تمشي في شارع فوزي باشا، جامع الفاتح على يمينك، ستجد على يسارك بعد مئات الأمتار جادة مائلة للمشاة فقط، اسمها جادة “الخرقة الشريفة” في نهايتها على بعد خطوات قليلة، يوجد جامع يزوره الآلاف سنوياً لأنه يعرض بقايا من بردة رسول الله الكريم، المهداة إلى أويس القرني، إذ تعرض في رمضان من كل عام، وللخرقة حكاية مفصلة يمكن أن تجدها في مظانها.
ستجد كذلك الكثير من المحلات السورية والمطاعم العربية التي اختبأت تحت حروف أعجمية. بقي عمالها يتحدثون العربية لزبائن عرب غالباً، ويقدمون أكلاً أو مشروباً عربياً. لغتهم الأم العربية، باتت تشكل عبئاً على وجودهم بعد أن كانت فخراً. وما يزيد في جرح أرواحهم أن استعمال الحروف اللاتينية لا إشكال فيه!
عاش هؤلاء حلماً جميلاً قبل سنوات، حيث حسبوا أن هذه الأرض سترحب بهم ثانية، كيف لا يعتقدون بذلك، ومقتضيات التاريخ والمصالح المشتركة، وربما شيء من أصول الضيافة، تقتضي ذلك! وجد هؤلاء الضيوف أنفسهم فجأة، أرادوا أو لم يريدوا، جزءاً من خلافات داخلية، ليسوا طرفاً فيها، ليغدو حضورهم المنتج والمختلف موضوع مساومة في بازار السياسة.
في أول نزلة “الخرقة الشريفة” على اليمين أكثر من مقهى، لا تجلس فيها، انظر إلى يسارك، فأنت مدعو للدخول إلى مكان هارب من سياق الكراهية، حيث يمكنك أن تتصفح الكتب بحروف عربية. لا تنزعج إنْ وجدت أن الإعلان عن المكتبة ليس بالحروف العربية الكبيرة كما كان قبل سنوات، تلك مقتضيات الالتزام بالقوانين الإدارية!
إنْ كان جانب من المصادفة قد فعل فعله في إنشاء هذه المكتبة في إسطنبول، كما يقول منشئها؛ فإن الإصرار والإيمان بالفكرة بعد التجربة، هو ما جعلها تستمر. ولو كانت النظرة إلى صناعة الكتاب نظرة تجارية محضة ربما لأعيد النظر بوجود هذه المكتبة أكثر من مرة، حيث تعرضت المرة تلو الأخرى لمحاولات منسَّقة لإغلاقها. قد تكون “عداوة الكار” أو عداوة “الاتجاه الفكري” أحد الأسباب!
سيستقبلك شاب بملامح مصرية واضحة أو سورية، لا تكذِّب من ينظر إليها، يبتسم بحذر ويجيب عن طلباتك ليختصر الوقت، وإنْ وجدك من القراء المحترفين سيقول لك: الأرض أرضك والديار ديارك!
وأنت تمشي بين رفوف الكتب ستستمع إلى ندوة حوارية فكرية، دائمة الانعقاد في القسم الخلفي من المكتبة، لا مُسيِّر لها إلا اهتمامات من يجلسون فيها، ستجد هناك الناشر العربي “نواف القديمي”. ناشرٌ بأخلاقيات من زمان مضى، يقرأ ويحاور ويتابع تفاصيل المشهد العربي!
هذا القسم من المكتبة ندوة مفتوحة للضيوف والزائرين من المثقفين العرب ستجد “الكويتي واليمني والفلسطيني والسوري والعراقي والسعودي…”، تجمعهم أحاديث من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال، من غزة إلى العراق إلى سوريا، يتعارفون من جديد ويكتشفون مشاركاتهم، ويكسرون الصور النمطية التي لا يزال قسم كبير منها هاجعاً في الذاكرة المشتركة، رغم كل ما حدث من تغيرات، يقول لك عاقد الندوة: ليست القراءة وحدها سبباً للتعارف وكسر الجمود بل الحوارات والنقاشات وجهاً لوجه تجعلنا نفهم بعضنا أكثر، سوء الفهم وسوء القراءة إشكالٌ كبير.
لا تفتش كثيراً في خلفيات من يجلس هناك، هم مجموعة ممن يشاطرونك الاهتمام، هذا كاتب وهذا صحفي وهذا سياسي وآخر مترجم. كذلك هناك رجل صامت، تعب من الحكي، قد تكون أنت نفسك، يتأمل ويكتفي بجملة أو جملتين، كأنه يقول: يا سعدهم ويا “بختهم”، لا يزالون يمتلكون تلك الرغبة العالية بالحكي، الشغف بالحكي ليس نافلاً أو حالة عابرة!
باتت هذه المكتبة بموقعها المتميز لدى كثير من الزائرين لاسطنبول علامة دالة على المدينة وأحد أهم الممكنات الرئيسية المتبقية للقاء المثقفين العرب، دون تحضيرت مسبقة، حين تدخل إلى هذا المكان ستنسى أن اسطنبول نقطة تهريب أو مكان لزراعة الشعر أو الحصول ابتسامة هوليود!
تبدو جلسات الحوار اليومي أقرب ما تكون إلى “منصة جس نبض” و “استطلاع رأي” عما يشغل المثقف العربي هذه الأيام، إذ تكشف تلك الجلسات الحوارية أن المئات مروا من هنا: منهم من سافر وحصل على الجنسية في البلاد الجديدة ومنهم من نقل عنوانه إلى عاصمة أخرى. هذه الطاولة الحوارية اليومية شهدت معظم تحولات التغيرات الفكرية التي مر بها العرب في السنوات الأخيرة، تنقل نبضهم وتكشف عن تبدل أحاديثهم. يبقى الكتاب والحديث الثقافي والسياسي والاجتماعي والتحليل الأكثر حضوراً.
وكيف لا تكون مكتبة الشبكة العربية كذلك، وصاحب المكان مولع بيوميات المدن العربية، حيث يحب أن يعيش الحياة قبل أن تتحول إلى تاريخ جاف يكتبه المؤرخون الرسميون. وهو الذي كتب بأسلوب قريب إلى القارئ، ثلاثة كتب، مستذكراً أنه، وقبل كل شيء، صحفي يقرأ ما يراه ويتفاعل معه بعيون مختلفة عن الآخرين. وهذه الكتب هي: يوميات الثورة من ميدان التحرير إلى سيدي بو زيد. وأوراق مغربية: يوميات صحفي في الأمكنة القديمة. وجداريات بيروتية ولوحات قاهرية: يوميات صحفي في أزمنة التحول.
يحدثني صديقٌ لا ينقطع عن الندوة والمكتبة: هذا المكان هو الجزء الحي المتبقي من “إسطنبول أيام زمان” ولو فقدنا هذا المنتدى المنعقد كل ظهيرة، لفقدت المدينة الكثير من دلالاتها. “أيام زمان” لدى صديقي تعني السنوات القريبة الماضية لأن إسطنبول نزفت معظم زائريها من المثقفين والكتاب والمهتمين بالشأن العام بعدما آلت إليه أحوالها.
إنْ مللتَ أو أردتَ أن تنهي مقالك، أو تنفرد مع صديق بحديث خاص، لا مشكلة يمكنك الصعود إلى الطابق الثاني، أو أن تذهب لتجلس في أحد المقاهي القريبة، لا ضرورة للتصريح إلى أين أنت ذاهب، لا أحد ينزعج من أحد أو يتدخل في تفاصيل الآخر إلا بمقدار ظنه أنه سيفيده من خبرته في التفاصيل الإسطنبولية.
على عادة أهل نجد، فإن “الناشر العربي نواف القديمي” يتأمل أكثر مما يحكي، يحافظ على نبرة صوت واحدة فيها من اللطف والعمق والسعة والصبر ما فيها. قد ينسحب من الجلسة في أي لحظة دون أن يثير انتباهك، لا بد من متابعة تفاصيل عمله. فإنْ كانت الجلسة بالنسبة إليك فرصة للنقاش أو لقاء الأصدقاء، فإنها بالنسبة إليه مكان عمل ومتابعة دؤوبة. خاصة أن الجلسة قد تتحول إلى فكرة كتاب أو فرصة لترجمة كتاب، أو حوار بأصوات عالية. فتحضر القهوة والشاي والماء والعجوة المصنوعة بالسمن العربي إلى مائدة النقاش المفتوحة. إنها فرصةٌ ملائمة لتستذكر الكرم العربي كقيمة ثابتة. حيث ستشرب قهوتك أو شايك مرة واثنتين وثلاثة، بنكهة ثابتة لا تتغير، مصحوبة ببشاشة عربية لا تنظر إلى محفظتك كما هو شأن معظم المحلات المحيطة.
المكتبة، من جهة أخرى، عنوان ثابت لكتاب تتركه لصديق، لم يتوافق وقته مع وقتك في منطقة الفاتح، حيث تعطيك تلك المكتبة ذرات من دفء عربي هارب من الرياض ونسمات نجد، إذ بات المرور في مضارب الشبكة العربية لكثيرين، يزورون اسطنبول بشكل دوري مكاناً للقاء الأصدقاء وتبادل خبرات الحياة ويومياتها بأجندة وقت مفتوحة. وكذلك فرصة للاطلاع على جديد النشر العربي، والاطمئنان على بوصلة الأحاديث، وما يشغل المثقفين العرب في إسطنبول.
لا مانع عند إدارة هذا المشروع أن تختار كتاباً ما، فتجلس لتتصفحه أو تقرأ جزءاً منه، حيث يؤكد أن سعادته في أحد جوانبها هي في أن يبقى ذلك المكان بوابة معرفة وقراءة وحوار. بل أنت مدعو لأن تدخل في حوار هادئ معه إنْ أردت عن اهتمام أصيل له يتعلق بكتبه التي أنتجها وشغلت حيزاً رئيسياً فيما ينشر ألا وهي طريقة تفكير الإسلاميين ومشروعهم وبحثهم عن هوية منتجة وليست معيقة، وهو يشير إلى أن الاهتمام باليوميات، يجب ألا ينسينا الاستراتيجيات وتحولاتها.
ثمة معان فلسفية، كامنة خلف صمت هذا الرجل، النجدي. الأمر أبعد من كونه مشروعاً تجارياً. وأهل نجد لهم صولة في ذلك، أو بوابة معرفة. الأمر في جانب منه أن السفر في عالم الكتاب له جمالياته ووهجه، وما أدراك ما السفر والترحال في حياة النجدي!
يرى نواف القديمي، أن مهمة الكاتب والكتابة والقراءة البحث بعمق عما يجمع وليس عما يفرق، وأن هناك الكثير في يومياتنا مما يفرقنا نحن العرب غير أن هناك الكثير مما يجمعنا وما يفتح باب التواصل مع الآخر.
أما إن سألته عن سر بقائه في اسطنبول سيقول لك: صوتٌ عربي في اسطنبول بالكتب أو سواها ضرورة، لا يمكن لهذه المدينة أن تكون دون حروف عربية، أو أن تغيب الثقافة العربية كجزء من هويتها عنها، وأن الخلافات السياسية عابرة تذهب وتأتي، الأبقى هي الثقافة والحوار. وأن قدر إسطنبول أن تكون مدينة منوعة، كوزموبولوتية.
قد تجد دمعة حبيسة لم يقلها هذا المثقف العربي ألا وهي: إن الكثير من العواصم العربية قد ضاقت بناشر عربي لديه رؤية ومشروع. هو لا يريد أن يستكين لهذه الفكرة، ولا يرغب بأن يستذكر بيت زهير بن أبي سلمى، الذي اتخذ من “نجد” مقاماً له، بعد أن يستبدل الثمانين بالخمسين والحياة بالنشر ليقول:
سَئِمتُ تَكاليفَ النشر وَمَن يَعِش// خمسين حَولاً لا أَبا لَكَ يَسأَمِ!
المصدر: موقع تلفزيون سوريا