كلنا نذكر المسلسل الأمريكي الشهير الجذور وبطله كونتا كنتي، كذلك ملاءات قصص العبودية القديمة أدبيات وصفحات الليبراليين الجدد، الذين نادَوا بإلغاء الفصل العنصري وتحرير كافة العبيد منذ قرار إبراهام لينكولن(1861-1865) الشهير. لينكولن الذي يقدسه دعاة التحرر؛ لأنه قاد الولايات المتحدة خلال الحرب الأهلية الأمريكية، وبرع في الدفاع عن الأمة كاتحاد دستوري، ونجح في هزيمة الكونفدرالية المتمردة، وإلغاء العبودية. كذلك نتذكر بطولات نلسون مانديلا الذي قضى معظم حياته مسجوناً مناضلاً لإنهاء الفصل العنصري في آخر دولة كانت تعمل به في العالم. كذلك نذكر قصة اللوحة الشهيرة التي تجسد أيوبا سليمان ديالو، وهو غامبي من القرن الثامنَ عشرَ، تم إطلاق سراحه من العبودية عن طريق الاكتتاب العام، بعد أن نال احترام مجتمع لندن، الذي أطلق عليه اسم أيوب بن سليمان. تم اختطاف ديالو (1701-1773)، وهو رجل ثري ومتعلم تعليماً عالياً، بينما كان يبيع العبيد، وتم بيعُه إلى مزرعة أمريكية. لقد هرب، ولكن عندما تم القبض عليه، لفت انتباه المحامي والمبشر الإنجليزي توماس بلويت، الذي أحضره إلى لندن. التقى أيوبا ديالو بأرستقراطيين وعلماء، وقام بنسخ الوثائق لجامع الأعمال السير هانز سلون. وتم تقديمُه إلى بلاط الملك جورج الثاني والملكة كارولين، قبل أن يتم جمع الأموال لتحريره وإعادته إلى إفريقيا. كل تلك القصص والمآسي التي مازالت مزروعة في ذاكرتنا عن العبودية، ربما ليس لها وزنٌ يُذكر أمام نوع خفي من العبودية ظهر وتجذر مع ظهور العناوين التي تحاربها وتجرم من يتحدث بها أو يحن اليها!
لنعمل مقارنة بسيطة بين العبودية التقليدية التي طبعت في أذهاننا بمسلسل الجذور، وصراع مارتن لوثر كينغ ومالكوم إكس مع الحكومة الأمريكية، وأخيراً انتصار مانديلا على حكومة جنوب إفريقيا ذات البشرة البيضاء الهولندية مع العبودية الجديدة الخبيثة:
بين عامي 1500 و1866 أي خلال حوالي 366 عاماً، تم نقل 12.5 مليون إفريقي مستعبد إلى الأمريكيتين، تُوفي منهم حوالي 1.8 مليون على الممر الأوسط لتجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي. بينما في الحروب التي تُدار دولياً في آخر خمسين سنة لك أن تتخيل العدد، يكفي التذكير أن أكثر من عشرة ملايين تم تهجيرُهم من سوريا، وربما العدد نفسُه أو يزيد في العراق؛ وكذلك علينا ألا ننسى اليمن وأفغانستان والصومال وليبيا وراوندا والكونغو وحالياً السودان، وفي القريب العاجل مصر والجزائر! في العبودية القديمة كان معروفاً كلٌّ من البائع والشاري والوسيط بينهما، أما في يومنا هذا، فالثلاثة مجهولون غامضون يتحكمون بالمشهد من خلف حجب مستترة. في الماضي كان العبيد يُساقون بقوة السلاح إلى العالم الجديد؛ ليعملوا ويأكلوا ويبيتوا ويتكاثروا، أما اليوم، فالدافع للعبودية ذاتي، حيث يدفع المهاجر مبالغ ضخمة للمهربين؛ حتى يحظى بجولة أو اثنتين في لعبة الروليت الروسية، فإما أن يصل بعدها إلى أرض السادة، أو أن يهلك في الطريق، فيُسجل كرقم للإحصاء لا أكثر.
أما الاستخبارات، فكانت في الماضي أجهزة وطنية شوفينية؛ تضع الولاء للوطن والتضحية لأجله فوق أي اعتبارات فردية أو جماعية، أما اليوم، فتحولت استخبارات العالم أجمع إلى أداة تنفيذ قذرة لدى المتحكمين بالمشهد الدولي، فترى التنسيق بين أجهزة الاستخبارات في أعلى مستوياته، فهم يشكلون غرفة عمل مشتركة، الولاء فيها لمن يتحكم في تلك الغرفة، وليس للدول والحكومات والمصلحة الوطنية.
وأخيراً الحكومات الوطنية من أقوى دولة في العالم إلى أضعفها تراهم محصلة لمعادلات مجهولة لأندية مغلقة سرية، لا ندري كيف تُدار، ومن قبل مَن ولمصلحة مَن، كلُّ ما يمكن أن نلمسه أن مَن يصل إلى الحكم ويستلم السلطة، يقدم مصلحته الشخصية ومصلحة من أوصلوه على حساب مصلحة شعبه، وأقلهم إضراراً من يعمل توازناً حرجاً متقلباً بين تلك العناصر الثلاثة. بينما في الماضي يكتب التاريخ عمن نصفهم بتلك الصفات بأنهم خونة منبوذون، أما اليوم، فتمجد عبقرتيهم وبراعتهم في الوصول لمقاليد الحكم.
تحليل هذه العناصر الثلاثة: العبودية، الاستخبارات، والحكومات الوطنية ضروريٌّ لتفكيك الألغاز التي تحيط بحاضرنا ومستقبلنا، فقد سألني أحد الإخوة الذي يسكن الشمال السوري “إدلب إلى أين؟” بالتأكيد لا أملك بلورة سحرية لأجيب السائل، لكنني أتذكر أن كاتالونيا وهي حاضرة إسبانيا وأقوى اقتصاد فيها، عوقبت بشدة حين فكرت بالاستفتاء على الاستقلال، ولوحق رئيسُها في كل أوروبا، كذلك كردستان العراق، حين فكر مسعود برزاني أن علاقته الإيجابية بكل اللاعبين الدوليين والإقليميين تخول له الاستفتاء على الانفصال. أما الجولاني، فدولته قائمة منذ سنوات، وربما ستظل لسنوات، ربما ببساطة لأن من يحكم ليس الجولاني، وكذلك الحال كان مع البغدادي وأسامة بن لادن ومارتن لوثر كينغ ونيلسون مانديلا، فالأمر يبدو أنه تجاوزهم بمراحل كثيرة، في النهاية هناك أشخاصٌ يصممون الأنظمة والقوانين وقواعد اللعبة، وهناك من ينفذونها، وإلى الآن وفي أعمارنا القصيرة لم نشاهد من حولنا إلا المنفذين، أما المصممون وهم الأخطر، والأدهى مجهولون !!!!
في النهاية وعيُ القلة لهذه الحقائقِ ونشرها يؤدي إلى انهيار بيت العنكبوت الذي يلف البشر بشرنقة العولمة والحضارة الزائفة؛ لأن السنة الكونية واضحة: (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّـهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ) رغم أن خيط العنكبوت أقوى من الفولاذ وألياف البروتين التي تنسجها العناكب لصنع بيوتها تعد أقوى من أي شيء يمكن للإنسان صنعه !!!