لم تكن التجمّعات التي تهتف بإسقاط نظام الأسد من مناطق خارج سيطرته، داخل سورية أو خارجها، هي ما يُبقي الثورة السورية حيّة، أو هي ما يبرّر الكلام عن استمرار الثورة. يقتضي النشاط الثوري مواجهة السلطة الحاكمة في مناطق سيطرتها، ويقتضي تحدّي السلطات المباشرة التي تمتلك أجهزة الفرض وقوة اتخاذ القرارات. أما تسقيط سلطة من خارج النطاق الجغرافي لفعاليتها، فلا ينتمي إلى العمل الثوري، سيما إذا كان الأهالي أو السكّان الذين تسيطر عليهم هذه السلطة في حالة ركود. وما يزيد في نفي الصفة الثورية عن هذه الأنشطة، أنها تحدُث في ظلّ سلطاتٍ لا تقل سوءاً عن السلطة الأخرى التي يجري تسقيطها. أكثر من ذلك، يمكن القول إن مثل هذه الأنشطة “الثورية” تعمل على تبييض صفحة السلطات الفعلية المسيطرة على المجال الجغرافي الذي تحدُث فيه، ذلك أنها توجّه رسالة صريحة تقول إن السلطة التي ينشطون في ظلها لا تستوجب الثورة، إنما هي بالأحرى منصّة انطلاق ثورية ضد السلطة الأخرى.
إذا قسنا على هذا المبدأ، نجد أن الثورة السورية غير مستمرّة، وأن ما نجده من أنشطة “ثورية” في كل مكان خارج سيطرة نظام الأسد لا تخرج عن إحياء الذكرى. مع ذلك، هناك ما يجعل الثورة حيّة، وهو الواقع “الشاذّ” الذي انتهت إليه الحال في سورية. الشذوذ هنا هو بالقياس إلى المعايير الدولية التي تقتضي وجود دولٍ لها محدّدات معروفة، معايير لا محلّ فيها لاستيعاب السلطات السورية الناشئة التي لا تجد لها تعريفاً “نظامياً” في القانون الدولي. تتعثّر المعايير الدولية أمام الحالة السورية الراهنة التي تتوزّعها سلطات عديدة ليست “الدولة السورية” سوى واحدة منها. فهذه “الدولة”، وإن كانت لا تزال تتمتّع باعتراف قانوني دولي، لا تمتلك في الواقع ما يسند هذا الاعتراف، لا القبول الشعبي العام ولا الولاية الكاملة على الأرض، وهي لذلك دولة عاجزة، وعاجزة عن تجاوز عجزها، الأمر الذي يُبقي المشكلة السورية على أجندة المجتمع الدولي.
هذا الواقع الشاذ هو ما يرفع الوضع السوري إلى مستوى “قضية”، وهو ما يجعل التغيير في سورية ضرورة يصعب تجاوزها، لأن الحال السوري يبقى، في نظر القوانين والأعراف والمنظمّات الدولية، مشكلة مستمرّة تحتاج إلى حل. هذا الواقع الشاذ قانونياً هو ما يفسّر الوقائع الغريبة والمتناقضة التي نلاحظها في البلاد التي لا تزال تسمّى سورية، على شاكلة أن الأمم المتحدة تنتظر قراراً من نظام الأسد لفتح معبر باب الهوى، مثلاً، وهو معبر يقع كلياً خارج سيطرته، ولا يملك أي سلطة عليه سوى سلطة القانون الدولي. وفي الوقت نفسه، تجد الأمم المتحدة (ممثلة القانون الدولي) صامتة أمام انتهاك القانون الدولي بوجود سلطات مستجدّة على الأرض السورية محمية من دول خارجية. إذا أضفنا هذا إلى العدد الهائل من اللاجئين والنازحين السوريين، ندرك بأي معنىً يمكن الكلام عن استمرار الثورة. والمفارقة أن نظام الأسد يساهم في زيادة شذوذ الواقع السوري عن المعايير الدولية، من خلال رعايته تصنيع المخدّرات وتهريبها، ما يجعله يغرق أكثر في سعيه إلى تفادي الغرق.
على هذا، يمكننا أن نقول إن ما يجعل الثورة السورية مستمرّة شكل فشلها بالمقارنة مع أشكال فشل الثورات العربية الأخرى. الفشل المصري مثلاً أكثر انسجاماً مع المعايير الدولية، فقد اتّخذ هذا الفشل شكل انقلاب عسكري نجح في الحفاظ على الدولة متماسكة مع بسط سلطتها على كامل الأرض، وهكذا يمكن للعالم إغلاق ملفّ التغيير في مصر إلى أن تنشأ حركة جماهيرية جديدة تعيد فتح الملفّ. ينطبق هذا الحال، وإنْ بدرجاتٍ متفاوتة، على البحرين والجزائر ولبنان والعراق، غير أن هذا الأمر متعذّر فيما يخصّ الملف السوري بسبب تفكّك الدولة السورية وتقطّع مجالها الجغرافي الموزّع على سلطات مستجدّة لا تتمتّع أي منها، بما في ذلك “الكيان الأسدي”، بما يعطيها شرعية دولية كاملة، وقد استنفد الوضع السوري طاقته الداخلية القادرة على إحداث تغييرٍ جذريٍّ لما استقرّ على الأرض، وصار، بالتالي، رهينة توافق إراداتٍ خارجيةٍ لا تزال ترعى “الشذوذ” السوري الذي سيبقى، بوصفه شذوذاً، يطرق باب الحلول. لا يختلف الحال في ليبيا واليمن عن الحال السوري إلا من حيث إنه أطيح رأسا السلطة في هذين البلدين، ولكن من دون أن تتمكن إحدى القوى الناشئة من حسم المعركة والسيطرة على كامل البلاد.
وكما يبدو الوضع السوري الراهن شاذّاً في المعايير الدولية ويتطلب حلاً، كذلك هو في المعايير الداخلية، فالسوريون خارج مناطق النظام يعيشون في ظل سلطات “شاذّة” غير معترف بها دولياً وما ينعكس عليهم من عدم اعتراف بشهاداتهم العلمية وغير العلمية وعدم اعتراف بهوياتهم ووثائقهم… إلخ، فضلاً عن تشابه حال القمع السياسي والتشبيح بين المناطق، وإن اختلفت الدرجات.
الواقع الذي تنتجه الاحتجاجات الشعبية المستمرّة في السويداء منذ أكثر من ستة أشهر، ضد نظام الأسد، والاحتجاجات التي بدأت أخيراً في معظم مناطق سيطرة هيئة تحرير الشام، يرسم بداية للخروج من الاستقطاب حول السلطات القائمة إلى الاستقطاب ضدّها، وهذا أمر حيوي فيما يتعلّق بتجاوز الانقسامات السورية على المستوى الشعبي. الخط الصحيح الذي ينبغي أن يرتسم في المجال السياسي السوري هو الذي يفصل المحكومين عن الحاكمين، فقد بات هذا هو خطّ الصراع الأساسي الذي تشوّش على مدى السنوات الماضية بخط آخر من الصراع بين السلطات القائمة التي تتشابه في آليات سيطرتها، وتتشابه في محاولة استجرار شرعيتها لدى محكوميها بادّعاء أنها تحميهم من السلطة الأخرى.
تشابك نضالات السوريين ضد السلطات الحاكمة في مناطقهم، يَعد، إذا ما استمرّ وتصاعد، برتق ما تمزّق من النسيج الاجتماعي والسياسي السوري، ويجعل في المتناول أرضية سورية مشتركة يمكن أن يحطّ عليها حلٌّ دولي متوازن.
المصدر: العربي الجديد
الثورة السورية قامت ضد نظام طاغية مستبد بمناطق سيطرته ومتحدين أجهزته الأمنية، لذلك إحياء ذكرى الثورة بمناطق خارج سيطرة نظام طاغية الشام لا تعطي علامة إستمرار الثورة ولا تعطي صك براءة لسلطة أمر الواقع بهذه المناطق، وما يجري بالسويداء وادلب هي الطريق لإستمرار الثورة، وثورتنا مستمرة من خلال الأحرار .