قراءة في رواية: قناع بلون السماء

أحمد العربي

باسم خندقجي شاب فلسطيني معتقل لدى الكيان الصهيوني محكوم بأكثر من مؤبد، وهو أيضا كاتب روائي متميز يكتب في شروط قاسية، حيث المراقبة الصهيونية في السجن على الكتابة وعلى تسريبها للخارج على دفعات و بوسائل مختلفة ومن ثم تجميعها وتحويلها لرواية جاهزة للنشر، ورغم ذلك ينجح…

قناع بلون السماء هي الرواية الأخيرة لـ باسم خندقجي، مراكمة على روايات وأشعار أخرى كتبها سابقا، في سجنه الصهيوني، وهي الرواية التي حصلت على جائزة الرواية العربية لهذا العام ٢٠٢٤م وهي تستحق ذلك عن جدارة…

تبدأ الرواية السرد بلغة المتكلم على لسان نور الفلسطيني ابن احدى مخيمات الضفة الغربية بفلسطين، وهو من لاجئي الأراضي الفلسطينية التي احتلت من الصهاينة عام ١٩٤٨م وأسس عليها الكيان الصهيوني دولته (اسرائيل)…

ينتمي نور لعائلة فيها تأثر شديد في القضية الفلسطينية وتداعياتها، والده اعتقل لسنوات طويلة عند الصهاينة على اثر الانتفاضة التي أدت إلى مجيء السلطة الفلسطينية إلى الضفة الغربية مع كل تداعيات ذلك، خرج من السجن وقد قرر أن يصمت عن كل ما يحصل في القضية الفلسطينية، إما عجزا أو يأسا، اشترى عربة وبدأ يبيع عليها الشاي والقهوة والسحلب بالحليب…

درس نور  في معهد الآثار الفلسطينية في القدس وعمل بعد ذلك مرشدا سياحيا يرافق السيّاح الأجانب الذين يحضرون بكثافة الى فلسطين التي تحوي تاريخ عريق ، ففيها القدس والمسجد الأقصى وبيت لحم مهد المسيح عليه السلام وما حولها بما لها من قدسية عند المسلمين والمسيحيين واليهود، وفيها الوجود الفلسطيني المتمسك بأرضه وتاريخه وسردياته عن التاريخ العربي الإسلامي لفلسطين وجوارها من بلاد المنطقة، وفيها الكيان الصهيوني الذي يحاول ان يصطنع تاريخا خاصا به يتجاوز الوجود الفلسطيني منذ الاف السنين و مصطنعا وجودا (اسرائليا) يعود إلى آلاف السنين ايضا، محولا ما تحدثت عنه التوراة ليكون سجلا لواقع فلسطين إلى درجة إلغاء السردية العربية والإسلامية لفلسطين. ويصل الموضوع الى خلق سردية تمحي الواقع المعاصر الذي عاشه الفلسطينيين منذ وعد بلفور ٢٠١٧م بإعطاء فلسطين كيانا للصهاينة، وتحويلها لدولة فعلا عام ١٩٤٨م. وبعدها حربي ١٩٦٧ و١٩٧٣م وما صاحب ذلك من مجازر وتهجير ومحو لكثير من البلدات والمدن والقرى الفلسطينية، ومحاولة خلق وجود مفتعل للصهاينة وصناعة تاريخ مبتدع لهم في فلسطين لا يمت للحقيقة بصلة…

في هذه الأجواء ونور مسكون بهاجس فلسطينيته التي يحس انها تنتزع منه كهوية وتاريخ ووجود…

مراد صديق نور معتقل في السجون الصهيونية، يتبادل معه الرسائل والكتب، يخبره أول بأول عن كل ما يحصل معه، يسكنهما هوى البحث والتقصي و الخوض عميقا في القضية الفلسطينية. مراد يبحث في علاقة احتلال فلسطين من قبل الصهاينة وبناء دولتهم (اسرائيل) وعلاقاتها الكولونيالية الغربية ومشروع هيمنتها العالمي. أما نور فإن اهتمامه بالبحث في تاريخ المسيحية في فلسطين والتنقيب عن مريم المجدلية التي طرحها دان براون في روايته شيفرة دافنشي بشكل ملتبس، يعمل ليكتب رواية حول ذلك. يتواصل الصديقان ويتبادلان المعلومات والمشاعر ووحدة الانتماء والهم…

حصل مستجد مع نور فقد اشترى من أحد متاجر الملابس المستعملة رداء وتبين ان فيه هوية لشاب اسرائيلي باسم اور، كان ذلك مدخلا بالنسبة لنور أن يفكر في استثمار هوية اور (الاسرائلية) حتى يستطيع الاستفادة منها في عمله مع فرق الآثار…

استطاع نور أن يستفيد من جهود أحد معارفه في القدس وهو رجل متصوف متوحد مع القدس والمسجد الاقصى وروحه متعلقة بهم بكل عمق وانتماء. حيث استطاع أن يصنع لنور هوية (اسرائيلية) مزورة عليها صورة نور باسم اور اليهودي، وحيث أن نور اشقر البشرة والشعر فقد ظهر يهودي اشكنازي ذو أصول غربية وهذا زاد من إحساسه بالتفوق تجاه اليهود الشرقيين داخل الكيان الصهيوني…

استطاع نور أن يستفيد من معرفته العبرية والانكليزية اضافة للعربية أن ينخرط في احدى المجموعات الأثرية القادمة من أوروبا لتقوم في بحث في آثار منطقة قريبة من القدس، واستطاع نور بشخصية اور ان يكون جزء من المجموعة ويقوم معهم في التنقيب، مرّ بصعوبة على الحواجز الامنية، وكان جزء من فرق البحث والتنقيب. ومن خلال ذلك يكتشف ونكتشف معه ان ارض فلسطين كانت منذ آلاف السنين مناطق مأهولة مر عليها الرومان والمصريين والعرب وغيرهم. كما تواجد معه في الحملة فتاة (اسرائيلية) حاولت التقرب من اور كل الوقت، وهو كان محافظا على المسافة بينه وبينها خوفا من أي خطأ يكشف هويته وتؤدي لسجنه. رغم كونه اشتهاها وفكر بمشاعر جنسية اتجاهها. وكان في المجموعة ايضا سما الفتاة العربية من أرض ١٩٤٨م الحاصلة على الهوية (الاسرائيلية) والتي أظهرت عكس السردية الصهيونية عن فلسطين. حيث تؤكد انها ابنة البلاد وهذه الارض فلسطينية وأنها مجبرة أن تكون من مواطني دولة الصهاينة، وأن ذلك يعطيها بعض الحقوق، وأنها وأمثالها يعملون كل الوقت لمواجهة السردية الصهيونية عن فلسطين ماضيا وحاضرا وحتى مستقبلا…

عاش نور تناقضا في ذاته بين انتمائه لسما وابتعاده عنها ايضا خوفا من ان يظهر على حقيقته. لكن سما لم تصمت طوال فترات التنقيب مما ادى لحصول خلاف وصراع بينها وبين الفتاة اليهودية الصهيونية الاخرى. مما أدى اخيرا ان يكشف لها هويته ويؤكد لها انه فلسطيني لاجئ ابن احد المخيمات ينتحل هوية يهودي ليستطيع أن يكون مع المنقبين وان يستطيع الدخول معهم إلى أكثر من مستوطنة ويتعرّف على بعض العائلات الاسرائيلية ويعيش معهم ويرى واقع التمييز بحق الفلسطينيين في بلادهم وأرضهم التاريخية…

لا يستطيع المنقبين أن يستمروا في تنقيبهم حيث يتوقفون عن ذلك بسبب تطور الصراع بين الكيان الصهيوني وحماس التي هددت بضرب الصهاينة أن أساؤوا للمسجد الأقصى ودنسوه بمجيء الصهاينة إليه واجتياحه. مما أدى لانهمار صواريخ حماس على الكيان الصهيوني في القدس وغيرها…

تنتهي الرواية عندما تثق سما بنور وأنه ليس صهيونيا او يتبع الاستخبارات الصهيونية وانه صادق ابن فلسطين وانه لبس قناع هوية اور من اجل ان يكون اقرب لبلده فلسطين وما يتم فيها من تنقيب وغيره…

نهاية سعيدة تزرع املا…

في التعقيب على الرواية اقول:

بداية لا استطيع الا ان احيي ذلك البطل ابن بلادي باسم خندقجي المحكوم اكثر من مؤبد وهذا يعني أنه لن يرى الحرية إلا بمعجزة، لكنه ينهمك في إحياء قضيته وقضيتنا فلسطين الحقوق والتاريخ والمستقبل والأمل، بكل دأب، بمواظبة داعية وثقة نبي وإيمان رسول…

باسم خندقجي نموذج للعربي الفلسطيني الذي يصنع من المستحيل واقعا رائعا نفتخر به…

هو مدرسة بذاته تُصنع على نموذجه أجيالا…

وكذلك تدخل الرواية في موضوع التاريخ الذي يحاول الصهاينة أن يعيدوا تدوينه باكاذيبهم واساطيرهم. فهم أخذوا فلسطين بالقوة مدعومين من الرأسمالية المستعمرة في العالم. ويريدون أن يشرعوا هذه السرقة من حبك الماضي والتاريخ ليتوافق مع أساطيرهم وخرافاتهم. وان ذلك قد ينفع مع ضعفنا وهواننا وضياع شعوبنا تحت سطوة الانظمة المستبدة الفاسدة التابعة للغرب المهيمن عليهم وراعي الكيان الصهيوني منذ التأسيس إلى الآن…

كذلك تأتي الرواية التي كتبت عام ٢٠٢١م ونشرت عام ٢٠٢٣م. وكأنها ابنة اللحظة التاريخية المعاشة الآن الشهر الخامس ٢٠٢٤م  حيث قامت وقبل أشهر حماس  والمقاومة الفلسطينية في غزة في معركة طوفان الاقصى بحرب شاملة على الكيان الصهيوني. جرحته بالعمق، قتلت الكثير واحتجزت المئات وحولت حياة الصهاينة إلى جحيم. واعادتهم لاول مرة الى المربع الأول: حول عدم شرعية الكيان الصهيوني في فلسطين. وان الشعب الفلسطيني بعد أكثر من قرن يقلب الطاولة على الصهاينة والعالم ويؤسس لبداية نهاية الكيان الصهيوني.

لما حصل تداعيات كثيرة ستظهر لاحقا وستنعكس على كل قضايا المنطقة العربية…

ربيع فلسطين جاء وأزهر وأثمر وأعطى أعظم ما يعطي… رغم كل التضحيات من أرواح أهلنا ومن أملاكهم وبنيتهم التحتية وقد يكونون ضحايا لجوء جديد، لكن بداية النهاية عذاباتهم بدأت والمستقبل الأفضل قادم…

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. رواية “قناع بلون السماء” للروائي الفلسطيني “باسم خندقجي” قراءة جميلة وتعقيب موضوعي من الكاتب ” احمد العربي” الرواية تتحدث عن سردية ممتعة لشاب فلسطنين يعمل لفضح تشويه الإرث التاريخي لفلسطين من قبل الصhاينة، ومن خلال البعثات الإستكشافية، رواية عن دور الوطنية الفلسطينية والتعمق بتاريخ فلسطين لمواجهة التضليل الصhيوني.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى