كان يمكن للمرحوم سلطان الأطرش ورفاق دربه الاكتفاء بالإغراءات الفرنسية بدويلة على مقاس “الدروز” وجبل العرب، ومثلهم وطنيو سوريا كلٌّ في منطقته ويرتاحون من هموم الوطن وحريته! لكن بصيرتهم ووعيهم الفطري قادهم لمغايرة الاستسهال والذهاب لأعلى درجات الوعي بضرورة التعاقد على هوية الوطن وطريقة المواطنة، من دون نزاع ديني أو سياسي بل باتجاه التحرير ومن بعده البناء. هذا الأساس المتين جعل ذكرى سلطان الأطرش لليوم منارة لا يمكن تجاوزها مهما حاولت سلطة البعث لفت الأنظار عنها بعيدًا لترسيخ هيمنتها واستحواذها المفرد والمطلق لكل خيرات الوطن..
“مرقعي العبي” الصفة والاسم المحبب لسلطان باشا ورفاقه في الثورة السورية الكبرى، وقد أحبّوا أن يرافقهم الاسم لحين وفاتهم! والاسم في ذاته كناية عن حياتهم البسيطة وزهدهم ببهارج الدنيا وبذخها، حياة الفلاح المشبع بالوطنية والارتباط العضوي بالأرض، هي صفة لثيابهم الرثة وقد تزينت بالرقع. و”الرقعة” قطعة من القماش يُحاك بها الثوب عندما يُمزع من مكان فيه بدل استبداله بجديد، فكانت ذات النهج في رتق ثوب سوريا من التمزق، وقد أبت أنفسهم أن يختاروا استبدال وطنيتهم وسوريتهم بأي اسم محلي ذي شأن طائفي “كحركة الموحدين الدروز” أو “قوات الدروز المحلية” من قبيل ما يطرح اليوم على الساحة السورية من أسماء وألقاب رنانة!
لم يكن قرارًا أن يختار سلطان الأرض ورجال الثورة وطنيتهم السورية، بقدر ما كانت تتملكهم بعفويتهم الحرة بعمقها الانتمائي والوجداني، عنوانه الكرامة والحرية والتمسك بالأرض في كامل الأرض السورية. تلك التي أُشهرت في بيان الثورة السورية ضد الاستعمار الفرنسي بتاريخ 23 آب 1925: “يا أحفاد العرب الأمجاد، هذا يوم ينفع المجاهدين من جهادهم، والعاملين في سبيل الحرية والاستقلال عملهم. هذا يوم انتباه الأمم والشعوب. فلننهض من رقادنا ولنبدد ظلام التحكم الأجنبي عن سماء بلادنا”.
وهو فعلًا يوم انتباه اليوم وكل يوم! فها هي الذكرى الثانية والأربعون لوفاة المرحوم سلطان الأطرش الموافقة في 26 آذار/مارس عام 1982 عن عمر ناهز التسعين عامًا. وما زال هذا اليوم، رغم كل محاولات سلطة البعث طمسه، ما زال منارة وطنية سورية يعاد الاحتفال بها، بعد أن تم قطعها زمنيًا وحرمان الشباب السوري من الاحتفال به وملاحقتهم بالتقارير الأمنية والتهديد بالويل والثبور وعظائم الأمور لمن يحاول أن يحيي ذكرى وفاته في يومها! حتى لا يمثل سلطان وأقرانه رمزًا وطنيًا منفردًا يقارن بغيره من سياسيي الانتهاز وادّعاء الوطنية والوحدة والتحرير والاشتراكية، في حين سلوكهم وحياتهم البذخ والنفاق والسلب والاستيلاء على مقدرات الوطن برمته، وبيعه وتأجيره لكل من يدفع ثمنًا أكبر، وتهجير معظم شعبه!
لم يكتفِ الفلاح سلطان الأطرش ببساطته وبفطرته الشعورية الوطنية التي تعبر عن صدقها بكل ممارساته، بل انتقل زمنيًا إلى الضرورات المرحلية والزمنية في وقته، وضرورة الضرورات تحرير سوريا من محتلها الفرنسي. تلك اللحظة التي لم تتأخر مفاعيل حدوثها، حيث كان الوعي السوري الفطري ينضج تجاه ضرورة الالتفاف حول نموذج تعاقدي في طريقة التحرير! تلك اللحظة التي أعاقتها التوازنات المحلية، لكنها سرعان ما تنامت وتحولت لفعل تحرري بالواقع وتأسيس فكري نظري مقترن بها عنوانها وشعارها “الدين لله والوطن للجميع”، شعار الثورة السورية الكبرى، ونواة الدولة الوطنية كدولة يتساوى فيها الجميع دون تمييز عرقي أو ثقافي أو جندري، والتي هي جذر العلمانية التي تعيشها دول العالم المتقدم عصريًا.
الانتقال من الوطنية الفطرية الشعورية إلى ممارسة الوطنية بالخيار الحر والإرادي، والتي نعرفها اليوم بالمواطنة، هي تلك اللحظة التي التقت فيها الإرادات الحرة لمكونات الشعب السوري لصياغة تعاقدهم الوطني في الحرية والكرامة بما تحمل من مضامين وجودية واجتماعية وسياسية، تتجاوز الاختلاف الديني وطرقه الإيمانية، وتتجاوز الخلاف على أحقية القيادة والزعامة التقليدية، وتنفي الغلبة السياسية لجهة خلاف غيرها، وتذهب باتجاه نواة البناء العام للمواطنة. تلك كانت أشعلتها لحظة التنسيق والإجماع العام بين الكتلة الدمشقية الوطنية ممثلة بحزب الشعب ورئيسه عبد الرحمن الشهبندر، ومن معه من حمص وحماة وباقي المناطق السورية، مع مرقعي العبي في جبل العرب ليضعوا وثيقة عهد وطنية تعم بشمولها عموم سوريا في موضوعي الهوية الوطنية، والاستقلال والتحرر، ما جسدته بوضوح مقولة “الدين لله والوطن للجميع” بشكل متلازم بين القول والممارسة، فكانت ثورة 1925. وفي الجانب الآخر، شكّل الوعي الوطني والحقوقي العام مفارقة معنوية كبيرة أسهمت في بناء المنظومة المعرفية الأولى لمرحلة التحرر الوطني والتأسيس لنواة الدولة السورية، مع التفريق بين الدعوة لمحاربة المستعمر الفرنسي كقوة احتلال وإكراه، عن مبادئ الثورة الفرنسية الثقافية والحقوقية في الحرية وسواد القانون والعدل، والتي حملت بذور الوعي الوطني العام، ورؤية متقدمة في المدنية والعلمانية وربطها بالهوية الوطنية وتجسيد أولى بناها في المواطنة.
اليوم، أحيت مظاهرات السويداء السلمية ذكرى سلطان الثانية والأربعين في ساحة القرّيا. مؤكدة على فكر وطريقة الآباء المؤسسين، بعيدًا عن جميع أشكال المشاريع المشبوهة: من سلطة القمع والاستبداد والإكراه وسلطات الأمر الواقع، إلى النزعات المختلة في الاحتماء بالمستعمر لتبرير بقاء سلطة بعينها، إلى أوهام مشاريع البحث عن شبه دويلة كردية أو درزية وربما ساحلية، وأخرى سنية… إلى تنازع دولي في طرق حل المسألة السورية غير السورية. وإحياء ذكرى سلطان اليوم لا تخصه بمفرده، بل استعادة ذكرى الآباء الأوائل للوطنية السورية: سلطان والشهبندر والعلي وهنانو والقاوقجي وعياش والأتاسي والخوري…، وكل من أسهم وأسس لنواة الدولة الوطنية السورية، قبل أن تقضمها سلطة العسكر البعثية، الوريث غير الشرعي وغير الدستوري لهذا البناء.
فإن كانت المواطنة هي ممارسة الحقوق العامة والوطنية جذرها الطبيعي الأول، فمن غير الممكن تأطيرها والاكتفاء بالوطنية شعوريًا على أنها مشروع الدولة وحسب، بل يجب تمتينها بالحرية والقواعد الدستورية لصيانتها، وهذا لن يتحقق إلا بالتحول الديمقراطي والتغيير السياسي. وهو ما يعاد طرحه بالسويداء اليوم، بعد أن تم طمسه في السنوات السابقة أمام كثرة وازدحام المشاريع المتنافسة على السلطة في مذبحة كبرى عنوانها الأعم: سوريا من الثورة للنزاع على السلطة، وشتان بين هذه وتلك.
لم تزل فطرة الناس ومكنونها الوطني الخير وجذوة تحركها للحرية والكرامة والعدالة، عوامل مهمة ورئيسية من روافع الوطنية السورية، ويتطلب الارتقاء بها بالإرادة الحرة لمصافّ المواطنة، والانتقال من مشروع الوطنية إلى مشروع الدولة، دولة الحق والقانون، دولة المواطنة، وهذا مرهون بقدرة الأبناء، ثوار وسياسيي الربيع العربي السوري في موجته الثانية اليوم، على قراءة وثائق الآباء المؤسسين بالعمق من دون الاكتفاء منها بالسطح العفوي والفطري، على أهميته، لكن بالبحث عن طريقة التعاقد الوطني اليوم، كما فعلها الآباء، ومعاكسة سير الانحدار السوري العام. لتكون عنوان رسالة الآباء للأبناء اليوم واستعادة تعاقد السوريين على الفاعلية والجدارة واستحقاق التغيير السياسي مهما بلغت أحمال المرحلة الجسام.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا
رحم الله أبطال الثورة السورية الأوائل الذين رفضوا إغراءات المحتل الفرنسي بتقسيم سورية لدويلات مناطقية طائفية، وأصروا على وحدة سورية وحريتها، كانت عفويتهم الحرة بعمقها الانتمائي والوجداني، عنوانه الكرامة والحرية والتمسك بالأرض في كامل الأرض السورية، إنهم الآباء المؤسسين لسورية المستقبل بأبنائها .