نُقل عن مسؤول أمني تركي أن الرئيس أردوغان سيزور الولايات المتحدة في التاسع من شهر أيار المقبل، والإعلان عن الزيارة من قبل مسؤول أمني أولاً له أبعاد متصلة بطبيعة الزيارة، حيث يُنتظر أن يشغل المساحة الأكبر منها التفاوضُ حول حزب العمال الكردستاني الذي تدعم واشنطن فرعه السوري في شمال شرق سوريا. ومن المفترض أن يكتسب الجانب الأمني زخماً إضافياً بزيارة أردوغان العراق في الشهر المقبل، والتي لم يُعلن عن توقيتها بعد، إلا أن الأنباء عن التفاهمات الممهِّدة لها تتوالى.
يجوز القول أن شهر آذار الحالي كان شهراً تركياً-عراقياً بامتياز، ففي الطريق إلى زيارة أردوغان المقبلة توالت التطورات “والتصريحات التركية خاصة” التي تصبّ في منحى تأكيدات أنقرة على قيامها بعملية عسكرية كبرى ضد حزب العمال الكردستاني. أهم هذه التطورات أتى في نهاية الأسبوع الثاني من الشهر بإعلان الحكومة العراقية حزب العمال حزباً إرهابياً محظوراً في العراق، والإعلان أتى بعد سلسلة اجتماعات أمنية بين الجانبين جرت في العراق.
ويبدو أن هذه التطورات أذِنت لأردوغان بالتصريح يوم الثامن عشر من هذا الشهر بأن بلاده “ستؤمّن كامل حدودها مع العراق بحزام أمني بعمق 30-40 كيلومتراً، كما ستكمل ما تبقى في حدودها مع سوريا بحلول الصيف المقبل”. تصريحات أردوغان كانت خلال مأدبة إفطار مع الجيش، وفي مساء اليوم نفسه بُثّت مقابلة تلفزيونية أجرتها سي إن إن تورك مع وزير خارجيته هاكان فيدان، أكّد فيها على أن تركيا ستبني المستقبل مع الجانب الآخر “في أربيل والسليمانية وبغداد وكركوك والموصل، ولا مكان للتنظيمات الإرهابية هناك”.
وللسليمانية أهمية خاصة، بوصفها معقلاً لأتباع الراحل جلال الطالباني، وهم في تنافس قديم-متجدد مع أنصار البارزاني الذين يشكّلون الأغلبية في إقليم كردستان العراق. واستطاع حزب العمال التسلل بين شقوق عداوة الأشقاء في الإقليم، منطلقاً أيضاً من عداء حاد لما تمثّله البارزانية ككل في الوجدان الكردي، ليجد حليفاً له في السليمانية. والواقع أن حجم ورثة الطالباني تراجع ضمن موازين القوى الجديد، وتركوا موقعهم التنافسي لحزب العمال الذي صار يُنظر إليه كخطر على قيادة الإقليم البارزانية.
الحديث يدور عن انتشار لمقاتلي الحزب في مساحات واسعة من إقليم كردستان، لا في جبال قنديل فقط كما كان عليه الحال منذ عقود. بل يمكن القول أن الحزب صار له سيطرة فعلية على الشريان الممتد من إيران، مروراً بالإقليم، وصولاً إلى شمال شرق سوريا حيث تسيطر وحدات الحماية الكردية التي يُنظر إليها على نطاق واسع كفرع سوري من الحزب. والقول أن الشريان يبدأ من إيران لا يُقصد به أكراد إيران، بل هو للإشارة إلى الدعم الذي يناله الحزب من الحكومة الإيرانية، وقد بات الدعم الرئيسي منذ تراجع الأسد الأب أمام التهديدات التركية وطرده زعيم الحزب أوجلان من سوريا.
وليس من الشائع على نطاق واسع أن مقاتلي الحزب في مناطق تواجدهم قد شاركوا في المعركة ضد داعش، ولو لم يكونوا في مقدمة الصورة كما كان حال قوات الحشد الشعبي، ما قد يجعل التفاهمات بين الحزب وواشنطن تتعدّى الحدود السورية. ومن المحتمل أن يكون لمشاركتهم أثر في تعزيز وجودهم في سنجار “شنكال بالكردية” المتاخمة للحدود السورية، والتي تسيطر عليها قوات الحزب وقوات الحشد الشعبي معاً.
طبيعة سنجار لن تكون لصالح القوات التركية في أية عملية عسكرية، ما لم تنل دعماً من الحشد الشعبي، سواء من خلال مشاركة الحشد في المعركة، أو بتخلّيه عن التحالف مع قوات الحزب وتقديم معلومات استخباراتية للقوات المهاجمة. ربما بالاستفادة من الدعاية الإسرائيلية في الحرب على غزة، بدأ الحديث في الأسابيع الأخيرة عن أنفاق حزب العمال في جبل سنجار، تُضاف إلى تلك التي يُتوقّع وجودها في منطقة جبال قنديل، والمنطقتان معروفتان أصلاً بوعورتهما وصعوبة اقتحامهما. على ذلك، نصَّ حديث وزير الخارجية التركي على أن الحشد الشعبي موجود ضمن التفاهمات مع الحكومة العراقية، بينما حذّر جماعة الطالباني “حزب الاتحاد الوطني الكردستاني” من تقديم الدعم لحزب العمال في المعركة المقبلة.
من المحتمل أن معركة سنجار الضخمة والشرسة تحتاج تنسيقاً ما مع الجانب الأمريكي الموجود على الجهة الأخرى من الحدود، كي لا تكون وحدات الحماية الكردية في سوريا بمثابة عمق دفاعي لمقاتلي حزب العمال في سنجار. لكن من المؤكد أن هذه المعركة تتطلب أولاً موافقة مزدوجة من طهران، فهي يجب أن تتخلى عن حزب العمال لتسمح باستهدافه، ومن غير الوارد أن يتعاون الحشد الشعبي “مباشرة أو مواربة” مع القوات المهاجمة من دون ضوء أخضر إيراني.
بعبارة أخرى، إما أن تكون صفقة العملية التركية ثلاثية أو لا تكون. ثمن الصفقة للحكومة العراقية اقتصاديٌّ يُختصر بما صار يعرف بـ “طريق التنمية”، وهو مجموعة من الطرق السريعة وسكك الحديد التي تربط ميناء الفاو بتركيا، ومع تدفق السلع عبر الشبكة الجديدة، أو قبل ذلك، سيعود النفط العراقي المعدّ للتصدير للتدفق عبر الأراضي التركية. في الجانب العراقي أيضاً، من المتوقّع أن تكون قيادة إقليم كردستان راضية عن الصفقة، وجائزة الترضية ستكون بالتخلص من قوات حزب العمال الكردستاني، ما يعني أن أربيل ستستعيد أيضاً قوتها وهيبتها إزاء قادة السليمانية المحتمين بالحزب.
لا جديد في القول أن صفقة كبرى كهذه لن تمرّ ما لم تكن إيران هي الطرف الثالث فيها، بل الثاني. السؤال هو عن الثمن الذي تقبضه طهران من الصفقة، لكي تقبل بتوجيه ضربة كبرى إن لم تكن قاصمة لحليفها الكردي. في الواقع لا توجد ساحة تسهل فيها المساومة بين أنقرة وطهران سوى الساحة السورية، وتحديداً في المناطق التي لا تستثير حساسية موسكو أو واشنطن وتقتضي موافقتهما. على هذا الصعيد تبرز إدلب كل مرة كمنطقة نفوذ تركي يمكن التضحية بها، والذريعة المستخدمة هي وجود هيئة تحرير الشام-النصرة سابقاً، المصنّفة على قائمة الإرهاب الدولية.
ربما تشمل الصفقة ما تبقى من مناطق قريبة من الساحل تسيطر عليها فصائل خاضعة للنفوذ التركي، وأيضاً مناطق في ريف حلب الغربي، وقد لا تشمل كافة أنحاء إدلب كي لا يتسبب ذلك بأزمة لاجئين كبرى. ولا يُستبعد أن يكون مثل هذا السيناريو وغيره موجود في المفاوضات التركية-الأمريكية، حيث أُعلن عن وجود حوار إستراتيجي يخص سوريا بين الطرفين! لكن لا يُتوقّع أن تحظى أنقرة بموافقة واشنطن على عملية برية ضد وحدات الحماية في سوريا، وأقصى تعاون أمريكي قد يكون بلجم قسد عن تقديم العون لحزب العمال، والسماح للقوات التركية بمهاجمة أهداف منتقاة في سوريا من الجو، بالمسيَّرات خاصةً.
أعاد وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، أمام تجمع لحزب العدالة يوم الأربعاء الفائت، التأكيدَ على أن بلاده “عازمة على القضاء على الإرهاب بالتعاون مع دول الجوار، وأنها اتخذت الخطوة الأولى في هذا الصدد مع العراق”. كل الدلائل تشير هذه المرة إلى أنها ليست تصريحات انتخابية، وإذا صدقت الأنباء بأكملها فسيكون الشمال العراقي على موعد قريب مع معركة كبرى، يُخشى أن يقابلها في الشمال السوري كارثة إنسانية كبرى.
المصدر: المدن