عندما يفشل بعض النخب في تغيير الواقع إلى ما يريدون، أو في حيازة مواقع متقدمة لهم في سير الحركة السياسية أو الاجتماعية أو الإعلامية أو في تحصيل التفاف شعبي أو نخبوي حولهم ؛ يتهربون من مواجهة ذواتهم والاعتراف بفشلهم ؛ فيوجهون سهام النقد والتشريح والتقريع للناس وللمجتمع وما فيهم من قيم وعلاقات وضوابط وروابط ويتهمونها بمسؤولية إعاقة المقدرة على التقدم لكونها من رواسب الماضي وتجلياته ..ثم يبدؤون مسيرة طويلة في التهكم من تلك ” الرواسب ” مطالبين بالتخلي عنها وتحرير العقل من آثارها النجسة ..ويسرفون في تمجيد بدائلها الغربية تارة باسم الحداثة وتارة باسم العلمانية وغالبا باسم التنوير والإصلاح الديني..وهم بذلك إنما يتخلون عن انتمائهم إلى مجتمعهم وهويتهم ؛ ويغرقون أنفسهم في أحاديث التقريع والهجاء وكأنهم يترفعون عن واقعهم بالهجوم السلبي عليه..متظاهرين بتفوق عقلي وفكري وحتى حضاري عن مكونات مجتمعهم التي يأنفون منها ومن ذيولها وآثارها..فيقعون في انفصال عملي عن مجتمعهم ويفقدون المقدرة على تلمس احتياجاته واستشعار نبضه وأحاسيسه..
وحيث أن كتابات كثيرة تتصدى لمواجهة الواقع فتتهرب من فهمه وتفسيره تفسيراً موضوعياً يتضمن تحديدا واضحا لأسباب ما يعيشه من ظواهر سلبية أو سلوكيات مرضية أو حتى مفاهيم غير متوازنة أو متزنة..وعوضا عن هذا الفهم الموضوعي الذي يتطلب معرفة عميقة وجهدا بحثيا مثابرا ونظرة فاحصة شمولية ؛ فإنهم يتخذون أسهل طريق للهروب من المسؤولية باتهام التراث وأنه السبب الذي تكمن فيه كل أمراض العقل العربي وتجلياتها السلوكية المتخلفة والمستبدة والذكورية…
فهل يعني هذا رفضا للنقد على مستوى كل التراكيب القائمة بكل جدية موضوعية؟؟ ابدا فهذا النقد مطلوب ويشكل رافعة لمحاولات التقدم والتنمية والنهضة..
أين تكمن المشكلة إذن؟؟ حينما يمارس النخبويون النقد السلبي وهو يقوم على ركيزتين اثنتين:
الأولى: أنه نقد استعلائي؛ فيمارسه ” المثقف مدعيا براءته من كل ما في المجتمع من أمراض وسلبيات..فلا يواجه ذاته ضمنا بل يرفعها إلى العلالي التي لا يرتقي إليها أحد غيره..
الثانية: أنه نقد لا منتمي. بمعنى أن صاحبه ينقد مجتمعا لا ينتمي هو إليه (نفسيا على الأقل).. فلا يحرص على التمسك بثوابت شخصيته التاريخية ومكوناتها ولا بقيمه الإنسانية والأخلاقية..
ولهذين السببين نرى سهولة ارتهان مثل هذا النخبوي لأحد أشكال النفوذ الأجنبي.. ليس ثقافيا فقط بل نفسيا ثم مصلحيا فمالياً. وهكذا يقع فريسة قوى معادية لمجتمعه طامعة فيه فيتحول مع الوقت من مثقف وطني لم يعرف كيف يمارس دوره في النقد الإيجابي؛ إلى نخبوي متثاقف يبحث عن شهرة أو وظيفة وجاهية أو موقع إعلامي بارز أو منفعة من نوع ما..
ومع أهمية وضرورة النقد الإيجابي الذي يمارسه مثقفون وطنيون ملتزمون بمقتضيات المصلحة الوطنية؛ فإن ضوابط محددة يجب أن تؤخذ في الاعتبار عند التصدي لتغيير الواقع بنقده إيجابيا:
1 – المعرفة السليمة بالمشكلات التي يطرحها الواقع الاجتماعي في إطار الزمان المحدد. حيث أن بعض المشكلات قد يتجاوزها الزمن ذاته فلا تعود طارئة أو ملحة وبالتالي لا تحتاج التركيز عليها في مستوى الأهمية..
2 – الأولوية: إن تحديد الأولويات في طرح المشكلات التي تحتاج حلولا، أو السلبيات التي تحتاج تركيزا للتخلص منها ينبغي أن يصنفها جميعا في ترتيب من الأولويات يضع لها سلما تصاعديا يبدأ من أكثرها خطورة وإلحاحا. وعلى ضوئها توضع المشكلات الأخرى في ترتيب تسلسلي حسب إلحاحها وخطورتها. فوقف النزيف في مريض ما يجب قطعا أن يسبق أية معالجات أخرى حتى لو كانت جراحية..وهكذا..حيث لا تستوي المشكلات أو السلبيات في حدتها ومدى فعالية تأثيرها السلبي الآني على عموم الناس. فلا يعقل أو يقبل أن لا توضع أولويات للمشكلات تبعا لشدة تأثيرها السلبي المعيق..
3 – الشمولية: بحيث أن المشكلة تطال عددا كبيرا من أبناء المجتمع وليس فئة قليلة منهم. وكل مشكلة شاملة تحتاج أولوية متقدمة على أية مشكلات فئوية..
4 – إن كل نقد إيجابي بهدف التغيير والتقدم إلى الأمام، سوف يصطدم بقوى وفعاليات من أبناء المجتمع تملك من القوة والسلطة والتأثير وليست لها مصلحة في التغيير. ينبغي تحديد هذه القوى وفهم آليات تأثيرها ومدى ما تمتلكه من نفوذ وتأثير وسلطان؛ وذلك بهدف معرفة كيفية مواجهتها والتصدي لمحاولاتها الحثيثة بمنع أي تغيير إيجابي. وهذا يشكل حيزا مهما في عمليات النقد ومواجهة المشكلات والتصدي لحلها..
5 – إن النقد الإيجابي البناء يقتضي وضع تصورات بديلة وتحديد الوسائل اللازمة للتغيير في ذات الوقت الذي يسهب في تشخيص المشكلات وأعراضها السلبية..
إن الاكتفاء بالإسهاب في استعراض سلبيات ومشكلات المجتمع؛ دون البحث وتحديد كيفية مواجهتها؛ سوف يساهم في تضخم تلك السلبيات وإضعاف ثقة الناس بمقدرتهم على حلها مما يفتح أبوابا واسعة للإحباط النفسي العام الذي يزيد في صعوبات الواقع ويضعف إمكانيات تغييره..
6 – تحديد القوى والأشخاص والأطر الاجتماعية التي يقع على عاتقها حساب النقد الإيجابي والتغيير الفاعل..أما الاكتفاء بالقول : ينبغي ويجب ومن الضروري ومن اللازم وغير ذلك من تعبيرات مشابهة ؛ دون تحديد الجهات المعنية صاحبة المصلحة وصاحبة المقدرة على التغيير والمستعدة لتحمل أعبائه وتكاليفه ؛ يبقى حديثا عاما منقوصا لا ينفع في تغيير أية وقائع سلبية..
7 – التدرج الزمني: حيث يقتضي الأسلوب العلمي في العمل وضع برنامج للتغيير يضع في الحسبان ضراوة الواقع وما يتوفر من إمكانيات بشرية وعينية لتغييره.وعليه فإن برنامج العمل يجب أن يكون مرحليا يحدد لكل مرحلة زمنية مهماتها العملية التنفيذية بحيث تؤدي جميعا إلى النتائج المطلوبة..
8 – التكامل: قد لا تستوي مقدرة المثقفين في جميع المراحل في التشخيص ووضح الحلول ومن ثم في تنفيذها..وهذا يجعل امتلاك أطر مؤسساتية تجمع الإمكانيات وتبلورها في نطاق تكاملي منسق ومنضبط ؛ أمرا في غاية الأهمية..
عدا هذا يبقى أي نقد سلبي حتى لو كان صائبا؛ مجرد صرخة لا تجدي ولا تنفع.. إن لم تكن مؤذية..
فهل تتحقق لنا مثل هذه المقدرة على ممارسة النقد الإيجابي الفاعل؟
المطالبين بالتخلي عن الإرث التاريخي بشعار تحرير العقل من آثاره مسرفين في تمجيد بدائله الغربية تارة باسم الحداثة وتارة باسم العلمانية وغالبا باسم التنوير والإصلاح الديني..وهم بذلك يتخلون عن انتمائهم إلى مجتمعهم وهويتهم، قراءة موضوعية وضوابط النقد الإيجابي الذي يمارسه المثقفون الوطنيون الملتزمون بمقتضيات المصلحة الوطنية.