في بداية شهر أيار/ مايو الماضي، أصبح معروفًا أنّ واشنطن ولندن دخلتا في مفاوضاتٍ بشأن إنشاء منطقة تجارة حرّة، بعد مشاوراتٍ شارك فيها أكثر من 300 خبير، شكلوا 30 مجموعة عمل. وعلى الفور، ظهرت تسريباتٌ عن قرب انضمام أستراليا ونيوزيلندا إلى هذه المفاوضات. على كل حال، الحديث عن تشكيل حلفٍ جديد يضم الولايات المتحدة الأميركية، وبريطانيا، وكندا، وأستراليا، ونيوزيلندا، بدأ بعد استفتاء بريكست في المملكة المتحدة عام 2016، بشأن الخروج من الاتحاد الأوروبي.
حلف ضد من، الآن؟
ما سبق، يحيل إلى أنّ ملامح الطوق الأميركي حول بكين بدأت ترتسم بشكلٍ واضحٍ، فكيف سيكون ردّ بكين، ما قبل الاتهامات عن نشر فيروس كورونا، وما بعدها، أيضًا؟
للوهلة الأولى، بدت إجراءات بكين المضادة مرتبكةً في البداية. فعلى الرغم من أنّ روايتها حول إدخال الرياضيين الأميركيين الفيروس إلى مقاطعة ووهان أثناء الألعاب العسكرية الدولية في أكتوبر/ تشرين أول عام 2019، بدت فظّةً، تستمر بكين بالإصرار على هذه الرواية.
وفي الأيام الأخيرة، قامت صحيفة لوموند الفرنسية بمتابعة الإدعاءات الصينية، غير أنّ النتائج التي توصلت إليها الصحيفة لم تأت في صالح بكين، و”هذه نظرية مؤامرة”، استنتجت الصحيفة.
لكن بكين، التي تمكنت في آذار/ مارس، ونيسان/ أبريل من تحقيق نجاحٍ نسبيٍّ في السوق
الطبية الأميركية، وجدت حليفًا تكتيكيًا لها في الصحافة الليبرالية الأميركية، التي تنطلق من منطقٍ بسيط: طالما أن ترامب ينتقد الصين، فعلينا مدحها بأي طريقة ممكنة. ولكن بكين لم تحظ بالتعاطف: فلم يعد أحدٌ يتحدث عن “الصين الجيدة”، بل عن “ترامب السيئ”.
هل فشلت بكين؟ يبدو الأمر برمتّه كعملية تغطية لا أكثر. فقيادة الصين تدرك أنّها لن تستطيع الحفاظ على صورتها في العالم الغربي كنموذج “حرب العولمة” وكـ”منقذ العالم”. ومن ناحيةٍ أُخرى، فقد تغيّرت أولويات بكين نفسها. فإن كانت في السابق ترى حلفها الخاصّ في إطار مبادرتها “حزامٌ واحد – طريق واحد” أفقًا بعيد المدى، فإنّها اليوم تمثّل فقط عاملًا واحدًا في مستقبل ما بعد كورونا، الذي يمكن استشفافه بالعين المجردة.
في 11 أيار/ مايو الماضي، نشرت صحيفة people’s daily في نسختها الصينية مقالة تضمنت بالإضافة إلى الانتقادات الحادّة بحق الولايات المتحدة الأميركية، وغيرها من الدول “التي تنشر أخبارًا كاذبة ونظريات المؤامرة، وجهة نظرٍ بشأن كيفية بناء سياسة طبية في إطار مشروع البنية التحتية الصيني العملاق. كما وجهت رسالة إلى قادة الدول الراغبة بالبقاء ضمن مبادرة “حزام واحد – طريق واحد”، التي تريد الحصول على الاستثمارات الصينية والاستفادة من أحدث التقنيات، تطالبهم بتبني وجهة نظر القيادة الصينية في المجال الطبي. بطبيعة الحال، لا تستطيع كثير من الدول الآسيوية والأفريقية رفض هذا الطلب الصيني. وهذا يعني، من الناحية النظرية، إعلانًا ببدء تشكيل حلفِ صيني كبير. بالطبع، لم يُقرر شيءٌ بعد، فبناء هكذا تحالفٍ سيواجه كثيرًا من العقبات الجديّة. غير أنّ منطق بناء عالمٍ جديد ما بعد كورونا أمرٌ مفهوم. فبدلًا من العولمة يأتي عالم المناطق. والمثير في الأمر أنّ المناطق لن تكون جغرافية المعالم. المهمّ في الأمر هو التفاهم المتبادل بشأن الموارد، وحول الترابط الاقتصادي، بما يسمح ببناء هيكلٍ صناعيٍّ – تكنولوجيّ سياديّ (في إطار المنطقة)، وبناء سوقٍ داخليٍّة كبيرة (أقلّه 300 – 400 مليون إنسان). على عكس أوقات الحرب الباردة، لا تستطيع الولايات المتحدة والصين تشكيل أحلافٍ تشمل العالم برمتّه، وهذا يعني نشوء مراكز استقطابٍ جديدة أُخرى، وسيكون على الدول التي لديها مخططاتٌ مستقبلية كبيرة، إمّا بذل جهودٍ حثيثة لتشكيل حلفها الخاصّ، أو الانضواء في بنية أحد مراكز الاستقطاب هذه. في تلك المرحلة، قد يكون السيناريو الأسوأ هو التمسّك باستراتيجية “الإبقاء على توجهاتٍ متعددة المسارات”، التي لاقت شهرةً واسعةً في التسعينيات، وفي العقد الأول من القرن الواحد والعشرين. أفضل مثالٍ على هذا هو المثال البريطاني، فقد كان في إمكان بريطانيا، قبل ثلاث سنوات، أن تصبح نفسها مركز استقطابٍ في المنطقة، أو أن تشغل فيها مركزًا متقدّمًا على أقلّ تقدير. ولهذا سيكون على ألمانيا الآن الاختيار: إمّا أن تصبح مركزًا في المنطقة، أو أن تصبح جزءًا من “بكين الكبرى”. أمّا بقية الدول الأوربية، فسيكون عليها أن تختار ما بين: بكين، أو واشنطن. وأمام دولٍ، مثل اليابان وكوريا الجنوبية، أن تنتظر أن تبتلعها الصين، إن عاجلًا، أو آجلًا، إن احتارت في اختيار بكين مركزًا لاستقطابها.
ولن يكون أمام روسيا خيارٌ سوى أن تحاول أن تكون مركزًا لحلفٍ كبير بعد كورونا، لأنّ مستقبلها السيادي لن يصمد في حال ارتأت البقاء “في الباحة الخلفية” لدولةٍ عظيمة أُخرى (كالصين مثلًا). وبالمناسبة، يمكن لبعض الدول الانضمام إلى منطقة الاستقطاب التي تكون روسيا مركزها.
استقطاب كوروني
لم يأت إطلاق الرئيس الأميركي على فيروس “كوفيد – 19” الفيروس الصيني كـ”دعابةٍ سمجة”، أو نزوةٍ من نزوات ترامب. إذ لم يعد سرًّا الآن أنّ الجدل المثار حول مسؤولية السلطات الصينية عن انتشار فيروس كورونا لا يتعلق البتّة بالناحية الطبية، بل هو جزءٌ من
الحرب المعلوماتية الكبرى التي تدور رحاها بين واشنطن وبكين، والتي هي بدورها ليست سوى جزءٍ من الصراع على العالم ما بعد كورونا. وبغض النظر عن الجانب الذي يمتلك الحقيقة الموضوعية (الأمر الذي لن نعرفه، حتى بعد مئة عام)، يبقى الجانب الأهم في المسألة الآن هو من يمتلك الأدلة الأكثر إقناعًا، إلى جانب النتائج التي ستترتب على الأطراف التي تقتنع/ أو لا تقتنع بالأدلة بالأدلّة التي يسوقها كلّ من أطراف الصراع.
فإن صدقت دولةٌ ما رواية واشنطن، سيكون عليها السير في طريق الولايات المتحدة، وإن أخذت دولةٌ بوجهة نظر بكين، فسيكون عليها السير مع الصين في كلّ المسائل. هذا الخيار حتميٌّ على ما يبدو، لأن البيت الأبيض، وقيادة جمهورية الصين الشعبية، سيضعان الأمر على هذا النحو في كلّ الأحوال (بحسب عبارة بوش الإبن الشهيرة بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001: إمّا معنا، أو ضدّنا!).
للوهلة الأولى، تبدو الولايات المتحدة الأميركية ممسكةً بزمام المبادرة، وتبدو الصين في موقع الدفاع عن النفس لا أكثر. بيد أنّ الأمر ليس بهذه البساطة إطلاقًا. إذ يجب الأخذ بعين الاعتبار الحسابات التي تعتمدها هذه الحملة البروباغاندية، أو تلك. فقد نجحت واشنطن في تهيئة جمهورها جيدًا، وتمكنت من جرَّ ألمانيا، وبريطانيا، وأستراليا، ونيوزيلندة، إلى جانبها. وفي حين لا يزال موقف بعض الدول الأوربية متأرجحًا، فإنّ دولًا مثل إيطاليا، وإسبانيا، واليونان، تلتزم جانب الصمت، مدركة حاجتها للمستلزمات الطبية والبضائع العادية الصينية، وعارفةً أنّ الشركات الصينية تسيطر عمليًا على العديد من الموانئ الكبرى في جنوب أوروبا. وفي وقتٍ لم تؤكّد الاستخبارات الألمانية بعد رسميًا الرواية الأميركية عن مسؤولية المخابر الصينية في مقاطعة ووهان عن انتشار الفيروس، فإنّ صحيفة (دير شبيغل) النافذة أوضحت أن القيادة الصينية، وبتوجيهٍ مباشر من القائد الصيني، (زي تسن بين) طلب من الجهات الصحية في
كانون الثاني/ يناير عدم إبلاغ المجتمع الدولي بإمكانية انتقال الفيروس “كوفيد – 19” بين البشر.
وشأنهم شأن علماء الأحياء (البيولوجيا)، قد يخطئ عملاء الاستخبارات. ولكن جوهر المشكلة لا يكمن هنا. فقد تبنّت وكالة الاستخبارات الألمانية الموقف الإنكليزي، تاركةً لقيادة البلاد السياسية مساحةً معقولةً للمناورة. على سبيل المثال، طالبت المستشارة إنغيلا ميركل سلطات بكين بالكشف عن كلّ المعطيات المتوافرة بشأن بداية انتشار الفيروس.
اختارت بريطانيا على الفور الوقوف إلى جانب الولايات المتحدة الأميركية، الأمر الذي لم يكن ليفاجئ أحدًا بطبيعة الحال. أمّا موقف أستراليا ونيوزيلندا من الحلف الأنكلو – أميركي فأمرٌ مختلف، على الرغم من تهديد بكين بوقف مستورداتها من لحوم البقر منهما، تقود كلٌّ من كانبيرا، وويلنغتون، حملة شعواء ضدّ بكين. فما هي الدوافع وراء هذه الحملة الشرسة التي يشنها هذان البلدان على الصين؟ يمكن أن نجد أحد التفسيرات في حقيقة أنّ الاستخبارات الأسترالية والنيوزيلندية هما عضوان في النظام المسمّى “العيون الخمسة”، الذي يضمّ أيضًا الاستخبارات في بريطانيا، والولايات المتحدة الأميركية، وكندا. فهل من الممكن أن تكون هذه “العيون الخمسة” قد رأت شيئًا لم يره الآخرون؟ أما موقف كندا فيبقى ثابتًا، فسلطات أوتاوا تنأى بنفسها حتى اللحظة عن الحملة القائلة بمسؤولية جمهورية الصين الشعبية عن انتشار الفيروس. حقيقة أن بريطانيا، وأستراليا، ونيوزيلندا، مستعدة للتحالف مع الولايات المتحدة الأميركية ليس في مواجهة الصين فقط، بل والدول الأوربية أيضًا، لا يعود إلى استعداد بريطانيا وأستراليا ونيوزيلندا للتحالف مع الولايات المتحدة الأميركية لاعتبارات تكتيكية فقط. الأمر عكس ذلك. فمن الناحية التكتيكية، سيؤدي هكذا قرار إلى ظهور كثيرٍ من المشاكل في هذه الدول. إذًا، يتعلق الأمر باستراتيجية كبرى بعيدة المدى.
المصدر: ضفة ثالثة