الرؤية المزدوجة هي رؤية صورتين لجسم واحد. وتحدث عندما تقع مشكلة في انتقال الضوء إلى شبكية العين ونتيجة لذلك تكون إحدى الصورتين ذات جودة طبيعية، بينما تكون الصورة الأخرى ضبابية غير واضحة. أفضل طريقة للتداوي هي مُعالَجَة الحالة المستبطنة المُسببة لها.
وصل تدهور العلاقات التركية الغربية إلى حافة الهاوية أكثر من مرة، ثم تم تدارك الأمر وإنقاذ الموقف في اللحظة الأخيرة. تواصل القيادات التركية شن هجماتها على القيادات الأميركية والأوروبية وتحملها مسؤولية الكثير من أسباب التباعد والأزمات في ملفات ثنائية وإقليمية، لكنها لا تقطع شعرة معاوية معها رغم كل التصعيد والتحدي. العواصم الغربية بالمقابل تدرك أهمية وجود أنقرة إلى جانبها وحاجتها إليها في ملفات سياسية وأمنية على أكثر من جبهة وفي أكثر من مكان رغم انتقاداتها للكثير من سياسات ومواقف أنقرة.
حدثت القطيعة التركية الغربية هذه المرة في صيف عام 2016 وبعد المحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا، والتي اتهمت أنقرة العديد من العواصم الغربية وعلى رأسها واشنطن بالوقوف وراء ما جرى. تعقدت الأمور وتشابكت أكثر فأكثر لكنها دخلت في مسار المراجعة ومتطلبات تجميد الخلافات وتذكير الطرفين بحاجتهما إلى بعضهما البعض، بعد التطورات الإقليمية على جبهات القرم وغزو أوكرانيا وتمسك واشنطن بالتوسعة الأطلسية وتفاقم الوضع في إقليم غزة وتهديد الملاحة في البحر الأحمر من قبل جماعة الحوثي.
لم تصل الانعطافة التركية الإقليمية لمستوى إعادة التموضع في العلاقة مع الولايات المتحدة بعد. لكن هناك أكثر من خطوة ومؤشر باتجاه التهدئة والليونة والحلحلة في الكثير من الملفات الثنائية والإقليمية العالقة. لكل جانب انتقاداته ومآخذه على الجانب الآخر في طريقة التعامل مع ملفات متداخلة تعنيهما في سوريا وشرق المتوسط والقوقاز والبحر الأسود والوضع الاقتصادي في تركيا والتقارب التركي الروسي والتركي الإيراني المتزايد.
العقبة أو المشكلة الكبرى والأهم هي التقارب والانسجام التركي الروسي الذي يقلق الإدارة الأميركية في أكثر من مكان. فهل تتفاهم أنقرة وواشنطن على تخفيض حجم التفاهمات التركية الروسية؟ وما هو الثمن والبديل الممكن الاتفاق عليه لإرضاء الطرفين والذي سيغضب بوتين عاجلا أم آجلا؟
الخطوة الأولى بدأتها أنقرة من خلال قرار فتح الطريق أمام عضوية السويد في حلف شمال الأطلسي. قابلت واشنطن ذلك بقرار تمرير صفقة بيع المقاتلات أف 16 لتركيا. ثم كرت السبحة:
– يستقبل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عضوي الكونغرس الأميركي كريس ميرفي وجين شاهين في أنقرة. الهدف حتما هو ليس إبلاغ الرئيس التركي بالقانون الذي صوّت عليه مجلس النواب الأميركي في منتصف شباط الحالي وينص على مناهضة التطبيع مع نظام الأسد، ضمن سلسلة القوانين والخطوات التي اتخذتها الإدارة الأميركية ضد هذا النظام، ودعوة الجانب التركي للتخلي عن الطاولة الرباعية. فميرفي يعقب بعد اللقاء قائلا “إن هناك زخما كبيرا في العلاقات بين الولايات المتحدة وتركيا وحيث يمكن للبلدين الاستفادة بالتأكيد من المشاعر الجيدة الجديدة”.
– لقاء واكبه لقاء آخر بين وزير الخارجية التركي هاكان فيدان ونظيره الأميركي أنتوني بلينكن في البرازيل على هامش قمة مجموعة العشرين قبل أيام.
– بعدها يذكر الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ بأهمية وموقع الدور التركي في الجناح الجنوبي للحلف بعد أيام فقط على إعلان السفير الأميركي في أنقرة جيفري فليك أنّ الأسطول الجوّي التركي مهمّ بالنسبة لحلف شمال الأطلسي.
– ثم تتوارد من برلين أنباء التحاق تركيا واليونان معا باتفاقية التعاون العسكري الأوروبي تحت مظلة “درع السماء” التي أطلقتها ألمانيا في العام 2022 بهدف حماية الأجواء الأوروبية في إطار نظام دفاعي صاروخي أوروبي متكامل. خطوة وصفها وزير الدفاع التركي يشار غولار بأنها مهمة وتلبي احتياجات الناتو ويواكبها المزيد من التنسيق العسكري التركي الأوروبي في منظومة دفاعية موحدة. منظومة صواريخ دفاعية قصيرة ومتوسطة وبعيدة المدى، رافقها التفاوض التركي مع الجانب الألماني على شراء 40 مقاتلة من طراز “يورو فايتر” وربما المساهمة في الشراكة الأوروبية الرباعية للمشروع.
– هذا دون أن ننسى الإشارة إلى حصة تركيا في قرار إرسال مليون مسيرة غربية لأوكرانيا لدعمها في مواجهة الغزو الروسي، بعد إعلان المسؤولين الأتراك عن عقود تعاون تركي أوكراني عسكري مشترك بهدف تصنيع المسيرات التركية في كييف. هل هو العرض الغربي البديل المقدم لأنقرة كي تتخلى عن منصات أس – 400 الروسية؟ وهل هو السبب الحقيقي الذي دفع بوتين لإرجاء موعد زيارته المرتقبة للعاصمة التركية؟ وهل ستكفي تغريدات المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا على صفحتها وهي تنشر صورة لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في أثناء اجتماعه مع نظيره التركي هاكان فيدان في قمة مجموعة العشرين في ريو دي جانيرو بالبرازيل، لتبديد كل أجواء التقارب التركي الأميركي الذي سيكون شئنا أم أبينا على حساب العلاقات التركية الروسية؟
المتغيرات الإقليمية وتفاعلاتها الميدانية والسياسية هي التي تدفع أنقرة لمراجعة الكثير من مواقفها وسياساتها مع الغرب. لكن المشهد يوحي أنّ هناك سلّة مليئة بمقايضات سياسية وأمنيّة واقتصادية هدفها تدشين مرحلة جديدة من العلاقات بين الجانبين التركي والأميركي. لا مساس باتفاقية مونترو للمضائق البحرية في إسطنبول والدردنيل، لكن زيادة الدعم التركي لأوكرانيا ممكن في إطار اتفاقيات ثنائية عسكرية أو تحت مظلة حلف شمال الأطلسي. هل يكون ثمن عودة تركيا لمشروع المقاتلة أف 35 هو نقل منصات صواريخ أس -400 الروسية إلى المستودعات والعنابر؟ وهل يكون ثمن ما تريده تركيا في شرق المتوسط وإيجه الانفتاح على ما تقوله وتريده أميركا منها في القرم والقوقاز والبحر الأسود؟
يتمسك ترامب بتوجيه صفعة لبعض العواصم الأوروبية التي تغرد خارج السرب الأميركي مثل فرنسا وألمانيا وإسبانيا، بينما يعد بايدن بالمزيد من التعاون والتنسيق مع الشركاء والحلفاء. أنقرة قد تراجع مواقفها وسياساتها حيال الإدارة الأميركية الحالية إذا ما بدأت الإصغاء إلى ما تقوله وتريده. قد تدعم التجديد لبايدن إذا ما تخلى عن عناده في ملفات إستراتيجية أساسية تعنيها. الأنظار ستكون موجهة في الأسابيع المقبلة صوب سوريا وغزة وشرق المتوسط والبحر الأسود والبحر الأحمر.
أولويات تركيا قد لا تلتقي في كل مكان مع الأولويات الأميركية، لكن ذلك لا يمنع من الجلوس والتفاهم أمام طاولة حوار ثنائي يعيد تركيا إلى سياستها الكلاسيكية المعهودة في العلاقة مع الغرب. وهنا على بوتين أن يتنبه لاحتمال خروجه أضعف في التعامل مع الملفات أمام السيناريو التركي الأميركي الجديد، وأن لا يفرط بفرصة الذهاب إلى الطاولة الثلاثية التي تعرضها تركيا وبينها تسريع المرحلة السياسية الانتقالية في سوريا لأن عكس ذلك يعني فقط إطالة عمر النظام على حساب المزيد من الخسائر والأضرار وتتمدد إيران أكثر فأكثر في الإقليم.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا
العلاقة التركية الغربية وأمريكا إلى أين ؟ بعد تدهور العلاقات بـ 2016 هل تتفاهم أنقرة وواشنطن على تخفيض حجم التفاهمات التركية الروسية؟ لتحسين العلاقات؟ وما هو الثمن والبديل الممكن الاتفاق عليه لإرضاء الطرفين؟ مؤشرات عديدة تعطي انطباع بعودة التقارب ؟ فهل ستغضب بوتين عاجلا أم آجلا؟ وخاصة صفقة المسيرات؟ وهل سيتم تجاوز خلاف أولويات تركيا مع الأولويات الأميركية بالملفات الدولية ؟