أجرت روسيا في الفترة ما بين الـ15 والـ17 من مارس (آذار) انتخابات رئاسية لتجديد قبضة الرئيس فلاديمير بوتين على السلطة. وليس ثمة أي شكوك فعلية في شأن النتيجة التي ستؤذن ببدء ولايته الخامسة في منصبه. بيد أن الكرملين اتخذ خطوات غير اعتيادية من باب الحيطة: ففي الثامن من فبراير (شباط)، أعلنت لجنة الانتخابات المركزية استبعاد المرشح المناهض للحرب بوريس ناديجدين من الترشح. وبعدها بثمانية أيام، توفي أليكسي نافالني في سجن في القطب الشمالي، وهو الحدث الذي ألقي فيه باللائمة على الدولة الروسية بشكل واسع، مما يمثل خسارة أبرز زعماء شخصية معارضة في روسيا. لم يكن نافالني مترشحاً للانتخابات، لكن السياسة الروسية كانت مختزلة حتى الأمس القريب بالمواجهة بين نافالني وبوتين. والآن وبعد أن أصبح بوتين منفرداً في الميدان السياسي، ومع خروج شخصيات مثل نافالني وناديجدين من المضمار، فقد غدا ممكناً أن يقدم التصويت تأكيداً مدوياً يصب في مصلحة بوتين ومشروعه المفضل: الحرب في أوكرانيا.
روسيا ليست الآن دولة مستقرة ولا هي في وضع طبيعي. تمثل الانتخابات الرئاسية الحالية ذروة ما يمكن وصفه بالمرحلة الأخيرة من الأيديولوجية “البوتينية”، التي بدأت مع الاستفتاء الدستوري في صيف عام 2020، عندما مددت ولاية بوتين المحتملة حتى عام 2036. ومع ذلك، تنطوي هذه المرحلة على ما هو أبعد من الاستبداد. فقد أوضح بوتين أن روسيا تخوض حرباً مع الغرب لا تنطفئ نارها، وهو ما يمنحه سبباً إيديولوجياً لوجوده وشماعة لنخبته الحاكمة للاستئثار بزمام السلطة. ولكي يستمر كل ذلك، كان لا بد له من أن يستنزف على الدوام موارد البلاد، المالية والبشرية والسياسية والنفسية، وهو أمر يشير إلى هشاشة البلاد السياسية والاقتصادية.
ولدى النظر في الوضع المالي والاقتصادي، فسنجد أنه على رغم التزام الاقتصاد الروسي بمبادئ السوق الأساسية، إلا أنه يعتمد بشكل متزايد على الاستثمار الحكومي. وأضحى القطاع الصناعي العسكري هو المحرك الطاغي لهذا الاقتصاد غير الصحي وغير المنتج، كما توضح موازنة 2024، التي تخصص أموالاً أعلى بمقدار 1.7 مرة للنفقات العسكرية مقارنة بأرقام العام الماضي المتضخمة، لتصل إلى 25 في المئة من إجمالي الإنفاق. وفي الوقت عينه، توفر الصادرات الروسية، ولا سيما موارد النفط والغاز، عوائد متضائلة بسبب إغلاق الأسواق الغربية والاضطرار للبيع بأسعار مخفضة. ومع ذلك لم تستنفد هذه الموارد غير المتجددة بالكامل بعد، ويبدو أن بوتين، يأمل أن تكون كافية، في الأقل، لتغطي ما تبقى من حياته.
تشكل الديموغرافيا تحدياً أكبر بالنسبة إلى روسيا. فناهيك عن الاتجاه المستمر لشيخوخة السكان، فإن الحاجة المتزايدة إلى الجنود وانهيار تدفقات المهاجرين يدفعان البلاد نحو شفا أزمة ديموغرافية. ويحذر الاقتصاديون من أن كل هذه الضغوط ستجتمع على المدى المتوسط لتؤدي إلى انخفاض إنتاجية العمل. وعلى رغم أن النمو المصطنع للأجور من خلال الاقتصاد العسكري أدى إلى تحسين الوضع في الوقت الراهن، إلا أنه خلق تشوهات في المقابل. وفيما ينشغل بوتين برفع معدل المواليد بأي ثمن، فليس ثمة دلائل تذكر على إمكان تغيير ذلك. فلن ينجب المجتمع الروسي الحديث والمتحضر العدد الذي يحتاج إليه بوتين من الأطفال لرفد القطاع الصناعي العسكري. وعلاوة على ذلك، كيف عسى لعائلة روسية أن تخطط للمستقبل في حال حرب دائمة؟
ومع ذلك، تغدو الموارد النفسية أكثر الموارد ندرة. ومع عجزه عن إشباع توق عامة الناس إلى السلام والحياة الطبيعية، لجأ النظام إلى الإنفاق الاجتماعي الهائل والمعاملة التفضيلية للفقراء، مما أدى إلى تحويل روسيا إلى “عالم دمية باربي ” في عهد بوتين [في إشارة إلى ما يرتبط بالجمال السطحي والمعايير غير الواقعية. وعن الحالة الروسية هنا المقصود هو خلق وهم الرفاهية والرخاء، ولكن القضايا والتحديات الأساسية تظل من دون معالجة]. فيما تحول المجتمع الروسي بدوره إلى التكيف والبقاء، بدلاً من التطور. لكن المجتمع المدني غير القادر على الاحتجاج علناً، الذي يأنف تقمص صفات المجتمع اللامبالي، أظهر مقاومة أخلاقية: حيث اصطف الناس في طابور علني لتقديم توقيعاتهم لمصلحة ناديجدين، وبعد وفاة نافالني، حملوا الزهور والشموع إلى النصب التذكارية لضحايا القمع الستاليني. أما أرتال الناس الذين اصطفوا لوداع نافالني، الرجل الذي جسد البديل لبوتين، فضمت حشوداً غفيرة.
الوضع الشاذ في روسيا لم تكن بدايته في عام 2022 [غزو أوكرانيا]. فقد كان نظام بوتين ينحرف بثبات نحو الاستبداد منذ بدايته قبل أكثر من عقدين من الزمن. وفي وقت مبكر من شهر ديسمبر (كانون الأول) من عام 2000، أعاد بوتن النشيد الوطني الستاليني القديم، مقدماً تحذيراً مسبقاً عن نواياه. وعلى رغم اختلاف الكلمات، إلا أنها كانت إشارة واضحة إلى اتجاه المستبد المستقبلي. في ذلك الوقت، كانت النزعات الاستبدادية للنظام مخفية إلى حد ما، وهي اليوم واضحة بشكل صارخ. وبكل بساطة، يبدو أن بوتين وفريقه افترضوا أنه سيكون لدى روسيا ما يكفي من الاحتياطات على اختلاف أنواعها طوال فترة حياتهم، بما في ذلك قدرة سكانها على التحمل، ولا يهم ما سيحدث للبلاد من بعد ذلك.
كرملين طبيعي
في مجلة “فورين أفيرز” قبل 20 عاماً، وصف أندريه شلايفر ودانيال تريسمان روسيا بأنها “دولة طبيعية”. وفي إشارة إلى صعود اقتصاد السوق وبدايات المؤسسات ذات النمط الغربي، جادلا بأن الاتحاد الروسي أصبح “ديمقراطية رأسمالية نموذجية متوسطة الدخل”، دون الكمال، ولكنها بعيدة من “إمبراطورية الشر” التي كانت تهدد ذات يوم الناس “داخل البلاد وخارجها”. وبعد 10 سنوات، نشرا مقالة أخرى في مجلة “فورين أفيرز” تحت عنوان: “البلدان الطبيعية”، في إشارة إلى النجاح النسبي للطيف الأكبر من دول الكتلة الشرقية السابقة. وكتبا: “إن إصلاحات السوق، ومحاولات بناء الديمقراطية، والنضال ضد الفساد لم تفشل، على رغم أنها لا تزال غير مكتملة”.
قد تعتبر هذه الآراء ساذجة نظراً إلى ما حدث لروسيا في السنوات التي أعقبت ذلك. وعلى جميع الأحوال، فمن المؤكد أن روسيا لم تعد مؤهلة باعتبارها دولة “طبيعية”. لكن شلايفر وتريسمان لم يكونا مخطئين بالمطلق: فقد اعترفا بأن روسيا ربما لا تزال تتبع مساراً استبدادياً. أما بالنسبة إلى دول ما بعد الاتحاد السوفياتي الأخرى في أوروبا الشرقية، فعلى رغم كل الصعوبات التي اعترضت تحولها إلى اقتصاد السوق والديمقراطية، فقد حدث هذا التحول بالفعل على رغم كل العيوب التي اعترته. وعلاوة على ذلك، نجحت الديمقراطية التعددية والانتقال السلمي للسلطة في تلك البلدان: وكانت انتخابات بولندا في أكتوبر (تشرين الأول) 2023، التي جلبت الليبرالي الوسطي دونالد تاسك إلى سدة الحكم بعد سنوات من حكم حزب القانون والعدالة اليميني، خير شاهد على ذلك.
لكن التاريخ غالباً ما يأخذ منعطفات غير متوقعة وغير سارة. ففي بداية القرن الـ20 في أوروبا، على سبيل المثال، بدا أن ظهور أول عصر عظيم للتجارة العالمية أزال شبح الحرب. ومع ذلك، في عام 1914، اندلعت الحرب العالمية الأولى. وعلى نحو مماثل، قوبلت الخطوات الأولية التي اتخذتها روسيا نحو الحياة الطبيعية بانتكاس: هلل الغرب للإصلاحات التي جرت إبان تسعينيات القرن الـ20، ثم علقت فيما بعد آمالاً كبيرة على ديمتري ميدفيديف، الذي بدأ خلال فترة ولايته الوحيدة كرئيس لروسيا من عام 2008 إلى عام 2012، على ما يبدو، موجة جديدة من جهود التحديث وحتى “إعادة ضبط” العلاقات مع الولايات المتحدة.
في الواقع، لعله كان من شأن الاحتجاجات الجماهيرية المؤيدة للديمقراطية التي اجتاحت البلاد بين عامي 2011 و2012 أن تقود روسيا نحو التحول الديمقراطي الكامل. بدا هذا الهدف في متناول اليد لوهلة من الزمن. لكن عودة بوتين للرئاسة في عام 2012 كانت بمثابة بداية تحول سريع وعنيف وغير قابل للردع نحو الاستبداد. أصبحت الدولة والمجتمع، أكثر فأكثر بعداً من الوضع الطبيعي.
ردود الفعل السلطوية
وبالعودة لعام 2004، فإن تحول روسيا الواضح نحو الديمقراطية الرأسمالية لم يكن وهماً بالمطلق. ولكن في تلك اللحظة على وجه التحديد، مع بداية الولاية الرئاسية الثانية لبوتين، بدأت روسيا في إهدار الفرص المتاحة لها لتحقيق التنمية الطبيعية. في الواقع، فإن التقدم الاقتصادي الذي بدا رائعاً للغاية لم يكن من الممكن أن يعزى إلى بوتين، بل كانت ثمار تحول روسيا المبكر من الاشتراكية إلى الرأسمالية والإصلاحات الاقتصادية الجذرية في أوائل التسعينيات. المهندس الحقيقي لهذه الإصلاحات، إيجور جيدار – وهو خبير اقتصادي مشهور عمل لفترة وجيزة كرئيس للوزراء بالإنابة في عهد الرئيس بوريس يلتسين – تعرض للتشهير من عامة الناس، الذين حملوه المسؤولية عن زوال الاقتصاد السوفياتي وإفقار السكان. وسمح هذا لبوتين بتصوير نفسه باعتباره المهندس الرئيس لاقتصاد ما بعد الاتحاد السوفياتي، على رغم أنه لم يلعب أي دور جوهري في تأسيسه. وعلى رغم أن بوتين أظهر في البداية درجة معينة من الجدية تجاه الإصلاحات الاقتصادية خلال أول عامين له في منصبه، إلا أنه فقد الاهتمام تدريجاً بعد ذلك. في الواقع، كانت القوة الدافعة وراء الاقتصاد الروسي هي تدفق أموال النفط – وهي ظاهرة لم يكن لبوتين أي دور فيها.
وكانت هناك مؤشرات إضافية في وقت مبكر على أن بوتين لم يكن من أنصار الإصلاح. ففي عام 2001، استحوذت شركة “غازبروم” على قناة “إن تي في” التلفزيونية المستقلة، التي كانت تعد رمزاً للديمقراطية إبان التسعينيات وكثيراً ما انتقدت بوتين، وتحويلها إلى ذراع لوسائل الإعلام الحكومية الرسمية. وفي عام 2003، ألقي القبض على رجل الأعمال ميخائيل خودوركوفسكي، لتقوم الحكومة بعد ذلك بتفكيك شركته النفطية الناجحة “يوكوس”، في سلسلة من عمليات البيع القسرية. وفي حين كانت الأعمال التجارية ومراكمة الثروة أمرين ممكنين، لكن بالنسبة إلى المشاريع الكبرى، فهذا لا يتسنى إلا إذا ارتبطت باتصالات مناسبة مع النخبة السياسية.
أصبحت روسيا فعلياً دولة الحزب الواحد بعد هزيمة اتحاد قوى اليمين وحزب “يابلوكو” الديمقراطي في الانتخابات البرلمانية عام 2003، وهو التصويت الذي فشل في تلبية المعايير الديمقراطية، وفقاً لكل من مجلس أوروبا ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا. ومع صعود حزب روسيا المتحدة الحاكم، أصبحت الأحزاب الرئيسة المتبقية، متمثلة بالحزب الشيوعي والحزب الديمقراطي الليبرالي الشعبوي الروسي بقيادة فلاديمير جيرينوفسكي، ملحقة بالكرملين. ومنذ تلك اللحظة، توقف مجلس الدوما عن العمل كهيئة تشريعية مستقلة.
عادت النزعات الاستبدادية إلى الظهور داخل النظام السياسي، مما أدى إلى زيادة سيطرة الدولة على مختلف جوانب الحياة الاجتماعية. على سبيل المثال، في عام 2003، استولت الدولة على مركز أبحاث الرأي العام الروسي، المعروف باسم VTsIOM، المركز الرئيس للبحوث الاجتماعية في البلاد، ووضعته تحت سيطرة الحكومة. (شكل فريق VTsIOM القديم مركز “ليفادا” المستقل، الذي سمي تيمناً بمؤسسه يوري ليفادا). وبالفعل، كانت الدولة تسعى إلى فرض هيمنتها على الطريقة التي ينظر بها الروس إلى أنفسهم ومجتمعهم.
لا يمكن اعتبار مثل هذا النظام طبيعياً، لكن النخب الروسية وعديد من الناس في الغرب أقنعوا أنفسهم بأنه كذلك. وافترض كثيرون أن السلطات لن تجازف باتخاذ خطوات علنية نحو القمع، مما قد يعود بنتائج عكسية، وبالتالي يعرض حياتهم ذات الامتيازات للخطر. واستمرت هذه الافتراضات حتى بعد أن نجح الكرملين في تحييد كل المنافسة السياسية وغزو جورجيا في عام 2008. ثم علق الغرب آماله في تجديد الليبرالية على الرئيس الجديد ميدفيديف، الذي افترض كثيرون أنه سينفصل عن بوتين ليشكل شخصية مستقلة.
وفي هذه الأثناء، كانت روسيا أيضاً في طور الشروع في مرحلة أخرى مما يسمى بالتحديث الاستبدادي، وهي الاستراتيجية التي أعطت الأولوية للإصلاحات الاقتصادية التكنوقراطية على التحرير السياسي، وهو ما اعتبره الكرملين غير ضروري. والواقع أن ميدفيديف أنشأ مركزاً جديداً، وهو “معهد التنمية الحديثة”، للإشراف على التحرير الحذر ليس فقط للاقتصاد فحسب، وإنما للسياسة أيضاً، فيما كان من المفترض أن يشكل خريطة طريق لمستقبل روسيا. ومع ذلك، لم تسفر هذه الجهود عن نتائج تذكر. في الوقت نفسه، عمل عديد من الخبراء أنفسهم على استراتيجية 2020، وهي خطة تهدف إلى دفع روسيا إلى واحدة من الاقتصادات الرائدة في العالم بحلول عام 2020. وحتى عندما كان بوتين يستعد لولايته الرسمية الرابعة، في أواخر 2016-2017، تم إطلاق مبادرة تحديث أخرى بقيادة وزير المالية الأسبق أليكسي كودرين. لكن في كل مرة، كانت هذه الجهود تحبط بسبب الافتقار إلى الإرادة السياسية، وتجلى بوضوح أن أية محاولة للتحديث الاستبدادي ستنتهي ببساطة بالاستبداد، من دون بلوغ غاية التحديث. ومن الواضح أن عديداً من الخبراء الذين قادوا هذه الجهود في العامين الماضيين إما همشوا أو أجبروا على مغادرة البلاد.
من مستهلكين إلى راضخين
في الواقع، كان بوتين في هذه المرحلة منهمكاً في سعيه الدؤوب إلى تحديث روسيا. وبعد عودته للرئاسة عام 2012، شرع بتفكيك المؤسسات الديمقراطية ووضع القوانين القمعية. وفي عام 2014، استولى على شبه جزيرة القرم، الأمر الذي برره بإيديولوجية إمبريالية ذات نبرة شديدة المحافظة. توقفت عجلة الإصلاحات الاقتصادية. وبحلول الانتخابات الرئاسية لعام 2018، تملكت السلبية واللامبالاة عديداً من الروس وكانوا يصوتون بشكل آلي، مدركين أنهم لا يستطيعون التأثير في مجرى الأمور. ومع ذلك، تعرضت شعبية بوتين لضربة قوية بعد الانتخابات عندما رفعت الحكومة سن التقاعد، وأدت الجائحة إلى تراجع دعمه بشكل أكبر. وبذلك يكون حان الوقت لاتخاذ تدابير الطوارئ. وفي صيف عام 2020، أجري استفتاء لتغيير الدستور، وإعادة مواءمة فتراته الرئاسية، وربما تمديد حكمه حتى عام 2036، ووافقت الأغلبية الراضخة. واكتمل توطيد بوتين لنظام شبه شمولي رمزياً، بعد شهرين فقط، عبر محاولة تسميم خصم بوتين الرئيسي، أليكسي نافالني.
لكن الخطوة التالية هي التي نسفت تحديث روسيا واجتثته من جذوره: الحرب في أوكرانيا. بإطلاق “العملية العسكرية الخاصة”، كان بوتين يضرب بعرض الحائط الإرث الديمقراطي، ليس لبوريس يلتسين فحسب، وإنما لميخائيل غورباتشوف أيضاً. فقد نسف بوتين كل ما أنجز في روسيا منذ عام 1985، بدءاً من إنشاء المؤسسات الديمقراطية إلى إلغاء الرقابة وإعادة توحيد الثقافتين الروسية والأوروبية، بضربة واحدة. وأطلقت الحرب العنان للنظام، الذي سحق في وقت قصير بقايا هذه المؤسسات وعاد للقمع بدرجة توازي المستوى الذي كان سائداً أيام الاتحاد السوفياتي. وفي الواقع، فقد انطوى ذلك أيضاً على الانفصال عن النظام العالمي الذي ظهر للمرة الأولى بعد عام 1945 ثم أصبح مهيمناً بعد عام 1989.
ومن المثير للدهشة أنه خلال هذا الانحدار الذي دام 20 عاماً وصولاً إلى هاوية الاستبداد، لم يشعر أغلب الروس، ناهيك عن النخب الانتهازية، بالانزعاج الشديد. فبالنسبة إليهم، كانت كل خطوة يتم اتخاذها مجرد أمر طبيعي جديد. وحتى بعد عام 2014، عندما بدأت جميع المؤشرات الاجتماعية والاقتصادية، بما في ذلك دخل الأسرة الحقيقي، في الركود، لم يفطن سوى عدد قليل من الروس لوجود صلة مباشرة بين قبضة النظام المشددة واقتصاد البلاد الفاشل. وعلى جميع الأحوال، تخلى كثيرون عن النضال من أجل التحديث بعد ضم شبه جزيرة القرم، واختاروا بدلاً من ذلك الانضمام إلى النشوة القومية الإمبريالية التي اجتاحت البلاد. فمن الصعب السباحة عكس التيار.
على رغم المناخ القمعي، استمرت المعارضة السياسية خلال تلك السنوات، إذ نزل الناس إلى الشوارع وتحركت مجموعات المجتمع المدني. وخاض عديد منهم غمار أخطار كبيرة، بما في ذلك تصنيفهم ضمن خانة “العميل الأجنبي”، وهو التصنيف القانوني الذي وضعه الكرملين في عام 2012 لأي شخص يتلقى الدعم من خارج روسيا أو يبدو أنه يتأثر بمصادر خارجية. لكن كلما كانت مقاومة الناس أكثر شراسة، زاد قمع الحكومة لهم. وفي عام 2020، أظهر تسميم نافالني إلى أي حد كانت السلطات مستعدة للمضي قدماً، ولتجنب الاعتقال، بدأ عديد من الشخصيات المعارضة بمغادرة البلاد. وأثارت عودة نافالني لروسيا في مطلع عام 2021 واعتقاله موجة جديدة من الاحتجاجات العنيفة. ومع ذلك، واصل نظام بوتين ضغوطه، من دون عوائق أو قيود، متجهاً نحو التوسع الخارجي، ودخل في صراع داخلي مع بقايا المجتمع المدني.
وكانت المشكلة الاجتماعية الرئيسة تتلخص في أن اقتصاد السوق في روسيا كان سبباً في تحويل الروس إلى مستهلكين رأسماليين عاديين عوضاً عن جعلهم مواطنين مشاركين. وبعد أن تكيفوا مع ظروف السوق الجديدة خلال الفترة الانتقالية في مرحلة ما بعد الاتحاد السوفياتي، لم يروا العلاقة الوثيقة بين السوق المفتوحة والديمقراطية السياسية. وفي المدن الكبرى، لم يفهم أحد المغزى من الديمقراطية، أو تداول السلطة، أو حقوق الإنسان، لأنه حتى في ظل الاستبداد المستنير، شعر عديد من الناس بأنهم على ما يرام. وعلى رغم انخفاض متوسط الدخل الحقيقي والمشكلات بين الطبقات العاملة، إلا أن الطفرة الاستهلاكية استمرت. واعتاد الروس من الطبقة المتوسطة قضاء إجازتهم في أوروبا. وأصبح الروس أصحاب ذوق رفيع في النبيذ الفرنسي والإيطالي والإسباني، وتبنوا بشغف أحدث التقنيات، ومن ثم أعلنهم بوتين ورثة إمبراطورية عظيمة من خلال الاستيلاء على شبه جزيرة القرم- من دون إطلاق رصاصة واحدة. وبالنسبة إلى عديد منهم، كان من السهل التقليل من أهمية الديمقراطية في غمرة كل هذا.
وعلى أية حال، لم يؤمن بوتين قط بالتحديث، لذا فعندما شعر بأنه لا يجدي نفعاً، اتخذ خياراً واعياً بإحياء أمجاد الماضي والنكوص على التحديث بدلاً من ذلك. في البداية، بدأ النظام في الانكفاء على نفسه، ثم بدأ تدريجاً في رفض كل ما يأتي من الغرب، واعتنق مفهوم “المسار الروسي” الذي يعود للعصور الوسطى الذي ينظر إلى النفوذ الأوروبي باعتباره هرطقة.
لا مزيد من كتب الأطفال
سيفاجأ بوتين عندما يطلق عليه لقب “الماركسي”. لكنه في الأقل جزئياً من أنصار الحتمية الاقتصادية، لأن تكتيكه الأساسي للحفاظ على السلطة يتلخص في الحفاظ على مستوى كاف من الرفاه الاجتماعي والاقتصادي، على وجه الخصوص من خلال شراء ولاء الطبقات المتوسطة الدنيا بالدعم الاجتماعي. وإذا كان من الممكن التغلب على الإخفاقات الاقتصادية من خلال القمع السياسي والإيديولوجية القومية الإمبراطورية القديمة، فمن الممكن أن نحكم أمداً طويلاً. لكن كما زعم عالم الديموغرافيا الروسي أناتولي فيشنفسكي، فإن التركيبة السكانية ستتفوق دائماً على الاقتصاد على المدى الطويل. من غير المرجح أن يكون بوتين قرأ فيشنفسكي، ومن المؤكد أن حكومته تجاهلت تحذيرات فيشنفسكي في شأن الأخطار التي يتعرض لها رأس المال البشري نتيجة للاتجاهات الديموغرافية الطويلة الأمد في روسيا.
فشل بوتين بالفعل في هذا المجال الأكثر حيوية. والآن ينفق الكرملين رأس المال البشري بإسراف، وكأنه سلعة لا أكثر. وطوال الوقت، يتحدث النظام عن “إنقاذ الشعب”، وهي العبارة التي صاغها المنشق السوفياتي ألكسندر سولجنيتسين لتعني احترام حياة الإنسان، ووظفها بوتين باعتبارها دعوة منافقة لزيادة الخصوبة. ولتعزيز هذا الهدف، يواصل الكرملين كفاحه ضد العلاقات المثلية والإجهاض في حين يعمل على تشجيع الأسر “التقليدية”. وليس من قبيل المصادفة أن يعلن بوتين عام 2024 عاماً للأسرة وأن يكرس جزءاً كبيراً من خطابه الرئاسي لعام 2024 لدعم الأسر الكبيرة.
لكن “إنقاذ الناس” يعد وعداً غريباً بالنسبة إلى مهندس حرب مميتة. وكما لاحظت زوجات الرجال الذين تم حشدهم للقتال في أوكرانيا في بيان صدر في نوفمبر 2023، “تركت الزوجات يندبن أزواجهن، ليكبر الأطفال من دون آبائهم، والتحق عديد منهم بدور اليتامى”. من الصعب تجنب الانطباع بأن بوتين بدأ تحولاً ديموغرافياً عكسياً، تصبح فيه الوفاة في سبيل الوطن ذات قيمة أعظم من الحياة في سبيل الوطن، إذ يبدو عدد حالات الموت الناجم عن “أسباب خارجية”، وهو التعبير البيروقراطي الملطف للوفيات الناجمة عن حوادث المرور على الطرق، والكحول، وربما الخدمة في الخنادق، مرتفعاً بشكل غير متناسب. (لا تزال الأرقام الفعلية لقتلى المعارك غير معروفة).
تظهر كل من الإحصاءات الحكومية والمؤشرات غير المباشرة أن معدل المواليد في روسيا انخفض منذ 2016-2017. فعلى سبيل المثال، يشتكي ناشرو الكتب تضاؤل جمهور كتب الأطفال: وبحلول عام 2027، يتوقع علماء الديموغرافيا انخفاضاً بنسبة 23 في المئة في الفئة العمرية الرئيسة ممن تتراوح أعمارهم بين خمس وتسع سنوات، بناء على الانخفاض نفسه في الفئة العمرية من صفر إلى أربع سنوات بين عامي 2017 و2022. لا شك في أن معدلات المواليد تتبع اتجاهات طويلة الأمد، ويتلخص أحد التفسيرات لذلك في العواقب الديموغرافية الجسيمة التي قد تترتب على التحول إلى دولة ما بعد الصناعة: بدأ المجتمع الروسي في التحول إلى الحداثة، مع انتقال الناس إلى المدن، وزيادة تعليمهم، وإنجاب عدد أقل من الأطفال، في ستينيات القرن الـ20. ولكن السبب الآخر وراء انخفاض معدل المواليد في روسيا اليوم هو أن بوتين يحتاج إلى الجنود والعمال في مصانع القطاع الصناعي العسكري، في حينِ أن عدداً أقل من الروس اليوم يريدون أن يكبر أطفالهم ليصبحوا جنوداً وعمالاً.
وفي المقابل، أدى انخفاض عدد السكان ممن هم في سن العمل، جراء شيخوخة السكان في المقام الأول ودخول أعداد أصغر إلى سوق العمل، إلى نقص هائل في العمالة. وفي عام 2023، كان عدد الوظائف الشاغرة يفوق عدد العمال بأكثر من مليوني وظيفة. ووفقاً لتوقعات المتخصصين في سوق العمل وعلماء السكان، بحلول عام 2035، سينخفض عدد العمال الروس بمقدار يتراوح بين 3 و4 ملايين، وستنخفض نسبة الشباب في سوق العمل بشكل مطرد، فضلاً عن أن مستوى التعليم بين القوى العاملة سيشهد انحداراً. وفي ظل السيناريو الأكثر تشاؤماً الذي صاغته خدمة الإحصاءات الحكومية، بحلول عام 2046، سيتقلص عدد سكان روسيا (باستثناء المناطق الأربع التي أعلن الكرملين ضمها من أوكرانيا في سبتمبر 2022) بإجمالي 15.4 مليون شخص، أي ما يعادل متوسط انخفاض سنوي في عدد السكان قدره 700 ألف نسمة.
باتت الجهود التي تبذلها الحكومة لمعالجة هذه القنبلة الديموغرافية الموقوتة عبثية على نحو متزايد. ولن يؤدي أي حظر على عمليات الإجهاض، التي لا تعد شائعة في روسيا أكثر من شيوعها في الدول الأوروبية المتقدمة، إلى إنعاش معدل المواليد. ولن ينجح أيضاً إقناع الناس بالانتقال إلى المناطق الريفية ليعيشوا “حياة تقليدية”، نظراً لأنه بعيداً من المدن والبنى التحتية الاقتصادية، فإن إعالة أسرة أكبر حجماً مسألة بالغة الصعوبة أكثر. وحتى الروس الذين يستطيعون العمل اصطلوا بنار الحرب: فقد أدت المطالب العسكرية إلى تحويل الأموال بعيداً من القطاعات الحيوية مثل الرعاية الصحية والتعليم. كما تواجه روسيا نقصاً في الأدوية المهمة مثل الأنسولين، وللمرة الأولى منذ سنوات عديدة، ارتفع معدل إدمان الكحول، وهو دليل على الضغوط الناجمة عن الوضع غير الطبيعي الذي تعيشه البلاد.
معركة ضد المستقبل
إن من شأن بناء الاقتصاد حول أهداف أخرى غير تحسين نوعية الحياة البشرية أن يجعل الاقتصاد غير منتج. وفي عام 2022، انخفضت إنتاجية العمل بنسبة 3.6 في المئة مقارنة بالعام السابق، بحسب الإحصاءات الحكومية (بيانات عام 2023 غير متاحة بعد). ومن شأن تكثيف إنتاج “السلع المعدنية”، وهو التعبير الملطف الذي تستخدمه الحكومة للأسلحة، الذي يتم تمويله إلى حد كبير على حساب دافعي الضرائب ومن إيرادات السلع الأساسية، أن يجعل الاقتصاد أكثر بدائية. وحتى الآن، يمكن أن تعزى حصة كبيرة من نمو الناتج المحلي الإجمالي في روسيا، الثلث، بحسب بعض التقديرات، إلى القطاع الصناعي العسكري والصناعات ذات الصلة بهذا القطاع. ويأمل بوتين أن تحفز الصناعات العسكرية تطوير التقنيات المدنية. لكن ما يسمى بخطة التحول هذه باءت بالفشل خلال السنوات السوفياتية وأوائل عصر الإصلاح في حقبة ما بعد السوفياتية.
بدأ بوتين حربه لتغيير النظام العالمي وإجبار الجميع على العيش وفقاً لقواعده. ومن أجل ذلك، كان بحاجة إلى وضع بلاده ومنطقة نفوذها الجيوسياسية في مواجهة الغرب ومشروع التحديث الذي يمثله. وتفسر هذه الأهداف استعداد بوتين للشروع في التوسع الإقليمي: فعديد من البلدان الأخرى تمضي قدماً، وتنتقل إلى أنواع أخرى من الطاقة على وجه التحديد حتى تظل هناك موارد للمستقبل. ولكن روسيا تدافع عن نموذج تنموي يلفظ أنفاسه الأخيرة، وهو نموذج يتطلب إيديولوجية شمولية وإمبريالية، وهذا يستلزم استخدام الموارد الحاضر، بما في ذلك ذات النفط والغاز القديمين.
بالنسبة إلى بوتين، يبدو الأمر وكأنه رهان يستحق العناء: فقد زرع مشروعه المكلف في أوكرانيا حقل ألغام في ظل المستقبل الاقتصادي والديموغرافي للبلاد، ولكن من المحتمل تماماً أن هذه الألغام لن تنفجر إلا بعد أن يتنحى عن المشهد. أطلق عليه نموذج الملك لويس الـ15 للحكم: “أنا ومن بعدي الطوفان”. حرب بوتين هي معركة ضد المستقبل.
أندريه كولسنيكوف هو زميل قديم في مركز كارنيغي روسيا وأوراسيا
مترجم عن “فورين أفيرز” 7 مارس 2024
المصدر: اندبندنت عربية