لا شكّ أنّ الحريّات، الفردية والجماعية، قيمة إنسانيّة سامية. إنّها طموح جميع المجتمعات البشريّة بمعنى ألاّ يستبدّ أحدًا بقرارات وخيارات هذه المجتمعات. ولا تنحصر الديمقراطية فقط بإجراء انتخابات «حرّة»، بل هى أوّلًا وأساسًا صون هذه الحريّات.
مشهد النظم الديمقراطيّة اليوم لا يدفعُ إلى التفاؤل على هذا الصعيد، رغم ادّعاء القائمين عليها أنّهم يحملون راية القيم البشريّة باعتبارها أفضل من نظم الاستبداد.
فى الولايات المتحدة، بلد الديمقراطية الأوّل، يتنافس مسنّان فى الانتخابات الرئاسيّة القادمة. أحدهما لا يملك صحيًّا مقوّمات القيام على مهمّته ولا يعرف أحدٌ من يأخذ القرارات فى إدارته، والآخر حاول فى الانتخابات السابقة التعدّى على أسس الانتخاب الديمقراطى. بكلّ الحالات يقوم جوهر المنافسة بين الاثنين على من يجمع القدر الأكبر من الأموال لحملته. فإلى أين ستفضى هذه الانتخابات مع تحدّى صراع دولى أطلقه الاثنان دون أفق مع روسيا والصين، وفى ظلّ تمنّع الفريقين الأساسيين على تأمين خدمة أساسيّة للمواطنين، ألا وهى الطبابة؟
وهكذا، فى خضمّ حملة الانتخابات الرئاسيّة، يُدعى مسئول دولة أخرى، وهو رئيس الوزراء الإسرائيلى، لإلقاء خطاب أمام مجلسى النوّاب والشيوخ الأمريكيين فى الوقت الذى يتحدّى فيه صراحةً برسالة إعلاميّة الرئيس الحالى المرشَّح للانتخابات.
إنّ أغلب أعضاء مجلس النوّاب (الكونجرس) يخضعون لمجموعات ضغط شركات السلاح الكبرى وغيرها، وبالتالى يصوّت بطرفيه، الديمقراطى والجمهورى، لصالح دعم إسرائيل ومعاقبة محكمة العدل الدوليّة ومنع الإدارة من وقف شحنة سلاح لإسرائيل رغم ارتكابها الواضح لجرائم إبادة. وعضوٌ فى الكونجرس يسائل مديرة جامعة شهيرة عمّا إذا كانت لا تحسّ بالخوف من لعنة ربّانيّة إذا لم تدعم الاستيطان الإسرائيلى؟!
بالتوازى تُجيِّش وسائل الإعلام، بقوّة المال، على أن يتمّ احتساب أى انتقادٍ لإسرائيل أنّه معاداةً للساميّة، دون إعطاء أى صدى للتجمّعات الحاشدة لليهود الأمريكيين المناهضين للجرائم الإسرائيليّة.
وعلى الطرف الأوروبى من المحيط الأطلسى، يُعلِن رئيسٌ فرنسى حلّ البرلمان بعد نجاح اليمين المتطرِّف فى انتخابات برلمان أوروبى، لا حول ولا قوّة كبيران له فى الواقع. ونجاح جاء نتيجةً للسياسات التى انتهجها، فيأخذ بلاده إلى أزمةٍ سياسيّة يُمكِن أن تنتهى بوصول هذا اليمين المتطرِّف إلى أغلبيّة برلمانيّة وحكم البلاد برفقته بالتزامن مع انطلاق الألعاب الأولمبيّة العالميّة فى باريس. هذا فى الوقت الذى يهدّد فيه هذا الرئيس بدخول حرب أوكرانيا مباشرة، بينما تغرق فرنسا بديونها السياديّة.
ووسائل إعلام تُشيطِن حزب فرنسا الأبيّة وليس اليمين المتطرِّف، لأنّ أعضاءَه ناصروا الفلسطينيين بل رفع أحد نوّابه علم فلسطين فى البرلمان. كلّ ذلك بحجّة أنّ ذلك يُعتَبّر معاداة للساميّة.
ووزيرة خارجيّة ألمانيا تبرِّر رفع المقاتلين الأوكرانيين لشعار النازيّة باعتباره أضحى رمزًا للحريّة اليوم!
- • •
هذا مشهدٌ يُحبطُ آمال سعى كثير من الشعوب نحو الديمقراطيّة. فإذا كانت الأمور تُختزَل بتحكّم وزيرين متطرّفين ورغبة رئيس وزراء بالاستمرار فى الحكم بأى وسيلة فى مآلات الديمقراطيّة الإسرائيليّة، التى كثيرًا ما يتمّ التغنّى بها أنّها الوحيدة فى الشرق الأوسط، ستكون النتيجة حربًا قذرة لا نهاية لها بتضافر حشد الجماهير حولها عبر الأكاذيب الإعلاميّة على أنّها وجوديّة.
الديمقراطيّة مريضةٌ اليوم. ومرضها يخلق مخاطر لصراعات داخليّة كبرى فى بلدانها وكذلك مخاطر للشروع والاستمرار فى حروبٍ مع بلدانٍ وشعوبٍ أخرى. وقد قالها يومًا الكاتب الفرنسى المناهض للاستعمار والاستبداد والحائز على جائزة نوبل للسلام، ألبير كامو: «انتبهوا. عندما تكون الديمقراطيّة مريضة، فإنّ الفاشيّة تأتى إلى جانبها، ولكن ليس لتفقّد أحوالها». وأضاف الشاعر والكاتب الألمانى بيرتولد بريخت «أنّ الفاشيّة ليست نقيض الديمقراطيّة، بل هى نتيجة تطوّراتها فى زمن الأزمات». ولا يُمكِن نسيان أنّ أدولف هتلر وصل للحكم فى ألمانيا عبر انتخابات.. ديمقراطيّة نتيجة أزمة كبرى فى بلاده.
ليست الديمقراطيّة هى حقًّا المريضة. فمرضها ليس سوى انعكاس لتحوّلات وأمراض أصابت الشعوب التى كانت نضالاتها السابقة قد أوصلتها إلى أسّسٍ ديمقراطيّة للتداول على السلطة. أبرز تلك الأمراض هى أنّ سياسييها ووسائل إعلامها وأصحاب القوّة الاقتصاديّة عملوا على إقناع مواطنيها أنّ سبب الأزمة هو «الآخر»، وبالتالى ينبغى منع الحريّات عنه. إنّ المرض الحقيقى هو تقبّل منع الحريّات عن هذا “الآخر”.
المجتمع الإسرائيلى هو المريض بقدر ما يمنع عن الفلسطينيين حدّهم الأدنى من الحريّة. والمجتمع الأمريكى هو أيضًا مريضٌ بقدر قناعته أنّ «عظمة أمريكا» لا تقوم سوى على فرض الهيمنة والفوضى على الشعوب والدول الأخرى وأنّ أزماته هى من صنع المهاجرين واللاجئين إلى أرضه التى تأتى أصلًا نتيجةً للاضطرابات التى أدّى إليها فرض الهيمنة. فكم هذا المجتمع بعيدٌ اليوم عن مبادئ الرئيس ويدرو ويلسون المناهضة للاستعمار وعن زخم تفكيك نظام الفصل العنصرى (الأبارتايد) فى جنوب إفريقيا.
المجتمع الفرنسى مريضٌ أيضًا. لقد تمّ إقناعه بأنّ مشكلة الضواحى الفقيرة تأتى من كون أغلبيّة سكّانها مسلمين وليس لأنّهم لا يجدون فرص عملٍ لائقة. وأنّ أزمته الاقتصاديّة هى نتيجة تدفّق المهاجرين، خاصّةً وأنّ أغلبهم مسلمين، وليس من سياسات خلق الفوضى فى الجنوب بوسائل «القوّة الناعمة» أو ربّما «الغليظة» كما فى ليبيا.
- • •
إنّ علامات هذا المرض تظهر أيضًا فى التبدّلات السياسيّة. فإذا كان «الديمقراطيّون» و«الاشتراكيّون» فى السياسات الداخليّة هم الأكثر دفعًا فى السابق للتوجّهات الاستعمارية والصهيونيّة فى الخارج، وكان «اليمين المحافظ» هو الأكثر عداءً للساميّة واليهود، أضحى اليمين المتطرِّف اليوم هو الحليف الأكبر لهذه التوجّهات. وهذا تحوّلٌ نوعى مثاله أنّ مفكّر فرنسى صهيونى يُعلِن أنّه يجب التصويت لليمين المتطرِّف ونبذ تحالف اليسار، فقط لأنّ أحد أحزابه أدان الإبادة الجماعيّة التى تقوم فى غزّة!
مرض المجتمعات ومرض ديمقراطيّاتها يُمكِن أن يأخذا إلى ما لا تُحمَد عقباه. إنّ برنامج اليمين المتطرِّف ورؤيته فى الوصول إلى سدّة الحكم يتمثّلان حصريًّا فى التهجّم على الحريّات والهروب إلى الأمام، وتفجير الصراعات الداخليّة والانطلاق فى حروبٍ خارجيّة عبثيّة. هذا الجنون ليس حُكرًا على الأنظمة الاستبداديّة ونتيجةً لأزماتها.
إنّ مرض المجتمعات يكمُنُ فى إغلاق أذهانها والهجوم على الحريّات وعلى الآخر. ومعها تعانى أنظمة الحكم أيضًا من المرض.. مهما كانت. والمعضلة أنها لا تستفيق من هذا الانغلاق إلاّ بعد دفع الثمن بشريًّا وباهظًا فى آن.. هذا، إذا استفاقت.
المصدر: الشروق