يمكن اعتبار نقاش تعدد المجموعات الدينية والعرقية، التي بات اسمها «أقليات» في الشرق الأوسط، من القضايا السياسية والأيديولوجية شديدة الخطورة، التي لم ينقطع نقاشها يوماً، على الأقل منذ بروز «المسألة الشرقية» على الساحة الدولية في آواخر القرن الثامن عشر، مع ضعف الدولة العثمانية. قبلها كان الأسلوب العثماني في التعامل مع التعدد أكثر استقراراً، وأقل عرضة للتدخلات الخارجية، وهو ما يسميه البعض، دون دقة كبيرة، «النظام المللي» (طوائف دينية غير مسلمة معترف بها، متعددة إثنياً، خاضعة للباب العالي. وإن كان كل هذا لم يظهر، بوصفه نظاماً مقونناً، إلا في القرن التاسع عشر) الذي استطاع تحقيق فترات لا بأس بها من التعايش والسلم الاجتماعي، لدرجة تدفع بعض المؤرخين والباحثين المعاصرين إلى إعادة تقييمه بإيجابية بالغة، قد تشوبها بعض المبالغة.
يرتبط هذا التقييم بالانتباه إلى دور الشريعة الإسلامية، وأحكام الذمّة فيها، في تأطير وتنظيم التنوّع الاجتماعي، والملل والجماعات الدينية والعرقية المعترف بها، وعلاقاتها البينية. إلا أن كل هذا يبقى في الإطار النظري، ولا يمكن إيجاد تطبيقات معاصرة له، أكثر من «تأصيل التنوّع» في «الشرق»؛ و»إعادة تأويل الإسلام» لناقديه الغربيين؛ أو استخدامه لنقد «الحداثة» والعلمانية. إذ لا يمكن العودة بالتاريخ إلى فترات ما قبل التحديث ونشوء الدول القومية؛ وتستحيل إعادة إنتاج الظروف، التي جعلت «الذميّة» القديمة نظاماً سائداً؛ فضلاً عن أن تعايش الملل القديمة نفسها، تحت هيمنة «الإسلام» لا يمكن تفسيره فقط بهذا المنظور الشرعي أو ذاك، بل هو نظام تطوّر تدريجياً، نتيجة ممارسات معقدة على الأرض؛ وصراعات وتوازنات قوى متعددة؛ وظروف تاريخية متغيّرة، تداخل فيها كثير من التقاليد الاجتماعية والقانونية والثقافية، التي لم تكن دائماً «شرعية».
في كل الأحوال، لم يعد للذميّة التقليدية حضور نظري وقانوني في دولنا المعاصرة، مع إقرار مبادئ المساواة القانونية، والسيادة الشعبية؛ أما المللية فتحضر آثارها القانونية فقط في مدونات الأحوال الشخصية، رغم هذا فإن «المسألة الشرقية» لم تُحلّ يوماً، إذ تعاملت الدول القومية مع تعددية مواطنيها الإثنية والدينية بطرق إلغائية، ما أنتج اضطرابات وحروباً أهلية وجرائم إبادة جماعية مروّعة؛ فضلاً عن الاضطهاد الممنهج لمجموعات كثيرة. وتداخل هذا الاضطراب الشامل في المنطقة مع الصراع العربي – الإسرائيلي نفسه. إذ كثيراً ما تحوّلت مقاومات وجيوش، وضعت «التحرير» في أساس عقائدها، إلى أطراف في حروب أهلية، واستعملت «فلسطين» لإلغاء التنوّع، أو فرض هيمنة فئة اجتماعية على الآخرين.
مع ذلك، يبدو أن هنالك ميلاً لدى كثيرين، خاصة النخب التي تعتبر نفسها مترفّعة عن الطائفية، لتجاوز كل تلك الوقائع، والتركيز بدلاً من ذلك على ما يرونه أساسياً، مثل اضطهاد العرب والمسلمين من قبل الغرب؛ تأييد أي فعل مقاومة ضد دولة الاحتلال الإسرائيلي؛ الحفاظ على الروايات الأيديولوجية السائدة و»الوحدة الوطنية» في كل بلد. هل هذا الميل غير طائفي فعلاً؟ أم علينا أن نفكر مجدداً في «المسألة الشرقية» لنفهمه أكثر؟
الذميّة الوظيفية
نشأت الدول العربية المعاصرة في جو تصاعد الدعوات والحركات القومية منذ القرن التاسع عشر، ما جعل الدعوات الإحيائية، سواء كانت عربية أو إسلامية، تلعب دوراً بارزاً في اتجاهين: الأول بناء رواية مركزية مؤسِّسة للدول الناشئة، لها آدابها وثقافتها الجماهيرية، ومساهماتها المهمة حتى في إعادة إنتاج و»عصرنة» الدين واللغة؛ والثاني الحشد الدائم في معارك «الأمة» الناشئة، ضد أعدائها من أقوام أخرى، ما جعل تلك الدعوات تكتسب هيئة العقائد القتالية في كثير من الأحيان.
وسواء في «الرواية المؤسِّسة» أو «العقيدة القتالية» فإن الأمة كان يجب أن تكون واحدة دوماً، «عربية دينها الإسلام» كما تؤكد كثير من الدساتير في المنطقة، وهو مبدأ تفرّعت عنه ترتيبات سياسية وقانونية، يمكن اعتبارها شديدة القسوة، إذ حُرمت إثنيات ومجموعات عرقية من استخدام لغاتها ولهجاتها؛ وفُرض «دين أشرف» في التحكيم القانوني في المجال الشخصي؛ وظهرت سلسلة من قوانين «الآداب العامة» و«قيم الأسرة» مستمدة كلها من «دين الدولة». يمكن القول إن «العروبة» و«الشريعة الإسلامية» أصبحتا مجالاً سياسياً لإنتاج الهوية؛ ولخلق حيز خاص، تنفّذ به السياسات الحيوية للدول، بما يتسق أيضاً مع تصوراتها عن موقعها في «العالم» ومعاركها الوجودية.
لكي يكون المرء وطنياً في شرط كهذا، فعليه أن يكون عربياً مسلماً، بالمعنى الحديث لتلك الهويتين، أياً كان دينه وطائفته، وميوله الفكرية والسياسية ومزاجه الثقافي، وقد اختار كثيرون، من غير العرب المسلمين، «الوطنية» خاصة في شرط تصاعد حركات التحرر الوطني في القرن الماضي.
وأن يكون المرء عربياً مسلماً، بالهوية و«الآداب العامة» حتى لو كان مسيحياً أو كردياً أو لا دينياً، أمرٌ يتضمّن نوعين من التسامي: تسامٍ وطني عام، لمصلحة الجماعة السياسية أو «الشعب» كله؛ وتسامٍ شخصي، يتجاوز المرء عبره محدودية شرطه الفردي والفئوي، لمصلحة كيان وذات أكبر. إلا أنه يحوي أيضاً عناصر ذميّة، لأن على المتسامي هنا أن يتنازل عن كثير من حرياته، وعن بديهيات المفهوم الحديث للمساواة، لأجل الاندماج في الأمة الكبيرة، التي تمنحه الهوية والحماية. يبدو «الوضع الذمي» إن صح التعبير، متناقضاً إلى حد كبير، وجامعاً بين التسامي والخضوع؛ البلاغة الوطنية والتقية الطائفية؛ التحررية المفرطة، في المعارك ضد الاستعمار والصهيونية مثلاً، وتأييد أوضاع قانونية واجتماعية، لا يمكن وصفها إلا بالاستبدادية؛ وأخيراً الذات المتضخّمة في نرجسيتها الأخلاقية، والمستعدة في الوقت نفسه لـ«تصغير» نفسها في سبيل الأمة. إلا أن الذمية ليست مجرّد خيار فردي، بل هي وضع سياسي وسلطوي، على كثيرين القبول به، ما لم يريدوا خوض حرب أهلية أو «فتنة طائفية» جرّبتها أقليات المنطقة منذ بدء «المسألة الشرقية» وكانت نتائجها دائماً شديدة الإيلام للجميع، وبالتالي فإن «الوضع الذمي» أساسي في تكوين الأمة و«وحدتها الوطنية» ما يجعل الذميّة المعاصرة وظيفية سياسياً: لا أمة واحدة دون كثير من الذميين، الذين يدافعون عنها، عبر التنازل عن جوانب أساسية من مساواتهم؛ فضلاً عن تقديم خطاب، يضفي على هرميات الوطنية الأحادية مسحة «تنوّع». لكن «الأمة» تراجعت بشدة، مع انهيار واضمحلال كثير من الدول العربية، وانتهاء عهد التحرر الوطني الكلاسيكي، فهل ما يزال لدينا ذميّون سياسيون؟
توسيع الذميّة
انتقلت إلى العالم العربي، منذ مطلع الألفية، أفكار التنوّع والتعددية الغربية المعاصرة، وما ارتبط بها من دعوات، مثل المثلية والعرقية النقدية والنسوية المنظّماتية (أي المرتبطة بـ«المنظمات غير الحكومية») وفي كل هذه الدعوات لا مكان فعلياً للوطنية، فهي قامت أساساً، في أصلها الغربي، على نقد وتفكيك الروابط الجمعيّة للدول والمجتمعات، وبيان ما فيها من إقصاء وتهميش.
إلا أن هنالك خصوصية لافتة لأنصار تلك الدعوات والمنظمات في العالم العربي، وهي أنهم مصنّفون أيديولوجياً بوصفهم «غير غربيين» أو «غير بيض» وبالتالي هم جزء من جماعة مضطهدة، يمكنها وعليها أن تحافظ على روابطها وأساطيرها في وجه الاضطهاد، الموصوف بـ«الكولونيالي» و«الأبيض».
يعيد هذا إنتاج مجال الذميّة السياسية، فقد اختار أنصار تلك الدعوات تعريف أنفسهم بوصفهم «أقليات» أو «مهمشين» وفي الوقت نفسه يتسامون، على الطريقة الذمية الموصوفة أعلاه، لأجل جماعتهم المضطهدة، المحددة أيضاً بشكل هوياتي أحادي، رغم كل حديثهم عن «التنوّع» وذلك في معركة كونية لـ«نزع الكولونيالية» تستعير أحياناً من بلاغة «التحرر الوطني» القديمة.
ومجدداً، لا يقتصر الموضوع على التسامي، وإنما يقوم هؤلاء بوظائف مهمة، سواء في الشبكات الزبائنية المحليّة في بلدانهم، المرتبطة بدول فاسدة ومنظومات إغاثية وتمويلية وميليشيات، باتت هي «الأمة» حالياً؛ أو بوصفهم وكلاءً للمنظّماتية المعمّمة عالمياً، وهي أقرب لشكل فرعي من هيمنة أيديولوجية ومالية وتنموية، لنظام دولي من الممولين الحكوميين وغير الحكوميين، يبدو حريصاً جداً على أيديولوجيا «نزع الكولونيالية». كما أن فعل ناشطي تلك الدعوات، بين الشبكات الزبائنية المحلية، والشبكات التمويلية العالمية، يبدو لافتاً جداً، ويذكّر بحركات مسلّحة، تموّلت طويلاً من جهات، على علاقة طيبة جداً مع «الغرب» الذي تحاربه. من الواضح أنه لا توجد هوية أحادية، مضطهدة، لا تُنتج ذمييها.
ضد الطائفية؟
في كل من ذميّة عصر التحرر الوطني، أو الذميّة الحالية، يبدو التسامي عن الفئوية نقيضاً للطائفية، إلا أن التجربة التاريخية أثبتت أن الأمة والهوية الأحادية، مُنتجة دائماً لأكثر أشكال الانقسامات الاجتماعية حدةً، وأبشع الحروب الأهلية. قد يضحّي الذمي بحقوقه لأجل «الوطن» أو «الأرض» أو «السكان الأصليين» أو «المقاومة» أو أي مقولة أخرى، إلا أن هذه التضحية لا تؤدي إلى أكثر من تكريس هيمنة فئات معيّنة، وحرمان كتل سكانية ضخمة من ضمانات استمرار عيشها، وهذا عين الطائفية، التي تؤدي لانفجارات اجتماعية دوريّة، شديدة العنف.
ربما كان الأجدى الدفاع عن المساواة، والتمرّد على مفهوم الأمة الأحادية، فهذا قد ينتج مجالات أفضل، سواء لـ«الوحدة الوطنية» أو «المقاومة» إذ يصعب فهم كيف ستستمر دول ومجتمعات، مكرّسة لهوية ذكور مسيطرين، من طائفة أو عرق أو عقيدة معيّنة؛ فيما يُنتج الدفاع الصلب عن المساواة والتعددية، حيّزاً لصياغة المشتركات بتحرر أكبر، ومفاهيم أكثر صدقاً عن «المصلحة العامة».
كاتب سوري
المصدر: القدس العربي