لم يبدأ داعمو إسرائيل و”حماس” الحرب في غزة لكنهم قادرون على إنهائها.
بالنسبة إلى إيران والولايات المتحدة، زادت الحرب في غزة من خطر اندلاع مواجهة عسكرية مباشرة بينهما، إن إدراك هذه الأخطار وفهمها قد يفسر جزئياً الجهود التي تبذلها كل من واشنطن وطهران منذ السابع من أكتوبر من أجل الابتعاد عن شركائهما
لوحظ على نطاق واسع أن مسؤولي الأمن الإسرائيليين تفاجأوا تماماً بالهجوم الصادم الذي شنته “حماس” في السابع من أكتوبر (تشرين الأول)، فتأخروا في التصرف في الوقت المناسب مما سمح للفوضى والهيجان بالاستمرار لساعات قبل أن تتمكن القوات الإسرائيلية من استعادة السيطرة. لكن الإسرائيليين لم يكونوا الوحيدين غير المستعدين لهذا الهجوم، فحلفاء “حماس” أيضاً، من بينهم إيران الراعية الرئيسة للحركة، تفاجأوا بما حدث. وبحسب ما أوضحته إيران وغيرها من الأعضاء المنتمين إلى ما يسمى محور المقاومة، فـ”حماس” لم تحاول نيل موافقتهم على خططها أو إعلامهم بها مسبقاً.
لكن المسؤولين الإيرانيين قرروا أنهم لا يستطيعون ترك “حماس” تتعامل مع التحديات التي تواجهها من دون مساعدة، وبخاصة بعد أن بدأت الحملة العسكرية الإسرائيلية المدمرة في قطاع غزة تثير الغضب في جميع أنحاء الشرق الأوسط، لكنهم كانوا حذرين في شأن إثارة حرب أوسع نطاقاً. ونتيجة لذلك، حاولت إيران، من خلال حلفائها، بما في ذلك “حزب الله” في لبنان، والحوثيين في اليمن، والميليشيات الشيعية في العراق وسوريا، تحقيق توازن دقيق بين الاستجابة لدعوات التدخل واتخاذ إجراءات، ومنع ردود المحور على العدوان الإسرائيلي من الخروج عن نطاق السيطرة. وفي جوهر الأمر، فإن “حماس”، من خلال التصرف من دون تنسيق مع سيدها الأمر والناهي المزعوم، عجلت بحدوث أزمة خطرة من الممكن أن تتمرغ طهران في وحولها أيضاً.
وبعد خمسة أشهر من الحرب في غزة، تواجه الولايات المتحدة مشكلة مماثلة. فباعتبارها الراعي والحليف الرئيس لإسرائيل، دعمت الولايات المتحدة تل أبيب بقوة في تصميمها على استئصال “حماس” من غزة. ومع ذلك، ظلت الحكومة الإسرائيلية تضرب بعرض الحائط المطالب الأميركية الداعية إلى ضبط النفس، مما تسبب في كارثة إنسانية أودت بأكثر من 30 ألف فلسطيني. وفي الوقت الحالي، يهدد القادة الإسرائيليون بالمضي قدماً في هجوم كبير على رفح، وهي منطقة في جنوب غزة تضم أكثر من مليون مدني، على الرغم من إعلان إدارة بايدن مراراً وتكراراً أنها تعارض مثل هذه الخطوة.
ومن خلال عدم رغبتها في الإصغاء إلى مشورة واشنطن، تخاطر إسرائيل بتقويض موقف الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، مما يعرض إدارة بايدن لاتهامات بالكيل بمكيالين (ازدواجية المعايير) في وقت تريد فيه حشد دعم دولي لأوكرانيا. وقد ينتهي الأمر حتى بجر الولايات المتحدة نفسها إلى صراع عسكري أوسع في المنطقة. وفي الواقع، بلغ الخلاف بين القادة الأميركيين والإسرائيليين حداً دفع الولايات المتحدة إلى اتخاذ خطوة نادرة في 25 مارس (آذار) بالامتناع عن التصويت على قرار لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة يطالب بوقف إطلاق النار في غزة، عوضاً عن استخدام حق النقض.
وفي حين قد تختلف كلتا الحالتين من حيث طبيعتهما وتفاصيلهما، إلا أنهما توضحان ما يمكن أن نسميه “معضلة الراعي”. على مدار عقود من الزمن، سعت القوى العالمية والإقليمية الكبرى، بدءاً من الولايات المتحدة وروسيا وصولاً إلى إيران والسعودية، إلى إيجاد حلفاء وأتباع محليين لتوسيع نفوذها وإظهار قوتها في الشرق الأوسط. من الناحية النظرية، تساعد مثل هذه العلاقات بين الراعي والتابع على توفير حاجز بين القوى الكبرى، فتسمح باعتماد سياسة الإنكار وعدم تحمل المسؤولية المباشرة عن الإجراءات التي يمكن أن تؤدي إلى تصعيد التوترات، ولكن عند تسليح هؤلاء التابعين الإقليميين ودعمهم، يتعين على الرعاة أيضاً منحهم مساحة كبيرة لمتابعة سياساتهم الخاصة. وفي ظل صراع مسلح بحجم الحرب الحالية في غزة، فإن غياب السيطرة المباشرة يمكن أن يؤدي إلى حوادث تضر بمصالح الرعاة أو حتى تهدد بجرهم إلى مواجهة مباشرة مع خصومهم. وبينما يضغط الزعماء الدوليون من أجل التوصل إلى حل في غزة، يتعين عليهم أن يفهموا الأخطار والفرص المحددة التي خلقتها هذه الديناميكية.
تأثير خفي عبر المسافات
من بين أكثر العلاقات تعقيداً ربما بين الراعي [الحامي] وأتباعه في الشرق الأوسط اليوم، تبرز العلاقة بين إيران وحلفائها الإقليميين. بالنسبة إلى إيران فإن دعم الجماعات الإقليمية المختلفة مثل “حزب الله” و”حماس” يشكل ما تسميه “استراتيجية الدفاع المتقدمة”، والهدف منها هو تمكين إيران من الرد عسكرياً على جبهات متعددة على أي هجوم أو تهديد ضدها من دون الحاجة بالضرورة إلى إشراك قواتها مباشرة. إن إدراك الحكومة الإسرائيلية مثلاً أن ترسانة “حزب الله” الضخمة من الصواريخ تستطيع استهداف مواقع في مختلف أنحاء إسرائيل، منح إيران بوليصة تأمين مهمة. لكن نجاح هذه الاستراتيجية لا يزال يتطلب من إيران أن تقرر متى وأين تُنشِط حلفاءها.
في الواقع، تلتزم إيران وأعضاء المحور بإخراج الجيش الأميركي من الشرق الأوسط. لكن طهران تعتبر ذلك هدفاً طويل المدى، يجب تحقيقه تدريجاً من خلال جعل الحفاظ على الوجود العسكري الأميركي في المنطقة أكثر صعوبة، وأقل شعبية وتقبلاً على المستوى المحلي. ومن الممكن أن تؤدي التصرفات المتهورة من جانب حلفاء إيران المحليين إلى عرقلة هذا الهدف المزدوج من خلال خلق مواقف لا يمكن التنبؤ بها، وهو أمر أظهره هجوم “حماس” في السابع من أكتوبر بوضوح.
من بين مجموعات المحور، يعتبر “حزب الله” قريباً بشكل خاص من إيران، فمثلما تحتاج طهران إلى الجماعة كوسيلة دفاع أمامية على الحدود الإسرائيلية، يحتاج “حزب الله” أيضاً إلى التمويل الإيراني والدعم العسكري لضمان هيمنته في لبنان. ونتيجةً لذلك، فمن غير المرجح أن ينفذ حزب الله هجوماً واسع النطاق على إسرائيل من دون موافقة إيرانية. وعلاقة “حزب الله” مع الدولة التي ترعاه تعتبر أوثق وأكثر تكافلية من علاقة “حماس” بها. لكن من المشكوك فيه أن يعلن “حزب الله” ولاءه المطلق لطهران إذا منعته الأخيرة من العمل بالطريقة التي يراها مناسبة داخل البيئة اللبنانية، سواء كحزب سياسي يشارك في البرلمان والحكومة أو كقوة عسكرية.
في المقابل، تتميز العلاقة بين الحوثيين، الغارقين في حربهم الخاصة في اليمن، ورعاتهم الإيرانيين بليونة أكبر. نظراً إلى أنهم كانوا منبوذين سياسياً لسنوات عديدة في اليمن، تطلعوا لفترة طويلة إلى إيران للحصول على الدعم، بيد أنهم في أكثر من مناسبة، تجاهلوا بشكل صريح التوجيهات والإرشادات الاستراتيجية الإيرانية. في عام 2015، على سبيل المثال، بعد أن استولى الحوثيون على العاصمة اليمنية صنعاء، نصحتهم طهران بعدم الاندفاع جنوباً نحو عدن ومحاولة فرض سيطرة كاملة على البلاد. لكنهم مضوا قدماً على أي حال، وتقطعت بهم السبل في الجنوب فأجبروا في نهاية المطاف على الانسحاب. ووفق ما علمناه أنا وزميلي في يناير (كانون الثاني) من طارق صالح، قائد القوات اليمنية في البحر الأحمر ونائب رئيس “مجلس القيادة الرئاسي” في البلاد، حينما كنا في مقره العسكري في مدينة المخا على البحر الأحمر، فإن “إيران دولة تتبنى نهجاً استراتيجياً، فهي تتحرك خطوة بخطوة، لكن الحوثيين غير صبورين. إنهم يريدون التحرك، على الفور”. ومثل هذا السلوك المتهور يمكن أن يوقع إيران في المشكلات.
على الرغم من ذلك، كوفئ الحوثيون على اندفاعهم آنذاك. ففي أعقاب هجوم عدن، بدأت إيران بصورة لافتة في تقديم المساعدة العسكرية للحوثيين، مما مكن الحوثيين من الاحتفاظ بالسيطرة على جزء كبير من اليمن، وسمح لإيران بتعزيز نفوذها تدريجاً هناك. وتزايد الدعم الإيراني مع استمرار الحرب في اليمن، مما مكن الحوثيين من شن طائرات من دون طيار وصواريخ هجمات في السعودية والإمارات العربية المتحدة. وقد منح ذلك ورقة ضغط واضحة لطهران ضد منافسيها الإقليميين.
وبعد استئناف العلاقات الدبلوماسية بين إيران والسعودية قبل عام، انحسرت التوترات في المنطقة. وفي الواقع، أتاحت الحرب في غزة للحوثيين فرصة لتعزيز نفوذهم المحلي، وهذه المرة من خلال شن هجمات متواصلة ضد السفن التجارية في البحر الأحمر وخليج عدن. وقد فعلوا ذلك بالتنسيق مع الأعضاء الآخرين في التحالف المدعوم من إيران.
أما “حماس”، فقد ربطتها علاقة أقل صرامةً ورسميةً مع إيران. ابتداءً من عام 2012، عندما بدأت الانتفاضة الشعبية في سوريا تهدد نظام الرئيس بشار الأسد، انفصلت “حماس” عن الحكومة السورية وراعيتها إيران لأنهما كانتا تهاجمان الجماعات السنية المتمردة. ونتيجة لذلك، اضطر قادة “حماس” إلى مغادرة دمشق، وفي المقابل، خفضت إيران دعمها المالي للحركة. ولم تستأنف العلاقات بين “حماس” وطهران إلا قبل سنوات قليلة فحسب من هجمات السابع من أكتوبر، بمجرد أن اكتسب قادة “حماس” العسكريون في غزة مكانة بارزة ونفوذاً داخل الحركة، فجددوا علاقة “حماس” بإيران، التي بدأت تمدهم بالأموال والأسلحة والتدريب العسكري.
بالنسبة إلى طهران، فإن إضافة “حماس” إلى المحور كانت تعني أن إيران أصبح بإمكانها ممارسة الضغط على إسرائيل من اتجاهين، هما لبنان وغزة، وحتى إجبار إسرائيل من الناحية النظرية على خوض حرب على جبهتين. ومع ذلك، كان التفاهم الضمني هو أن “حماس” سوف تستمر في مواجهة إسرائيل بطريقة منضبطة نسبياً على غرار تلك التي اتبعتها خلال الحروب المختلفة في غزة منذ أن سيطرت الحركة على القطاع عام 2007. وفي السابع من أكتوبر، انتهكت “حماس” هذا التفاهم عندما قررت من جانب واحد أن تضع كل شيء على المحك، في أمل على ما يبدو أن يسارع حلفاؤها في المحور لمساعدتها، ولكن عوضاً عن ذلك، زج الهجوم إيران و”حزب الله” في موقف حرج، إذ سعى كل منهما لإظهار الدعم لـ”حماس” والفلسطينيين بينما يحاولان في الوقت نفسه النأي بأنفسهما عن تصرفات “حماس” وتجنب التصعيد.
الجرائم والعقوبات
لقد أظهرت الحرب في غزة أنه يجب على الرعاة أن يهتموا بشكل خاص بمنع وكلائهم، سواء كانوا دولاً مثل إسرائيل أو مجموعات غير حكومية مثل حلفاء إيران المحليين، من الخروج عن نطاق السيطرة. لنأخذ هنا على سبيل المثال الهجوم الذي شنته كتائب “حزب الله”، وهي جماعة عراقية شبه عسكرية تدعمها إيران، على موقع عسكري أميركي في شرق الأردن في يناير (كانون الثاني). ووفق ما تردد على نطاق واسع، في 28 يناير أرسلت الجماعة طائرة مسلحة من دون طيار إلى الموقع، مما أسفر عن مقتل ثلاثة جنود أميركيين. على الرغم من أن الحادثة ربما كانت نتيجة لسوء تقدير وليس عملاً متعمداً، إلا أنها كانت المرة الأولى منذ سنوات التي يقتل فيها جنود أميركيون على يد جماعة مدعومة من إيران. وردت الولايات المتحدة بقصف عدد من المنشآت شبه العسكرية في سوريا والعراق وقتلت أكثر من 40 مقاتلاً ينتمون إلى مجموعات شبه عسكرية عراقية أخرى (بما في ذلك بعض الجماعات غير المدعومة بشكل مباشر من إيران)، فضلاً عن القيادي البارز في كتائب “حزب الله” المسؤول عن عملياتها في سوريا أبوباقر الساعدي.
في الواقع، أدرك القادة الإيرانيون وكتائب “حزب الله” على الفور أن الهجوم على قاعدة “البرج 22” قد تجاوز أحد الخطوط الحمراء التي حددتها الولايات المتحدة. وفي غضون بضع ساعات من الحادثة، توجه قائد فيلق القدس الإيراني، إسماعيل قآني، إلى بغداد لحث الجماعات التابعة لإيران في العراق على وقف الهجمات على القوات الأميركية. وأعلنت كتائب “حزب الله” على الفور أنها ستعلق عملياتها العسكرية، وانسحبت، إلى جانب الجماعات العراقية ذات التوجه المماثل، من مواقعها في سوريا. وقد أشار رد قآني السريع لواشنطن إلى أن إيران ليس لديها رغبة في تصعيد التوترات، ونقلت إيران رسالة مماثلة إلى إدارة بايدن. علاوة على ذلك، حتى عندما أدى مقتل الساعدي، قائد كتائب “حزب الله”، على يد الولايات المتحدة، إلى إثارة الغضب في العراق، امتنعت مجموعات المحور عن أي رد انتقامي، على الرغم من أن كتائب “حزب الله” تراجعت لاحقاً عن قرارها السابق بتعليق العمليات. ومنذ ذلك الحين، استأنفت الجماعات العراقية هجماتها في سوريا، لكنها التزمت بوضوح بالخط الأحمر المتمثل في عدم قتل الأميركيين.
لكن لم تكن المرة الأولى التي تشعر فيها إيران بأنها مضطرة إلى توبيخ كتائب “حزب الله”. وفي أواخر عام 2019، بعد أن انتقمت القوات الأميركية من الجماعة بسبب وفاة أحد مقاوليها (على يد تنظيم الدولة الإسلامية على ما يبدو)، مما أسفر عن مقتل عدد من مقاتلي كتائب “حزب الله”، حرضت الجماعة حشداً غاضباً من المؤيدين على اقتحام السفارة الأميركية في بغداد. وعلى رغم من فشلهم في تخطي منطقة الاستقبال لاختراق المجمع، فإن الهجوم أقنع إدارة ترمب باستهداف قاسم سليماني، الذي كان يدير المحور قبل إسماعيل قآني. وفي غارة الطائرة من دون طيار التي أودت بحياته في مطار بغداد الدولي في أوائل عام 2020 قتل أيضاً أبومهدي المهندس، زعيم كتائب “حزب الله” ونائب منسق الجماعات شبه العسكرية المدعومة من إيران في العراق.
ومن يذكر أنه على رغم من انتقام إيران من القوات الأميركية في العراق رداً على مقتل سليماني، فإنها أعربت أيضاً عن استيائها من كتائب “حزب الله” بسبب الهجوم غير المصرح به على السفارة، فقطعت الاتصال المباشر للجماعة مع علي خامنئي، المرشد الأعلى الإيراني. وبحسب ما أوضحه صحافي عراقي في ديسمبر (كانون الأول) الماضي لي ولأحد زملائي في بغداد، تعتبر هذه القدرة على الاتصال، أمراً مهماً بالنسبة إلى الجماعات الإسلامية الشيعية مثل كتائب “حزب الله” لأن الوصول إلى خامنئي، مرشد الجماعات، هو شرف نادر يشير إلى الأهمية التي توليها طهران لمثل هذه الشراكات.
وفي الواقع، يمكن لإيران أن تتخذ مزيداً من الخطوات لكبح جماح أتباعها ووكلائها، بما في ذلك تعليق الدعم العسكري. لكن يبدو أن معظم أعضاء المحور يدركون جيداً الخطوط الحمراء التي تتوقع إيران منهم الالتزام بها. في هجماتهم على الشحن في البحر الأحمر، على سبيل المثال، حرص الحوثيون على عدم قتل البحارة الأميركيين، على الرغم من أن هذا قد يعزى أيضاً إلى الحظ، نظراً إلى لكمية الهائلة من الذخائر التي أطلقوها. علاوة على ذلك، فإن استمرار هجماتهم يشير بوضوح إلى أن الضربات الأميركية والبريطانية لا تردعهم بصورة كبيرة. والتفسير الأكثر منطقية لتجنب الحوثيين استهداف الأفراد الأميركيين حتى أثناء تكثيف هجماتهم هو أن طهران أمرتهم بعدم القيام بذلك.
وفي الهجوم الذي شنته في السابع من أكتوبر، تمادت “حماس” أكثر من أي مجموعة محورية أخرى في تحدي القواعد غير المعلنة التي وضعتها راعيتها. ومن خلال إشعال حرب شرسة مع إسرائيل، أحدث الهجوم صدعاً كبيراً بين “حماس” والمحور. وقد أعرب كل من إيران و”حزب الله” عن استيائهما لأن “حماس” لم تبلغهما بخطتها، وهو موقف تفاقم بلا شك لأن “حماس” أساءت بشكل واضح تقدير الرد الذي قد تتلقاه من إسرائيل. ومن جانبهم، عبر قادة “حماس” عن خيبة أملهم العميقة إزاء عدم وجود دعم أقوى من المحور، حتى إنهم أشاروا إلى أن إيران ليست مهتمة بتحقيق تغيير حقيقي للفلسطينيين. في هذا الإطار، قال لي أحد قادة “حماس” السياسيين في الدوحة في ديسمبر “إن إيران تدعم الفلسطينيين أخلاقياً وروحياً، لكنها لا تلبي تطلعاتهم، وهذا يعزز فكرة أن الفلسطينيين يجب أن يدافعوا عن أنفسهم”.
إذاً فالحرب في غزة أوقعت طهران في مأزق أسهمت إيران نفسها في خلقه جزئياً. فمن خلال تسليح “حماس” إلى حد يجعلها قادرة على شن هجوم عسكري قوي على إسرائيل، فقدت إيران السيطرة على مجموعة تشكل أهمية بالغة في استراتيجيتها الدفاعية المتقدمة. إن نتيجة الحرب غير مؤكدة وقد لا تنتهي بنوع من وقف إطلاق النار الدائم الذي يطالب به أعضاء المحور باعتباره شرطاً أساسياً لتهدئة التصعيد. من ثم فإن خطر نشوب حرب أوسع نطاقاً لا يزال قائماً ومن المرجح أن يتزايد مع تفاقم الكارثة الإنسانية في غزة.
فقدان السيطرة
إيران ليست القوة الوحيدة التي يجب أن تتعامل مع حلفائها المحليين الجامحين والمثيرين للمتاعب. فالولايات المتحدة تواجه تحديات مماثلة أيضاً، إذ وجدت أن القيادة الإسرائيلية الحالية هي الشريك الأكثر عناداً. في الحقيقة، تتفق الولايات المتحدة وإسرائيل على الهدف المتمثل في القضاء على قدرة “حماس” على تهديد إسرائيل، إلا أن أساليبهما لتحقيق هذا الهدف تتباين بصورة كبيرة. بعد أشهر من الهجوم الجوي والبري الإسرائيلي الذي أدى إلى تدمير أجزاء كبيرة من غزة، وقتل عشرات الآلاف من المدنيين وجرحهم، وتشريد ما يقارب مليوني شخص، أي جميع سكان القطاع تقريباً، تعهد بايدن أنه سيواجه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ويجري معه نقاشاً صريحاً وجدياً. لكن الزعيم الإسرائيلي، الذي تعتمد قبضته المتزعزعة على السلطة على الدعم المستمر من شركائه اليمينيين في الائتلاف، تجاهل مخاوف واشنطن ورفض بشدة توجيهاتها الاستراتيجية، على رغم أن بلاده ما زالت معتمدة بصورة كبيرة على الأسلحة والذخيرة الأميركية.
وقد وصل التوتر في هذه العلاقة إلى ذروته بسبب التهديد الإسرائيلي بالهجوم على رفح التي تقع في جنوب قطاع غزة، وتكتظ الآن بأكثر من مليون نازح فلسطيني من أجزاء أخرى من القطاع، وتواجه بالفعل أزمة إنسانية. وبالنسبة إلى بايدن، أصبح الهجوم الإسرائيلي على رفح يشكل خطاً أحمر. لقد استدعى بايدن المسؤولين الإسرائيليين إلى واشنطن لمناقشة الهجوم المخطط له من أجل مطالبة إسرائيل باتخاذ تدابير لتقليل الضرر الذي يلحق بالمدنيين في رفح. من الناحية النظرية، كان ينبغي أن تكون هذه فرصة للدولة الراعية كي تقوم بتأديب تابعها، لكن في الواقع، أصبحت العلاقات الأميركية الإسرائيلية أكثر تعقيداً بكثير.
فبعد امتناع الولايات المتحدة عن التصويت على قرار وقف إطلاق النار الذي اتخذه مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في 25 مارس (آذار)، وهو خروج نادر عن سياسة الحماية الأميركية المعتادة لإسرائيل في هذا المنتدى، رد نتنياهو بإلغاء رحلة الوفد الإسرائيلي إلى واشنطن. ومن غير الواضح ما إذا كان نتنياهو يستخدم ببساطة التهديد بشن هجوم من أجل إجبار “حماس” على وقف إطلاق النار بشروط إسرائيل، أو ما إذا كان ينوي بالفعل إرسال قوات الدفاع الإسرائيلية إلى رفح لملاحقة كتائب “حماس” المتبقية التي يزعم أنها متمركزة ومتحصنة هناك. وفي كلتا الحالتين، تحدى الزعيم الإسرائيلي بشدة رغبة بايدن الواضحة في وقف إطلاق النار.
هذه القطيعة غير المعتادة تثير تساؤلات حول التدابير التي يمكن أن تتخذها الولايات المتحدة لكي تمارس نفوذها الكبير على إسرائيل بشكل فعال: بإمكانها ربما أن تجعل المساعدة العسكرية الهائلة التي تقدمها بشكل روتيني، وتحديداً الأسلحة الهجومية المستخدمة في غزة، مشروطة بمواءمة نهج إسرائيل مع النهج الأميركي الرامي إلى إنهاء الحرب. وقد تكمن الإجابة جزئياً في مدى تأثير الدعم الأميركي لسلوك إسرائيل في غزة على فرص بايدن الانتخابية في نوفمبر، ولكن في حال عدم اتخاذ خطوة من هذا القبيل، فإن مكانة الولايات المتحدة والدول الأوروبية عالمياً التي بدأت تتراجع بسبب فشل تلك الدول في كبح جماح إسرائيل، ستشهد تدهوراً أكبر بعد. على سبيل المثال، وجد دبلوماسيو الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أن أبواب شركائهم في التجارة والتنمية التي كانت مفتوحة أمامهم تنغلق فجأة. وبدأ المنافسون العالميون، مثل الصين وروسيا، يسعون إلى استغلال الغضب الشعبي في أفريقيا وأميركا اللاتينية وآسيا في شأن المعايير المزدوجة في ردود الفعل الغربية على الغزو الروسي لأوكرانيا والاحتلال العسكري الإسرائيلي المطول للأراضي الفلسطينية، مما قد يعوق قدرة الولايات المتحدة على الحفاظ على جبهة موحدة ضد روسيا.
واستطراداً، قد تسرع الأحداث المحيطة بحرب غزة في انحدار القوة الأميركية، هذه المرة بمساعدة وتحريض من إسرائيل، الحليف غير المتعاون العازم على البحث عن حل عسكري لسعيه الطويل الأمد الرامي إلى تحقيق قدر أعظم من الأمن في بيئة معادية على الدوام. ومن الصعب أن نرى كيف يمكن لإسرائيل أن تحقق هذا الهدف، بعد 76 عاماً من الفشل في القيام بذلك، من دون التوصل إلى تسوية من طريق التفاوض مع الفلسطينيين، وهو النهج الذي طالما أعلنت الولايات المتحدة أنها تؤيده.
دور الرعاة في إيجاد الحلول
بالنسبة إلى إيران والولايات المتحدة، زادت الحرب في غزة من خطر اندلاع مواجهة عسكرية مباشرة بينهما. وقد أشارت الحكومتان إلى أنهما لا تسعيان لمثل هذه المواجهة، في الأقل في الوقت الحالي، وهذا أمر مطمئن. ومع ذلك، لا يوجد شيء اسمه السيطرة الكاملة على العلاقات بين الراعي والتابع، وليست هناك طريقة مضمونة تمنع الحوادث أو الحسابات الخطأ من إشعال فتيل حرب إقليمية شاملة. ومن الصعب احتواء الدورات التصعيدية في المواجهات الإقليمية عندما يحث الصقور من كلا الجانبين قادتهم على اتخاذ إجراءات انتقامية أكثر دراماتيكية، مثلما حصل عندما دعا بعض الأعضاء الجمهوريين في الكونغرس إدارة بايدن إلى الانتقام من إيران بعد حادثة كتائب “حزب الله”.
وفي المقابل، يجب على أتباع الدول الراعية الإقليميين أن يأخذوا في الاعتبار مطالب شعوبهم، وبخاصة عندما يقتضي الوضع ذلك. على سبيل المثال، إذا تسبب صاروخ أطلقه “حزب الله” أو مسلحون فلسطينيون من لبنان في إصابة مدينة إسرائيلية وأدى إلى سقوط عدد كبير من الضحايا، فمن المؤكد أنه لن يكون أمام القادة الإسرائيليين أي خيار سوى الرد بقوة أكبر من ذي قبل. وعلاوة على ذلك، أسهم نزوح عشرات الآلاف من الإسرائيليين وعدد مماثل تقريباً من اللبنانيين من منازلهم على جانبي الحدود الإسرائيلية اللبنانية في خلق ضغوط جديدة على قيادة البلدين. ويطالب السكان على الجانبين باتخاذ إجراء حاسم، سواء أكان عسكرياً أو دبلوماسياً، من شأنه أن يسمح للنازحين بالعودة بأمان.
إن إدراك هذه الأخطار وفهمها قد يفسر جزئياً الجهود التي تبذلها كل من واشنطن وطهران منذ السابع من أكتوبر من أجل الابتعاد عن شركائهما. ومن خلال القيام بذلك، طورت الدولتان الراعيتان سياسة الإنكار المعقول إلى مستوى الفن الخطابي الرفيع (أظهرتا مهارة استثنائية في إنكار تورطهما بتصرفات حلفائهما من خلال اللجوء إلى خطابات مصاغة بعناية ودبلوماسية)، مما يشير إلى عدم موافقتهما على تصرفات وكلائهما لكنهما حافظتا في الوقت نفسه على الطبيعة الأساسية للعلاقات (وحتى امتناع الولايات المتحدة غير المعتاد عن التصويت في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ينبغي أن يفهم بهذه الطريقة).
ونظراً إلى احتمال أن يتخذ أحد أتباعهما قراراً متسرعاً أو يرتكب عملاً تصعيدياً يؤدي إلى إشعال حرب إقليمية، يجب أن تحرص الدولتان الراعيتان على اعتماد تدابير من شأنها أن تقلل من أخطار حدوث مثل هذا السيناريو. ويمتلك كل منهما أساليبه الخاصة لكبح جماح حلفائه، لكنهما لن تفعلا ذلك إلا إذا اعتقدتا أنهما قادرتان على تجنب فقدان ماء الوجه خلال قيامهما بذلك. وهذا يتطلب تفاهمات واتفاقات متبادلة ضمنية، يمكن التوصل إليها من خلال قنوات دبلوماسية سرية. ومما يبعث على التفاؤل أن كبار المسؤولين الأميركيين والإيرانيين أجروا محادثات غير مباشرة في مناسبتين في الأقل منذ السابع من أكتوبر، وتبادلت حكومتاهما رسائل بطرق أخرى غير مباشرة أيضاً.
بالنسبة إلى إيران، فإن أفضل طريقة للمضي قدماً تتمثل في أن تنجح قطر، وهي دولة صديقة وليست حليفة، في التوسط في قرار وقف إطلاق النار في غزة الذي كانت تحاول تنسيقه بالتعاون مع الولايات المتحدة ومصر. وليس هناك ما يشير إلى أن إيران تقف في طريق تحقيق هذا الهدف، بل على النقيض من ذلك، يدرك المسؤولون الإيرانيون أنه ليس من المفترض أن يعطلوا وقف إطلاق النار اإذا كانوا يأملون في الاستفادة اقتصادياً من التقارب الإيراني الأخير مع السعودية والإمارات العربية المتحدة. ومع ذلك، إذا جرى التوصل إلى وقف لإطلاق النار، فسوف تحتاج طهران إلى إقناع حلفائها المحليين بالتنحي: سيتعين على “حزب الله” أن يوقف هجماته على إسرائيل، فيما يمتنع الحوثيون عن شن هجمات على سفن الشحن، ويتعين على الجماعات شبه العسكرية العراقية تعليق اعتداءاتها على المصالح الأميركية في العراق وسوريا. وقد لا يتخلى المسؤولون الإيرانيون عن الهدف الاستراتيجي المتمثل في إخراج الولايات المتحدة من الشرق الأوسط، لكنهم قد يحثون قوات المحور على تهدئة التوترات والتراجع على المدى القريب.
بالنسبة إلى الولايات المتحدة أيضاً فإن وقف إطلاق النار في غزة سيكون أفضل وسيلة للخروج من “معضلة الراعي”، ولكن لكي توافق إسرائيل على ذلك، ستحتاج إدارة بايدن إلى البدء في استخدام مزيد من الأدوات والوسائل. يتعين على واشنطن أن تطالب إسرائيل بأن تسعى إلى تحقيق أهدافها الحربية من طريق وقف إطلاق النار وصياغة خطة قابلة للتطبيق لمرحلة ما بعد الحرب في غزة بالتنسيق الوثيق مع الولايات المتحدة والحكومات العربية وأوروبا. علاوة على ذلك، تحتاج واشنطن إلى دعم هذا الطلب بإجراءات حقيقية وملموسة. وفي حال لم تنجح الحوافز الأخرى، فالخيار الواضح هو ربط الإمداد المستمر للأسلحة الهجومية بالتقدم نحو إنهاء الحرب. وعلى نحو مماثل، يمكن لواشنطن أن تحاول الحد من العنف الإسرائيلي في الضفة الغربية من خلال وقف صادرات البنادق الآلية التي يستخدمها المستوطنون الإسرائيليون هناك.
ربما تكون إحدى أكبر المفارقات في الحرب الحالية هي أن الولايات المتحدة وإيران، باعتبارهما راعيتين لأتباع جامحين ومشاكسين، لديهما قواسم مشتركة أكثر مما قد تدركان. وكلاهما سيستفيد من وقف إطلاق النار الذي ينهي خطر نشوب حرب إقليمية. ويمكن القول إن كلتيهما سيتمكن من الحصول على بعض الفضل والتقدير وراء الكواليس لدعم وقف إطلاق النار وضمان استمراره. وبطبيعة الحال، ليس من المؤكد متى أو ما إذا كانتا ستنجحان في وقف هذه الحرب، ولكن خلافاً للقوى الخارجية الأخرى، فهما في الأقل تمتلكان الأدوات اللازمة للقيام بذلك. وإذا لم تستخدماها قريباً، فقد تجدان أن الصراع في غزة ليس سوى مقدمة لحرب واسعة أكثر خطورة.
*جوست هيلترمان هو مدير برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مركز “مجموعة الأزمات الدولية” للبحوث.
مترجم عن “فورين أفيرز”، 28 مارس 2024
المصدر: اندبندنت عربية
نعم داعمو إSرائيل و”حماS” لم يبدؤا الحرب في غزة لكنهم قادرون على إنهائها، لأنهما متفقان بالخطوط العامة وخاصة قيادة الديمقراطيين من أيام اوباما وحالياً بايدن ، قراءة موضوعية وتحليل منطقي ولكن بتحديد بأنه ليس بينهما حرب وجود. لأن بينهما إتفاق على المصالح والنفوذ وإن إختلفا بحدودها.