أعلن المتظاهرون في مناطق سيطرة «هيئة تحرير الشام» مطالب موحدة؛ على رأسها إزاحة قائدها أبي محمد الجولاني عن منصبه، بالإضافة إلى حل «جهاز الأمن العام» وتبييض السجون وتخفيض الضرائب.
أما هو فلم يتطرق إلى البند الأول، إلا عرَضاً، في اجتماعه مع الوجهاء والنخب يوم الثلاثاء الماضي. حين قال: «لسنا متمسكين بأي شيء على الإطلاق»، مردفاً أن «أسهل شيء ترا [أن] نترك السفينة تسير لوحدها»، بما أنه لا يتخيل بديلاً عنه لقيادة المركب سوى الفراغ والفوضى، ككل الطغاة. ومثلهم كذلك أمضى معظم وقت الجلسة في الاستماع إلى «المطالب المحقة» التي لا تمسّ منصبه، ونثر الوعود بالإصلاحات القادمة والقرارات المنتظرة وتشكيل اللجان. ولكن هل كان يستطيع غير ذلك؟
رغم حداثة عهده بالاستبداد، وصغر المساحة التي يحكمها، ينتمي الجولاني إلى نمط من الطغاة لا يملك خيار التراجع. فلا «بيت» يأوي إليه، ولا تقاعد مريحاً أو غير مريح ينتظره، ولا ضمانة لحياته أصلاً، ليس فقط منذ أن أعلنت الولايات المتحدة الأميركية عن مكافأة لمن يدلي بمعلومات تؤدي إلى القبض عليه أو التخلص منه. وبين أن يوضع المرء على قائمة المطلوبين لأميركا وبين تنفيذ ذلك عملياً مسافة لا تحتلها المتابعة وجمع المعلومات فقط، بل يشغلها التعقل والسياسة واختيار التوقيت المناسب كذلك. فالأميركي ليس “كاوبوي أرعن” يده على الزناد كما يحلو لكثيرين أن يقولوا. فبين رصد الهدف وعملية «تحييده» قرارٌ يشارك في صنعه الخبراء المعنيون لئلا تنجم عن التخلص من هذا العدو، الآن وهنا، «مفسدة» أكبر من بقائه المؤقت ضمن ظروف معقدة لا تحتمل التغيير الفوري.
استوعب الجولاني هذا من خلال تواصلاته المواربة مع الغرب. وعرف أنه إذا كان تبييض سجلّه كلياً أمراً شبه مستحيل، على المدى المنظور على الأقل؛ فإن ضمانة عدم استهدافه هي تكبير فاتورة قتله على خصومه في الخارج. ولذلك قدّم نفسه كمحارب لداعش، ومطوّق لبؤرة المهاجرين الجهاديين الذين حطوا في سوريا في العقد الماضي، سواء بضمهم إلى تنظيمه أو في مجموعاتهم الصغرى التي يستطيع تجفيف مواردها واعتقال قادتها. متعهداً لمن التقى به من الصحافيين والباحثين الأجانب بأن تنظيمه لا يهدف إلى تنفيذ عمليات إرهابية في الخارج، وأنه لن يسمح لأحد بالتخطيط لها والانطلاق لتنفيذها من مناطق سيطرته في إدلب. وهو يعرف أن هذه ضمانة عملية لحياته ولبقاء تنظيمه الضابط المنضبط، ويعلم أن اليد الأميركية المغلولة ستُحرر بمجرد انتفاء دوره، غير المتفق عليه رسمياً، هذا. ولذلك فهو يستثمر في ملف الجهاديين الأجانب و«حراس الدين»، الفرع السوري الحالي لتنظيم «القاعدة»، من دون أن يرغب في، أو يستطيع، أن ينهيه تماماً، لأنه أحد ضمانات وجوده.
من جهة أخرى لا ينسى زعيم «هيئة تحرير الشام» أن طريقه الطموحة، والظافرة حتى الآن، لم تسر بلا دماء. فقد خاض معارك داخلية عديدة أوصلته إلى ما هو عليه، اجتثّ فيها فصائل وسيطر على مقارّها وأسلحتها وقتل بعض قادتها وعناصرها. وهو يعرف أن ما أُخِذَ بالقوة لا يمكن الاحتفاظ به إلا بمزيد من القوة، وأن خير وسيلة لحمل خصومك على تجاهل ثاراتهم هي شعورهم بأنهم سيدفعون ثمناً باهظاً إن تذكروها. ولن يتحقق له هذا إلا إذا امتنع بشوكة قيادة «الهيئة» وأمسك مباشرة بجهازها الأمني، المستهدف الثاني لدى المتظاهرين.
وذلك فضلاً عن سلسلة طويلة جداً من الأحقاد، غير الدموية بالضرورة، التي خلفتها وسائله المراوغة في نفوس عدد كبير ممن تعاونوا معه. تبدأ هذه القائمة بأمراء تنظيمه الأول «دولة العراق الإسلامية»، والثاني «القاعدة»، حتى تصل إلى عشرات ممن شغلوا مناصب قيادية في تنظيماته الخاصة؛ «جبهة النصرة» و«جبهة فتح الشام» و«هيئة تحرير الشام». وهؤلاء من أبرز المحرضين عليه الآن، تدفعهم مرارة الشعور بالتلاعب والخديعة والاستغلال، ولا يبدو أنهم سيرحمونه حين يقع وتكثر السكاكين التي تُسنّ له.
ومن جهة ثالثة أقل وطأة، فإن قيادة الجولاني لم تلتزم، منذ أكثر من اثني عشر عاماً وحتى الآن، بقرارات شورى أو بأنظمة داخلية إدارية أو مادية. واعتمدت على الارتجال الآني والكواليس والتوافقات المتغيرة التي فرضتها التوازنات داخل الجماعة وخارجها. ومن هنا فإنها لا تستطيع تسليم مَن بعدها سجلات منظمة في حال «خروج آمن» عسير المنال أصلاً، لا في الجوانب العسكرية ولا الأمنية ولا القضائية ولا المالية ولا في العلاقات الخارجية. فالقصة الكاملة في عقل الجولاني، وفيه وحده على الأرجح. فكيف السبيل إلى الاستجابة لمطلب المتظاهرين بالتنحي لصالح قيادة جماعية لن يطول بها الوقت حتى تسائله عن نتائج زعامته الفردية في قرارات الإعدام التي اتخذها جهازه الأمني، وعلى التصرف بميزانية التنظيم وكأنها ماله الخاص ينفقه كيف يشاء، وسوى ذلك من ثغرات البيت الداخلي التي لا تنتهي؟
يضاف إلى ذلك ميله العالي إلى شغل مركز الضوء والفعل، الذي تعزز في السنوات الماضية من إدمان السلطة وإمكاناتها. مما يجعل من احتمال أن يتخذ خطوة فعلية إلى الوراء أمراً أقرب إلى الاستحالة ذاتياً وموضوعياً. فهو يعي أن المحتجين، وإن لم يدركوا هم ذلك، يطلبون رأسه لا سلطته. فأي وجود له دون ذراعيه الأثيرين؛ الأمن العام والمكتب الاقتصادي؟ ومن هنا فإنه سيدخل معركته الكبرى هذه حتى النهاية، وإن لم يستطع خوضها بالسلاح نتيجة تعقيدات الوضع وحراجة الموقف، فإنه سيستخدم فيها أقصى درجات مواهبه في المناورة والتراجع الشكلي.
لكن المتظاهرين الذين سبق أن سمعوا نغمة الإصلاح والقرارات مرتين؛ أولاهما على يد بشار الأسد وثانيتهما على يد الجولاني نفسه، يبدون نزقين وقصيري النفس هذه المرة وغير راغبين في «الحوار» وهم يخاطبونه بخشونة ريفية: «جولاني ولاك… ما بدنا ياك»، في حين يستذكر اللاعب القلق مغامرته الطويلة منذ أن غادر منزل العائلة بلا عودة في عام 2003، ويتساءل في نفسه هل هذه هي النهاية؟
المصدر: موقع تلفزيون سوريا
سلطة أمر الواقع والأنظمة المستبدة مدرسة واحدة ، أول أولوياتها استمرارها على كرسي تسلطها ، الجولاني خاض حروب مع الفصائل من أجل توسع إمارته بسلطة أمر الواقع ، هل يمكن أن يلبي مطالب المتظاهرين بـ “إزاحة أبي محمد الجولاني عن منصبه، وحل «جهاز الأمن العام» وتبييض السجون وتخفيض الضرائب، سيمارس طريقة الأسد بالحوار. ثم القبضة الأمنية لأنه لن يتخلى عن تسلطه إلا بإنقلاب داخلي.