وقفت نخلةً أمام التنور، يداها تدخلان فوهة التنور بمهارة، وتخرجان بأرغفة الخبز، بابتسامة لا تفارق وجهها المشتعل، خاطبتها: (العوافي).
– ماذا تريد بعد العوافي يا أستاذ؟ – لا شيء.
مدت يدها إلى رماد التنور، وأخرجت بيضتين، قشرتهما برشاقة، وأمسكت بكمشة زبدة، ووضعتها فوق رغيفين بدرين أمام بدر وجهها الذي يعكس نارًا تتراقص داخل التنور.
– تفضل هذه عروسك.
التف الطابور حول البرج الثاني أمام بقالية العقيد أبي ربيع، ينتظر وصوله للبدء بتوزيع خبز المخبز الآلي: ربطة واحدة للعامة وربطتين للخاصة.
تعبت من الوقوف، لكن الحذر واجب، فإذا انقطع الدور عندك، فتمسي وتصبح بلا خبز.
نصف قرنٍ ونيفٍ أمضيته معارضًا، ولم أخش يومًا الوقوف أمام المحققين، أما اليوم، وفي الحصار، وبعيدًا عن الحاجز، بتُّ أداري معتمد الخبز، وبائع الخضار الذي يسلمني كيسًا لا أعرف ما فيه، أغمض العينين عن تجاوزات (رجال الثورة) وأصمتُ عن المجازر التي تعرضت لها الحدائق، وتحولها إلى مقابر للشهداء.
تذكرت تلك النخلة أمام التنور، برغيفي خبز التنور، والبيضتين، وكمشة الزبدة.
– يا الله كيف سكنت هذه الحوادث ذاكرتي طوال هذه السنين، وأخذت تطل بوجهها اليوم سافرة!
أغلقت النخلة فوهة التنور، خرجت من (حوش) الدار، استلمت الدرب الترابي، وما زالت العروس بيدها، صرخت بي:
– أمسكني وخذ عروسك. يا ابنة الحلال، أريد العروس الصغيرة، فهي تكفي للعشاء. اركض خلفي، امسكني وخذ ما تشاء. لن أقبل العروس الصغيرة إن أمسكت بك.
– ماذا تريد، ثم لوحت بجدائلها، قرصة في الخاصرة أم في الخد، يا ابنة الحلال، لقد أسقطتِ ما بينهما من فواكه أخرى.
صرخ العقيد أبو ربيع بوجهي: أنت لم تسجل اسمك عندي؟ أنا جارك وعمري يفوق عمرك بعشرين عامًا. أنا أعترف على الدفتر، فهمس من كان خلفي، ثم علا صوت بعضهم: اخرج.
فوجئت قبل خروجي من الطابور بانتفاضة ربطة خبز، طارت فوق الرؤوس، فركضت خلفها، وضعت ثمنها على الطاولة، فربتت سيدة على كتفي:
– قدمت للثورة ثلاثة شهداء، وها أنا أنتظر ثلاث ساعات لأحصل على ربطة خبز واحدة.
وصلت ربطة الخبز إلى الدرب الترابي، فكانت النخلة تنتظرني، والعروس بيدها تلوح بها: رغيفا تنور وبيضتان وكمشة زبدة.
اخترت الركض خلف ربطة خبز المخبز الآلي، على الرغم من معاشرتي لها بوجهها الأزرق، والوجه الآخر المحروق!.
– يا الله، (مقتاية)، أفخاذ دجاج، (كرم بندورة)، نهر حليب يتصاعد بخاره، (بيادر) من الكعك والحلويات، (حقل) سمك، فوقفت حائرًا مما أشاهده!
أحب النظام والوقوف بالدور في الطابور، لكن أمام مبدع داخل مكتبة، يوقع كتابًا جديدًا في المكتبة، أمام موسيقار يوقع أسطوانة جديدة، أمام التبرع بالدم لجرحى القذائف في مستشفى الوليد، وفي مستشفى البر.
لن أقف بعد اليوم أمام معتمد خبز، لن أمدُّ يدي إلى كيس خضار ومواد غذائية لا أعرف ما فيه، لقد رفضت شابًا مشروعات خطبة لا أجالس الخطيبة فيها، وأتحدث معها.
توقفت ربطة المخبز الآلي متعبة، وخرجت منها أرغفتها، فعافتها الطيور، وبقي خيار الإمساك بتلك النخلة، وأخذ العروس الصغيرة، بلا قرص من الخاصرة، ولا من الخد، وعليّ نسيان ما بينهما. لم أجد صباحًا ربطة معتمد المخبز الآلي، ولم أجد أثرًا للنخلة وعروسها التي تضم بين جوانحها: رغيفي تنور وبيضتين وكمشة زبدة.
1٬007 2 دقائق