الاحتلال والحرية المحاصَرة والمقاومة

نبيل عبد الفتاح

تمدد وتعاظم القوى العسكرية والعلمية والتكنولوجية والاقتصادية للدولة الإسرائيلية ومؤسساتها وأجهزتها المختلفة، ومعها المجتمع، يعود إلى تطور البحث العلمي والدعم الدولي الأمريكي والغربي لها وجماعات الضغط اليهودية والمسيحية الصهيونية، ومعهم رجال الأعمال وشركاتهم الكونية الكبرى.

بعض هذا التطور مرجعه الهجرة اليهودية الإشكنازية الغربية والسفاردية الشرقية إلى إسرائيل على نحو أدى إلى حركية اجتماعية واقتصادية في ظل نظام برلماني يكرّس الحريات العامة والفردية في إطار الأيديولوجية الصهيونية والنزعة التوراتية وأساطيرها التأويلية الوضعية وتوظيفاتها السياسية في ظل تكرس قيم العمل والكفاءة والمسؤولية، ثم سيطرة اليمين الديني المتشدد واليمين الديني المتطرف على التشكيلات الحكومية، وبروز نزعة لدى بنيامين نتنياهو لإدخال بعض التعديلات التشريعية على السلطة القضائية، لأسباب شخصية لحمايته والحيلولة دون محاكمته بتهم الفساد، وهو ما أحدث انقسامات حادة داخل المجتمع الاسرائيلي.

لا شك أنّ التحوّل نحو اليمين أدى إلى ضعف شديد تجاه ما بعد الصهيوينة في المجتمع والنخبة السياسية، وبعض المفكرين والمؤرخين الإسرائيليين، ومراجعاتهم المهمة في هذا الصدد، من ثم بدت النزعة الوحشية والاستعلائية اليمينية التوراتية المتطرفة مسيطرة في خطاب الحرب على قطاع غزّة، وعلى نحو سوف يؤثر على صورة إسرائيل لدى بعضهم من شرائح الرأي العام الغربي والعالمي.

إنّ تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي يتبدى في أحد جوانبه في ثنائية الحرية والاستبداد، والديمقراطية والشمولية والتسلطية السياسية المسيطرة على بعض الأطراف المتصارعة في كافة المجالات.

الديمقراطية وحدها لم تؤدِ إلى وقف النزعة العدائية للأطراف المتنازعة والمتحاربة، ولم تَحُل دون ضبط السلوك الاسرائيلي السياسي والحربي العدائي حتى بعد توقيع اتفاقيات السلام مع مصر والأردن. ولا بعد اتفاقات إبراهام مع الإمارات والبحرين والمغرب.

الفكر والسلوك العدواني والنظرات الاستعلائية للإنسان الفلسطيني والعربي لم يَحُدْ منها النظام الديمقراطي ومؤسساته وقيمه السياسية، بالنظر للطابع العنصري التوسعي اليميني، وأيضا داخل حزب العمل تاريخيًا.

الأطراف العربية المنخرطة تاريخيًا في الصراع وحروبه المتعددة كان الاستبداد وغياب الحريات والبحث العلمي وقيم العمل المسؤول والخلاق والكفاءة والمساواة وحقوق المواطنة، أحد أهم الأسباب وراء تخلّفها التاريخي، وإعاقة تطوّرها، وضعف قدرتها على المواجهات الحاسمة مع إسرائيل في حروبها العدوانية المتعاقبة حتى حرب 1973 ثم “طوفان الأقصى”.

كانت شخصنة الدولة ونظامها أحد هذه العوائق حيث تتمركز صناعة السياسات والقرارات عند القمة المتحوّرة حول شخصية الحاكم الفرد المستبد، على نحو ساهم في عدم انطلاق هذه الدول ومجتمعاتها في الدائرة البؤرية للصراع ودول الطوق.

من قلب هذه النزاعات والإعاقات والإحباطات ظهرت حركة المقاومة الفلسطينية وجماعاتها المختلفة، وتأثرت بما يجري في المحيط العربي وسياساته تجاه اسرائيل، وتجاه هذه المنظمات السياسية المسلّحة.

من هنا نستطيع مقاربة بعض جذور مسألة الحرب على قطاع غزّة والهجمات على الضفة الغربية بعد “طوفان الاقصى” من منظوري النزعة العدوانية الاسرائيلية والمقاومة الفلسطينية في سياقات أزمات الحرية والاستبداد في العالم العربي، وذلك في بعض الملاحظات على النحو التالي:

1- نشأة الحركة الصهيوينة ودولة إسرائيل على أرض فلسطين التاريخية أحدثت تغيّرات كبرى في الجغرافيا السياسية العربية، ومعها تعاقبت الحروب والنزاعات المسلحة من 1948 إلى 1973، ثم انفجار الاستيطان وتكاثر المستوطنين في الضفة الغربية وقطاع غزّة حتى خروج الجيش الإسرائيلي منها، وتفكيك مستوطناتها، والضربات العسكرية المتلاحقة على القطاع، وحصاره، وسياسة العقاب الجماعي والإبادة والنزوح القسري للسكان المدنيين. استهدفت الحرب الإسرائيلية سكان القطاع و”حماس” لتصفية الحركة ومعها “الجهاد الإسلامي”، وتفكيك بنيتها التحتية والتسليحية، وتحطيم الأنفاق، وخلق منطقة عازلة، والسيطرة على القطاع في ظل غموض وتشوّش التصوّرات المطروحة حول مآلات ما بعد الحرب.

2- في ظل هذا التاريخ الكولونيالي والاستيطاني والعدواني تشكلت على الجانب الآخر جغرافيا الهزيمة، وجزء رئيس من أنساق اللغة السياسية المهيمنة عربيًا في الخطابات السياسية والإعلامية والأيديولوجية في كل مرحلة من مراحل المواجهة من اليهود واليهودية في الخطاب السياسي والسلاموي وأطيافه المتعددة ومشتركاته والخطابات الأيديولوجية إلى الصهيونية في الخطابات الليبرالية والماركسية ومواجهة الصهيونية السياسية في الخطاب القومي العربي إلى التسوية وعملية السلام في خطاب التطبيع مع “كامب ديفيد” وغيرها من الاتفاقات والمفردات والصفات والمجازات السياسية والأيديولوجية التي تتمدد مع تطورات الصراع الضاري. باتت اسرائيل جزءًا من أزمات الشرعية لفشل أنظمة الحكم ما بعد الاستقلال وَتَعَرَّتْ معها الأنظمة الاجتماعية، والتفاوتات –الطبقية- والتعليمية ومستويات الوعي الاجتماعي بين السراة عند قمة النظام الاجتماعي، وبين المعسورين من الأغلبيات الشعبية في المجتمعات العربية.

3- صدمات الحروب الإسرائيلية كشفت عن بعض مواريث الاستبداد والطغيان العربي ومعتقلات العقل والحرية، ومعها تراجع مستويات ونوعية الإنتاج العلمي والمعرفي والثقافي، ومعها بعض الإبداع ابن الحرية التي لا حدود لها في ظل دولة القانون والعدل.

معتقلات الروح والضمير الإنساني أدت إلى هيمنة العقل النقلي لدى غالب تيارات الفكر والعمل السياسي التي تمركزت حول بعض القراءات العابرة للنصوص التأسيسية الدينية التأويلية والفلسفية الليبرالية والماركسية، والفكرة العربية الجامعة، وأيضًا الإسلامية الجامعة حول مفهوم الخلافة، وتماثلت السلفيات السياسية والدينية والفلسفية والتأويلية، وانفصلت عن الواقع الاجتماعي الموضوعي في ظل موت السياسة والفجوات المتسعة مع تحوّلات العالم الهادرة والاستثناءات من بينها محدودة مصريًا وعربيًا.

4- الحروب المصرية والعربية كانت ولا تزال تمثل صدمات كاشفة عن حالات العرب المحدثين، ومشاكلهم التاريخية والمتراكمة، وتبعيتهم للمركز الإمبريالي الأمريكي والأوروبي وبعض الإحساس الجمعي السلطوي – الشمولي والتسلطي – بالدونية تجاه الإنسان الأورو أمريكي والإسرائيلي الأعلى.

صدمات الحروب والهزائم في المواجهات مع إسرائيل كشفت عن أزمة تشكل العقل العلمي، وضعف وتخلف مراكز البحث في العلوم الطبيعية والتكنولوجية، وفي العلوم الإجتماعية في دول المنطقة.

ثَمَّ غياب لطلب اجتماعي وسياسي على العلم والمعرفة في مواجهة مواريث التخلّف وإزاء الصراع مع الدولة والمجتمع الاسرائيلي وتطوّرها في عديد المجالات وفي أنظمة التسليح وتطويرها بما فيها ما يتم نقله من صفقات مع أمريكا والدول الأوروبية في إنتاج الأسلحة المتطورة والقفزة الكبيرة في مجال الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي.

5 – أدت هيمنة الاستبدادية العربية ذات السند والرايات الدينية المحافظة والتأويلية الموروثة، وأتباعها من رجال الدين النقليين، إلى صراع بين استبدادية وتسلطية دينية مضادة لها من الجماعات الإسلامية والسلفية الجهادية. أدى صراع كليها الضاري إلى نفي العقل الحر وحريات الرأي والتعبير والبحث والحريات العامة والشخصية. أسفر ذلك عن إنتاج حالة الإنسان المعتقل في تفكيره وحركته وسلوكه وقدرته على المباردة فكرًا وتنظيمًا في السياسة والعمل الاجتماعي إلا نادرًا.

6 – نشأة إسرائيل واحتلالها للأراضي العربية بعد هزيمة 5 يونيو 1967 أدت إلى بلورة وظيفة سياسية في نظم الشرعية في دول الدائرة البؤرية للصراع تتمثل في مواجهة إسرائيل وتحرير الأراضي الفلسطينية، ثم إلى تحرير الأراضي العربية المحتلة، وذلك كجزء من الشمولية التسلطية السياسية في نظم لا تعتمد على القيم والثقافة السياسية الديمقراطية وآلياتها ومؤسساتها التمثيلية كسند رئيس وشرعي للوصول إلى سدة السلطة، ومن ثم اعتمدت هذه الأنظمة على التعبئة السياسية والاجتماعية، وتزوير الإرادة العامة من خلال الانتخابات والاستفتاءات العامة والمعدة نتائجها سلفًا، وعلى دوائر الموالين والأتباع واستبعاد إرادة الشعوب ونفيها من خلال نظم وآليات القمع السلطوي والاعتماد الوظيفي السلطوي التأويلي على بعض سرديات الدين الإسلامي سندًا ومصدرًا من مصادر الشرعية والتسلط السياسي والديني.

ساهمت صدمات الحروب في دعم الخطاب السياسي الديني النقلي والوضعي الإسلامي كبديل للأنظمة السياسية الحاكمة حاملًا معه الدولة الدينية ومعتقلات العقل الحر والإنسان المعتقل والتمييز الديني تجاه الأقليات الدينية، وإزاء المذاهب الدينية اللا سنية.

وجد الفكر الديني النقلي السني والشيعي في المحمول اليهودي والتوراتي سندًا وداعمًا لخطابه حول اليهود واليهودية في متون السرود الإسلامية، وذلك شحذًا وتعبئة لمناصري وداعمي ومؤيدي وأعضاء هذه الجماعات ومعهم غالب رجال الدين التابعين للسلطة الحاكمة.

7 – كرّس هذا الاتجاه وسيّده العنف الإسرائيلي المفرط إزاء الفلسطينيين وبعض البلدان العربية، وأيضًا خطاب غلاة اليمين الديني التوراتي المتطرف الداعي للإبادة للشعب الفلسطيني المحاصر، وأراضيه المحتلة بالاستيطان في الضفة الغربية، وعلى نحو ما نرى في الحرب على قطاع غزّة المستمرة حتى كتابة هذه السطور.

8 – ساعدت الصور النمطية لـ”الغرب الواحد” على غير واقعه الموضوعي التاريخي وتعددياته وخصوصياته وثقافاته وتنوعه، على نمطية الخطاب السياسي الإسلامي إزاء القيم الغربية وأديانها ومذاهبها ومعتقداتها وعلمانياتها المتنوعة، وذلك في إزكاء النزعة المتطرفة الرافضة للحريات العامة والشخصية والعقل الحر.

“الغرب الواحد” النمطي وصورته في العقل النقلي المسيطر أدى إلى هيمنة ثنائية الإسلام والمسيحية، والإسلام واليهود واليهودية، ودار السلام ودار الحرب، والكفر والإيمان، ونحن وهُم.

من ثم سادت هذه الصورة الأحادية في الغالب على نحو أدى إلى تبسيط وتسطيح المواجهات مع النزعات الأوروأمريكية للهيمنة على العالم العربي وجغرافيته السياسسية وثرواته ونظمه السياسية الحاكمة، ومن ثم ضعف المتابعات العلمية والتحليلية الموضوعية لمكوّنات العقول الغربية ونظمها السياسية والاجتماعية وثقافاتها وخصوصياتها المتعددة.

9 – من نمطية الغرب الواحد إلى نمطية إسرائيل واختزالها في اليهودية والصهيونية وبعض مؤشرات عامة حول تطوّرها العلمي والعسكري دون بحوث عميقة ومستمرة حالت دون متابعة تطوّرها العلمي والعسكري، وتطوّر الحركة السياسية والحزبية والنظام الاجتماعي والاقتصادي، وفي مجال البحث العلمي.

المصدر: “عروبة 22

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. إن التكوين المجتمعي للكيان الصhيوني من يhود الإشكNاز الغربيين والسفارديم الشرقيين أدى إلى حركية اجتماعية واقتصادية بظل نظام برلماني يكرّس الحريات العامة والفردية بإطار أيديولوجية صhيوني ونزعة توراTية وأساطيرها التأويلية الوضعية وتوظيفاتها السياسية لتكوّن شريحة متشددة سيطرت على المشهد السياسي بـ”دويلة إSرائيل” واحدثت شرخ مجتمعي، قراءة موضوعية دقيقة لجذور مسألة الحرب على قطاع غزّة المتوحشة القذرة لدرجة الإادة الجماعية

زر الذهاب إلى الأعلى