مع أن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، سمع مواقف غاضبة من الرئيس الأميركي جو بايدن، مرات عدة خلال شهور الحرب الستة على غزة، فإنه فوجئ، كما يبدو، بحدة الغضب في محادثاتهما الأخيرة ليلة الخميس – الجمعة. ومع أنه بدأ فوراً سلسلة إجراءات لتخفيف هذا الغضب (من خلال فتح معابر المساعدات)، فإنه طلب من مساعديه المتخصصين في الشؤون الأميركية فحص «مدى هذا الغضب» و«إلى أي حد يمكن أن يستمر». وقد أوضح لفريقه أنه يعرف جيداً أن «هناك حدوداً للغضب الأميركي لا يستطيع أي رئيس أن يجاوزها».
والظاهر أن القلق الأكبر لدى نتنياهو يكمن في «غضب أميركي آخر» تلقاه في بحر الأسبوع. وهو ليس غضباً من إسرائيل بل غضب على إسرائيل. صاحبه هو الرئيس السابق، دونالد ترمب، الذي يتمنى نتنياهو أن يراه فائزاً في الانتخابات في نوفمبر (تشرين الثاني) القادم وعائداً إلى البيت الأبيض.
ترمب شدد على أن الحرب في غزة يجب أن تتوقف فوراً، بل كان يجب أن تتوقف منذ زمن، بحسب ما قال ترمب في مقابلة مع صحيفة «يسرائيل هيوم» الإسرائيلية التي تعد ناطقة بلسان نتنياهو. وكانت تلك مقابلة ودية للغاية ليس فيها أي سؤال محرج. ولكن ترمب، الذي يحب القادة الأقوياء، عدَّ استمرار الحرب مظهر ضعف للقيادة الإسرائيلية. ونتنياهو، الذي نما وترعرع في الولايات المتحدة، ورضع حليب عقيدة دعم القوي والتخلي عن الضعيف، يدرك أن عليه أن يُحدث تغييراً ما في سياسته لإرضاء الأميركيين من الحزبين الجمهوري والديمقراطي معاً. فلن يكفيه الاعتماد على الدعم الأميركي الاستراتيجي.
وكان نتنياهو قد عقد اجتماعاً مهماً قبل ساعات من محادثته مع بايدن، مع مجموعة من أعضاء الكونغرس الجمهوريين، الذين أرسلهم إليه اللوبي الإسرائيلي «إيباك» في الولايات المتحدة. ويقال إن هذا الاجتماع أغضب بايدن تقريباً بمستوى غضبه من مقتل فريق الإغاثة الإنسانية التابع لـ«المطبخ المركزي العالمي» في غزة. فقد أبلغ نتنياهو المشرعين الأميركيين بأن الحرب التي تخوضها إسرائيل في غزة لا تقتصر على إبادة «حماس»، بل هي في خدمة العالم الغربي كله ضد المحور المعادي بقيادة إيران. وقال إن إسرائيل تخوض هذه الحرب كرسالة إلهية في خدمة الإنسانية، وإنها لا تطلب أن يحارب الغرب معها بل أن يمدها بالأدوات. وحرص على اقتباس القائد التاريخي تشرشل عندما قال: «أعطونا الأدوات ونكمل المهمة». وطلب منهم أن ينقلوا الرسالة إلى الولايات المتحدة.
في واشنطن عدَّها بايدن رسالة أكاذيب وجحود. فلا نتنياهو هو تشرشل ولا الإدارة منعت عنه الأدوات. فالدعم لذي قدمه بايدن لإسرائيل في هذه الحرب غير مسبوق في التاريخ الأميركي، حتى باعتراف نتنياهو نفسه. لكن استخدام هذه الأدوات كان فاشلاً، ليس فقط في نظر الأميركيين، بل في امتحان النتيجة. فقد وضعت إسرائيل أهدافاً غير واقعية للحرب، لم تحقق أياً منها. ستة شهور والجيش الإسرائيلي، الذي يعد أحد أقوى جيوش العالم، ويمتلك أحدث وأفتك الأدوات القتالية الأميركية، يحارب تنظيماً مسلحاً صغيراً مثل «حماس»، وما زال يحتاج إلى شهور عديدة أخرى لتحقيق بعض أهداف الحرب. والجنرالات الأميركيون الذين يرافقون الجيش الإسرائيلي في هذه الحرب، خطوة خطوة، لا يجدون مخرجاً مشرفاً لإسرائيل من هذه الحرب، وفق ما يُنقل عنهم. إذ يقول بعضهم للإسرائيليين: «أنتم لا تقاتلون، بل تقتُلون». ينظرون إلى نتائج القتال، ويجدون أن إسرائيل قتلت 34 ألف فلسطيني غالبيتهم من الأطفال والنساء وسائر المدنيين، ومن مجموع 40 ألف عنصر مسلح في «حماس» جرت تصفية 9 آلاف، بحسب التقديرات الإسرائيلية نفسها (والأميركيون يقدّرون عددهم بستة آلاف).
وبغياب أفق سياسي إسرائيلي واقعي للحرب، تضع الإدارة الأميركية أفقاً في غاية السخاء: «استعداد عربي لإعادة إعمار قطاع غزة، بشرط التقدم نحو حلول جذرية تمنع الحاجة لحرب أخرى كضمان لمنع تدمير غزة من جديد، وذلك بإقامة سلام شامل بين إسرائيل وجميع الدول العربية يتضمن إقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح وتعيش بسلام مع إسرائيل». لكن حكومة نتنياهو تطرح بدائل عكسية تطيل الحرب، وتزيد في التدمير. وتطالب بدعمها في احتلال رفح والقبول باحتلال أجزاء واسعة من قطاع غزة ومواصلة الحرب، مع ما تحمله من أخطار لتوسيع نطاقها باتجاه حرب إقليمية تورط فيها الجيش الأميركي وكل دول المنطقة، وهذا فضلاً عن الاستمرار في قتل المدنيين وإحداث الكوارث الإنسانية.
وجنباً إلى جنب مع ذلك، تنشغل عناصر مركزية في حكومة نتنياهو في تحويل هذه الحرب إلى فرصة لتصفية القضية الفلسطينية ووضع مشاريع لإعادة الاستيطان اليهودي في قطاع غزة. والأميركيون يتابعون السياسة الإسرائيلية جيداً، ويدركون أن من يقف وراء هذه المشاريع ليس حزبي بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير وحدهما، بل تيار قوي في حزب «الليكود» الذي يقوده نتنياهو. ويمثّل هذا التيار الليكودي نحو 40 في المائة من أعضاء الحزب، ويقيم نشاطاته بشكل علني. ويستخف أعضاء في هذا التيار بالرئيس الأميركي شخصياً ويعدونه ضعيفاً وينعتونه بصفات مهينة. ويقولون إن انتقادات الإدارة الأميركية لإسرائيل نابعة فقط من الحسابات الانتخابية. ولا يخفي هؤلاء رغبتهم في أن يسقط الرئيس بايدن ويحل محله ترمب. ويبدو أن هذا التفكير تغلغل في الشارع الإسرائيلي برمته، ووفق آخر الاستطلاعات يتمنى 51 في المائة من الإسرائيليين أن يفوز ترمب، مقابل 40 في المائة يتمنون فوز بايدن.
وفي ضوء كل ذلك، لا يبدو من المستغرب أن ينفد صبر بايدن وأعضاء فريقه في البيت الأبيض والبنتاغون والخارجية. واللافت هنا أن بايدن لم يكن وحده من وبّخ نتنياهو، وهدده بتغيير السياسة الأميركية في حال عدم وفائه بالتزاماته، بل صدرت أقوال مشابهة وأشد حدة من وزير الخارجية أنتوني بلينكن ومنسق الاتصالات في مجلس الأمن القومي، جون كيربي، ووزير الدفاع، لويد أوستن، الذي أبلغ رسالة مشابهة في محادثة مع نظيره يوآف غالانت. كلهم طلبوا تغييرات خلال ساعات أو أيام قليلة.
نتنياهو، من جهته، فهم الرسالة جيداً. في البداية حاول تقليل الأضرار، فأصدر بياناً قال فيه إنه تحدث مع الرئيس بايدن 45 دقيقة، وكانت محادثة جيدة، فردت واشنطن حتى على هذا التفصيل وقالت: «كانت محادثة لأقل من نصف ساعة»، وسردت التحذيرات والتهديدات التي أسمعها بايدن لنتنياهو، وأوضحت بما لا يقبل التأويل أن الرئيس غاضب.
بالطبع، لا ينبغي المبالغة في تفسير ذلك؛ فغضب الأميركيين له حدود لا يجري تخطيها، وإسرائيل كانت وستبقى حليفاً استراتيجياً، وستحظى بالدعم العسكري الضخم، لكن الدعم السياسي يمكنه أن يُستخدم اليوم كأداة ضغط. ونتنياهو، رغم خلافاته العقائدية مع الحزب الديمقراطي الأميركي، يعرف أن هناك حدوداً أيضاً يجب ألا يتخطاها؛ ولذلك سارع إلى تنفيذ مطالب بايدن حول المساعدات الإنسانية (فتح معبر إيريز المغلق منذ تدميره خلال هجوم 7 أكتوبر، وزيادة المساعدات عبر معبر كرم أبو سالم)، على أمل أن يناور في الموضوعين الآخرين: عدم حسم مفاوضات القاهرة والدوحة، وعدم وقف النار قبل إعادة المخطوفين. وفي هذين الأمرين يعتمد بايدن على أدوات الضغط الداخلية في إسرائيل نفسها، فهي أيضاً ذات تأثير متصاعد. والمحتجون على سياسة نتنياهو قلقون من الغضب الأميركي ويستخدمونه في مظاهراتهم. وعائلات الأسرى تجد ضالتها في الرئيس الأميركي، الحالي، ولا تستطيع الانتظار حتى يتغير؛ لذلك تسعى أن تكون مظاهرات السبت، هذه المرة، أكبر وأضخم.
المصدر: الشرق الأوسط