جائعون جدد في سورية بعد وقف المساعدات…لماذا انعدم المانحون؟

طارق علي

مع مطلع العام الحالي أعلن برنامج الأغذية العالمي (wfp) التابع للأمم المتحدة وقف مساعداته الغذائية الموجهة إلى سورية، والتي كانت تشمل ملايين الأسر السورية المحتاجة للإعانة والغذاء المستعجل.

البرنامج برر قراره بأنّه جاء تحت وطأة النقص الحاد في التمويل الأممي، مع اتساع رقع الصراع العسكري وتزايد الحاجات الإنسانية في مناطق مختلفة حول العالم، وبالضرورة فإنّ القرار دخل حيز التنفيذ مباشرةً ليشمل محتاجي سوريا في مناطق الحكومة وخارجها، في مناطق تشمل شمال سوريا، وكذلك اللاجئين السوريين في لبنان وتركيا والأردن، وهؤلاء أيضاً يبلغ تعدادهم بالملايين.

القرار الأممي على هول ضخامته وإمكان توقع خطورته منذ لحظة بدء سريانه، لا يمكن التنبؤ مسبقاً بالنتائج النهائية التي سيخلفها على الأرض، ولا بد من الانتظار لبعض الوقت لتبيان حجم النقص الذي سيقع على المستفيدين السابقين بعدما تولتهم الأمم المتحدة طيلة سنوات الحرب بمبالغ وصلت إلى مئات مليارات الدولارات، وهو الشرط الذي أنشئ على أساسه برنامج الأغذية كمشروع معتمد في السياق العالمي الذي تتولى الأمم المتحدة لعب أدوار رئيسية فيه.

شرارة المشكلة

وكانت بوادر المشكلة في البرنامج قد بدأت بالظهور أواسط العام الفائت، ولكن من دون قرارات جذرية حول مستقبل تلك المساعدات التي حسمت مرّة واحدة وقطعياً مع نهاية العام الماضي. وقتها عمدت المنظمة إلى تخفيض الدعم عن 5.5 مليون شخص، إلى 2.5 مليوني، قائلةً إنها تحتاج إلى مبلغ 180 مليون دولار بشكل طارئ لتتمكن من سد الحاجات وقتها.

والمبلغ الذي تحدثت عنه المنظمة مع بوادر مشكلة نقص تمويلها في حزيران (يونيو) الماضي، لا يعادل تكلفة ذخيرة تهدر في مناوشة عسكرية في بلدة صغيرة من دول الحروب، ولا تعادل في مقياس موازنات دول العالم مصاريف التشغيل ما دون الأولية قبل حساب المليارات الكبرى.

يقول الأكاديمي في الاقتصاد ناصر سلالي موضحاً تلك النقطة لـ”النهار العربي”: “أحياناً تكلفة إعادة إعمار مدينة في مكان ما بعد حربٍ تتخطى ذلك الرقم، بمعنى أنّه رقم ضئيل بين الدول، وسيوجد عشرات المانحين له من دون أن يكترثوا أساساً لقيمته شبه الصفرية بالنسبة إلى موازناتهم الضخمة، بل يمكن توفيره من فروق القيم الاقتصادية في السوق المحلية نفسها بحسب البلد، ما عدا الدول التي تشهد حروباً ضروساً أو ظروفاً استثنائية كما حال سوريا ولبنان في الإقليم مثلاً”.

ويتابع: “عدم تمكن المنظمة من الحصول على هذا المبلغ -الذي يمكن التأكيد أنّه زهيد- يدلل على التوجه الدولي العام لعدم الاهتمام بسوريا ومنحها أولوية كما كانت الحال في كل لحظة خلال العقد السابق، وهذا يبنى عليه في الاقتصاد والسياسة معاً، فعدم الاهتمام ينجم عن النفور في التفاهم السياسي – الاقتصادي أولاً وأخيراً، مع التذكير بأنّ المنظمات الدولية المعنية وبينها جامعة الدول العربية قدّرت تكلفة إعادة إعمار سوريا بنحو 900 مليار دولار. وما يجب سؤاله هنا: لماذا انعدم المانحون أمام ضآلة الرقم؟!”.

دمشق تراه طعنة في الظهر

الحكومة السورية اعترضت بشدة على وقف التمويل عبر وزارة الإدارة المحلية ممثلةً بشخص وزيرها في حينه حسين مخلوف، الذي يشغل أيضاً منصب رئيس للجنة الإغاثة السورية، واستدعت ممثلي الوكالة في سوريا معتبرة أن ما حصل جاء بـ”قرار من طرف واحد” ليشكل “طعنة في ظهر” السوريين ومزيداً من “التآمر” الدولي للضغط على قرارات سوريا، فيما شعبها يرزح تحت آفة الجوع المستبد والمهدد للحياة أحياناً، مع أشد أنواع العقوبات الدولية المفروضة عليها منذ سنوات طويلة.

مصدر في وزارة الإدارة المحلية قال لـ”النهار العربي” إنّ البروتوكولات الدولية القائمة والناظمة للعلاقات بين الدول وبين الأمم المتحدة والدول أو كل دولة على حدة، تقتضي ضرورة التنسيق الحثيث في اتخاذ القرارات، خاصةً تلك التي تتعلق بالظروف المعيشية والإغاثية، ومن بينها وقف المساعدات التي تركت دمشق أمام ورطة تتمثل بجمهور جديد من الجياع.

التباين الأممي

المصدر استحضر مثالاً منظمة “الأونروا” (وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين) وتنسيقها المستمر واللحظي مع الفلسطينيين في حربهم الحالية، بمعزل عن أي ضغط دولي لا يمكن استخدامه ضدها ما دامت تمارس الهدف الذي أنشئت لأجله في رعاية شؤون الفلسطينيين وتأمين المعونة اللازمة لنحو 6 ملايين فلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية وفي سوريا ولبنان والأردن، وهي التي تمتلك تمويلاً كبيراً من الدول المانحة، مؤكداً أنّها منذ تأسست عام 1948 لم تتخذ قراراً مباشراً ضد مصلحة الفلسطينيين كما فعل برنامج الأغذية العالمي في سوريا.

وأشار المصدر إلى أنّ المشكلة هي في تعاطي البرنامج مع الحكومة والسوريين، واتخاذ قرار أحادي الجانب جرى بموجبه إدخال العوائل السورية المرعية أممياً في نفق مظلم كان يمكن تدارك بعض جوانبه وتدارس تداعياته، لو جرى تنسيق سابق لم يخضع لحسابات دولية معقدة تحاصر سوريا من كل الاتجاهات.

الخصم والحكم

ثمّة تقارير متعددة صادرة عن الأمم المتحدة تؤكد وجود ما لا يقل عن 14 مليون سوري بحاجة إلى المساعدات، وتقارير أخرى تؤكد أنّ أكثر من 90 في المئة من السوريين تحت خط الفقر.

وتعرّف الأمم المتحدة وفق بياناتها الشخص الواقع تحت خط الفقر بأنّه الشخص الذي يجني أقل من 2.15 دولار يومياً، أي 64 دولاراً شهرياً، فيما لا يتعدى متوسط الراتب الحكومي في سوريا 20 دولاراً، أي أنّه يقع تحت ثلاثة أضعاف خط الفقر العالمي، ويحتاج راتبه وفوقه ضعفان ليصل فقط إلى حد الفقر الذي يجعله لا يموت جائعاً؛ في واحدةٍ من أغرب المعادلات التي تجعل الأممية كمفهوم دولي سائد هي الخصم والحكم في حياة سوريي ما بعد الحرب.

الكارثة بدأت

وإن كانت حال الموظف -بقلّة ما يجنيه- تبدو كحال غريق متعلق بقشة، ماذا عن الشريحة الأوسع التي تعاني البطالة؟ هؤلاء يبدو عليهم أثر القرار أشد وضوحاً، بين أولئك الأشخاص عبد الحي جيرودي، وهو ربّ أسرة يقيم في ريف دمشق وكان يتلقى مساعدات غذائية من الأمم المتحدة منذ سنوات.

لعبد الحي أربعة أولاد، واحدةٌ من بناته تعاني سوء تغذية وتخضع لعلاج مستمر يرهق والدها الذي يعمل مياوماً، يقول لـ”النهار العربي”: “حتى حين كنا نحصل على المساعدات لم تكن كافية، ولكن كانت تسد شيئاً من الرمق.. خفضنا وجباتنا اليومية من ثلاثة إلى واحدة تباعاً مضطرين، ما أحال أجساد أولادي موئلاً لأمراض مناعية وغذائية. الآن نحن أمام كارثة، لا مال في جيبي، ولا طعام في منزلي، وأنا لا مشكلة لديّ أنا أعمل عملاً واثنين وثلاثة في اليوم لأعيل أسرتي، ولكن هل هناك عمل في البلد أصلاً؟”.

دبروا رأسكم

“ثمّة بعض المؤن القليلة في منزلنا، لكنّها ستنفد قريباً، أخشى أننا حينها سنأكل الخبز مع الماء”، هكذا تقول أم سمير، وهي أيضاً ربّة منزل في ريف دمشق توقفت عنها المساعدات الغذائية التي كانت كفيلة إلى حدٍّ ما باستمرارهم في التمكن من تناول الطعام.

وتابعت: “عبوة الزيت بمئة ألف ليرة (7 دولارات) وقس على ذلك، المعيشة الشهرية لأسرتي المكونة من ستة أفراد لا يمكن أن تسير بأقل من مليون ونصف مليون ليرة (100 دولار) شهرياً إذا اقتصدنا قدر المستطاع، ومن أين سنأتي بذلك الرقم؟ لا ندري ما حصل، فقط قالوا لنا (دبروا رأسكم) بعد اليوم فليس هناك مساعدات”.

أيام ثقيلة على العيون

تتشابه قصص معظم سوريي الداخل الذين توقفت المساعدات عنهم، يشتكون، يتألمون، يعلمون أنّ أياماً سوداء قادمة وأنّ شكل حياتهم القادمة التي بدأت تظهر من الآن مرير، بعيد شهر ونيّف على تطبيق وقف المساعدات، ولعلّهم يتهيؤون منتظرين تبعاته القاضية التي ستجعلهم يتسولون رغيف الخبز وما سينعكس بالضرورة على المجتمع ككل من مخاطر سلوكية متنوعة أخطرها تلك الإجرامية.

فإن كان التكافل الاجتماعي في سوريا ظاهرة نجحت في انتشال مئات الأسر بصعوبة فائقة فمن سينتشل الملايين الآن؟ هل تملك الحكومة حلولاً قريبة المدى أم بعيدة؟ لا شك في أنها لا تملك، هذه نتيجة مؤكدة في ظل واقع سياسي محتدم ومشتعل لا يأبه السوريون وهم في أتونه من سيطعمهم بقدر اهتمامهم بألا يناموا جياعاً، فهل يساعد حلفاء دمشق هذا البلد في محنته الأقسى؟

المصدر: النهار العربي

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. الشعب السوري المنكوب تلاحقه المظالم ،مع مطلع عام 2024 تم تقليص النقص ووقف المساعدات الغذائية الإنسانية لبرنامج الأغذية العالمي (wfp) بسبب النقص الحاد بالتمويل الأممي، واتساع رقع الصراع العسكري وتزايد الحاجات الإنسانية في مناطق مختلفة حول العالم، ليشمل السوريين المحتاجين بمناطق الحكومة وخارجها، واللاجئين السوريين في لبنان وتركيا والأردن، هل من مغيث لشعبنا؟

زر الذهاب إلى الأعلى