكري سوى التزامه بالديمقراطية .
في ” اطلالة على التجربة الثورية لعبد الناصر وعلى فكره الاستراتيجي والتاريخي ” للدكتور جمال الأتاسي نجد الآتي : ” إن الكثير من الثورويين كانوا يحسبون أن تلك ” الليبرالية السياسية والثقافية ” ترتبط بمرحلة تاريخية لنظم اجتماعية أخرى ، تخطاها نضالهم الثوري الى مرحلة تاريخية متقدمة عليها. ولكن الفكر التاريخي، أو بالأحرى المفهوم الجدلي للتاريخ وفقاً للاشتراكية العلمية ، يضعنا أمام حقيقة، وهي أنه ليس بمقدور مجتمع من المجتمعات أو شعب من الشعوب أن يتخطى مرحلة من مراحل تطور المجتمعات الانسانية، ما لم يتمثل قيمها وانجازاتها وبذلك يقوى على تجاوزها والتقدم عليها، أي بعد توظيفها في بناء حركة تقدمه.“
محصلة ماسبق أنه لايمكن القفز فوق الليبرالية السياسية والثقافية وبالتالي فوق الديمقراطية , كثوريين حقيقيين لابد من انجاز تلك المهمة التاريخية للبناء عليها وفوقها .
اذن ما هو الفرق بين الناصرية العربية الوحدوية الاشتراكية وبين التيارات اليمينية في مسالة الليبرالية والديمقراطية ؟
هنا لابد من الاشارة أن اشتراكية الناصرية الجديدة لايمكن أن تكون مشابهة للاشتراكيات التي أسقطها التاريخ كالاشتراكية الستالينية مثلا .
الاشتراكية الناصرية تنبع من الموقف إلى جانب الغالبية من الطبقات الفقيرة ومتوسطة الدخل ضد تغول الرأسمالية والهيمنة السياسية لوسطاء الرأسمالية العالمية وأذرعتها المحلية .
بالتالي فانجاز المرحلة الليبرالية – الديمقراطية ضروري لكن ينبغي الا يكون على حساب مصالح غالبية المجتمع , ولا ضمن سياسة انعزالية يمينية تضحي بقيم العدالة والوطنية والانتماء للمصير العربي الواحد .