الحل السياسي|| هندسة الخضوع

محمد سعيد سلام

  في كل مرة يمكن أن تنتقل المنطقة من خلال أحد أقطارها إلى طور جديد يتسم مع تاريخها، وينسجم مع ما يليق بإنسانها، ويترجم انتصاراتها؛ خارج الإطار العسكري الاستبدادي والمخابراتي القمعي الإجراميين؛ تبرز فكرة الحل السياسي لمواجهة هذا الانتقال ومنعه من التموضع بكل السبل والإمكانات، وتسارع فئة من الرسمي مع أزلامها بقرار وإيعاز من مشغلها للتحرك ضد هذا الطور الجديد، ورفع لواء عملية سياسية ما والتفكير بما يسمونه باليوم التالي، ويبقون خلف هذا التحول يتحايلون عليه حتى يفقدوه أغلب معالمه وكثيرا من إنجازاته.

  وكلمة “الحل السياسي” التي يطرحونها ليست صحيحة وغير دقيقة البتة لأن معنى الحل هو إيقاف المشكلة وتداركها وليس تعميقها، والذي يعمل عليه تحت هذا العنوان تاريخيا في كل المنطقة هو إيجاد صيغة سياسية تضمن استمرار سيطرة النظام الدولي وفق رؤيته وآلياته، بما يتناقض مع الإرادة الشعبية الحرة والقرار السيادي.

  والذي يقوم على “الحل السياسي” باعتبار المعنى السابق ثلاثة مستويات مترابطة ومتشابكة إلى أبعد حد، لا يمكن الفصل بينها أو الثقة بأحدها ولا بد من استحضارها في العمل السياسي فضلا عن التأطير النظري بحسبانها كتلة متكاملة .

المستوى الأول منها هو المشغل الدولي بعنجهيته المعهودة واستعلائه المعتاد وصلفه المتكرر، ثم الرسمي الوظيفي جميعه بشكل مباشر او غير مباشر، وينقسم هذا الرسمي الوظيفي إلى عدو حقيقي وصديق افتراضي، لا يختلفان عن بعضهما من حيث البنية والغايات، ويتكاملون الأدوار في ذلك على أتم وجه وأدق الطرق، وثالثها الأدوات المحلية بمسميات شتى وتوجهات عدة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار؛ ويبدأ خلط الأوراق فيتيه أصحاب التغيير الحقيقي المنتمون إلى بيئتهم الفكرية ونسيجهم الاجتماعي والثقافي في زحمة الأطروحات الممنهجة لأسباب ذاتية أهمها :

أنهم قبلوا الأطروحة برعاية دولية وقوانين أممية، وتعاملوا معها بكل قناعة من حيث كونها إنها يمكن أن تحمل تغييرا ما يتكئون عليه في مواصلة ما أرادوا .

والسبب الثاني أنهم أقنعوا أنفسهم أن بعض الرسمي الوظيفي على أقل تقدير يمكن أن يساعد في تغيير يعاديه أصلا، ويتناقض مع بنيته الداخلية حكما، ولا يستطيع أن يسايره إلى النهاية أبدا لطبيعة علاقته مع مشغله الدولي وواجباته المستحقة تجاهه .

والسبب الثالث هو التجميع العشوائي تحت مسميات شكلية وشعارات جوفاء يعتريها الحماس دون عمق يذكر كقول بعضهم : كلنا أبناء هذا الوطن، فيستوي المجرم والمضحي كما يستوي المنتمي الحر والانتهازي المريض ووثيق الصلة العلنية بالأعداء؛ خلطة فواكه طازجة وطيبة ويابسة وعفنة ونتنة ممزوجة بحليب كامل الدسم ومياه آسنة وعسل أصلي، ثم يسند لهذا التجميع التغيير السياسي ويراد منه نتائج فارقة !!

أين الغرابة والاستهجان؟! إذا كنا نستجدي التغيير من مجلس القتل والإجرام”الأمن”، ومن الحكام والطواغيت، ومن الأفراد والمسميات التي تجلس على موائدهم وتمدحهم وترى فيهم قادة تاريخيين، وتصفهم بأوصاف لا تخطر على بال ولا يتوقعها عاقل بليغ .

كشفت الثورة السورية هذه المعاني والمستويات على نحو غير مسبوق، لكن مازال هناك ضعف شديد في عملية تشريحها من قبل البنى التي تدعي الفكر السياسي وتتصدر مشهده إما جهلا مركبا أو خوفا أو انتهازية وضعفا نفسيا خدمة لمن يعملون عندهم، وهذا الأخير هو الأقل بعكس ما يتصور كثيرون، ويندرج في الأول الذين درسوا ويدرسون في الجامعات الأوربية والأميركية الذين يسوقون أنفسهم على أنهم لوبيات وطنية ضاغطة، فهؤلاء أكثر من يجب على بنيتنا الثقافية التحرر منهم ومن أطروحاتهم الفكرية وسلوكياتهم السياسية، وعلى رأسهم الموجودون في أميركا، ويليهم في الجهل والتضليل المشرفون والعاملون في القنوات والصحف المشهورة الخاصة، ثم الرسمية. فالجزيرة وعزمي بشارة وأمثاله والإمكانيات الهائلة الموضوعة بين يديه يجب تجاوزها والتخلص من وطأتها .

والجدير بالذكر أن هذا الكشف والفضح المستقر في الوعي لم يبلغ مرتبة التنظير المتماسك والرصين لقيادة هذه المجتمعات وعدم هدر تضحياتها، وهذا التنظير هو ما تعمل عليه الإضاءة السياسية تراكميا وتسعى إليه مع ثلة ثورية، ويستفزون من استطاعوا مع الإقرار بصعوبته الكبيرة لا باستحالته .

كل المنطقة قاطبة دون استثناء مهددة ومرشحة لأن يحصل فيها ما حصل في سورية وفلسطين بسبب العناد حول صيغة “الحل السياسي” الدولية، والرسمي الوظيفي يضحك على شعوبه عندما يشعرها بالأمان والاستقرار، والفئة الشعبية المقتنعة بأنها في مأمن مما يحدث في المنطقة هي في غاية البساطة السياسية، وإذا لم تبادر بدور مسؤول فإنها تسرع في دمارها وخرابها وسوف تحصد نتائج جهلها أو مكابرتها .

وإن حكام المنطقة الذين يتمتعون بالحكمة ورجاحة العقل السياسي حسب توصيف بعض الأزلام ليسوا أكثر من موظفين لدى السيد الأميركي، ومجرد الحكم عليهم والقول عنهم أنهم وطنيون أو خونة لا يقدم ولا يؤخر شيئا، لا في الحال ولا في المآل، لأن المهم في الأمر هو التيقن بأن نتائج العمل السياسي المرتكز إلى هؤلاء والمعول عليهم لن يفضي إلى تغيير نوعي، بل سيفضي إلى مزيد من الدمار والتهتك الاجتماعي على مساحة واسعة ودرجات كبرى. ولا بد من تجاوزهم فكرا وشعورا وسلوكا، وإن أي مديح لأي رسمي في المنطقة هو طعنة مسمومة في ظهر الشعوب، والدعوة إلى تثمين دور أحد هؤلاء الرسميين كضامن أو مفاوض أو وسيط أو مستضيف هو إطالة عمر المعاناة والمآسي التي يظن المقاومون والثوار أنهم يعملون ضد صانعها .

وكيف لنا – من كل الاتجاهات – أن نتفاعل مع حل يطرحه علينا المجرم الذي يقتلنا، والسارق الذي ينهب ثرواتنا، والمستكبر الذي يصادر قرارنا، والبعيد كل البعد عن ثقافتنا والمعادي لها، والداعم للمستبدين والطواغيت في منطقتنا ؟!

أسئلة ربما تبدو بسيطة أو سهلة، لكنها في الحقيقة مركبة وصعبة إذ إن كثيرين من الذين يصورون أنفسهم أنهم ذوو شأن وفهم وحكمة يتعاملون مع “الحل السياسي” المطروح وكأنه مقدس وخيار قدري لا يمكن تجاوزه، ثم بعد حين وعقب ضياع كثير من الفرص المهمة وقد انكشف المستور يطلقون ألسنتهم وأقلامهم بنقد هذا الحل، ويتلاومون ويصبون جام غضبهم على الشعب الذي مشى وراءهم وآمن بتفوقهم، فيصفونه بأوصاف لاذعة ليبرؤوا أنفسهم من الفشل والخلل .

وسرعان ما يعاودون الكرة مع حل سياسي كالسابق نفسه لملف جديد، وهكذا دواليك .

وتقع المسؤولية الكبرى والأولى على عاتقنا نحن أبناء المنطقة، إذ إن انسياقنا وراء أطروحة “الحل السياسي” بالإيقاع الدولي يدلل على استعدادنا للخضوع والانصياع، وتعتبر الواقعية السياسية التي تنشب أظفارها ومخالبها في مشاعرنا وأفكارنا إشكالية سياسية مزمنة لم نستطع حتى الآن مواجهتها علاوة على التخلص منها؛ والمضي قدما بها يعني التفريط بالدماء الزكية التي أريقت من أجل التغيير المنشود، والقفز على الأعراض الطاهرة التي انتهكت، وتحييد الآلام والآهات الهائلة التي بذلت في سبيل ذلك .

ونعيش حالة تناقض حادة فهناك من يعادي الكيان الصهيوني اليهودي ثم يتحالف مع إيران ومليشياتها ويتغنى بإنجازاتهم، وهناك من يعادي الأميركي والصهيوني اليهودي ثم يؤمن بالرسمي الوظيفي العربي وغير العربي الذين ينسقون معهما على أرفع المستويات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية !

ويدعم الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ثورات الربيع العربي وعلى رأسها الثورة السورية،ثم يصفق منذ أسابيع لاسماعيل هنية الذي يرى في الهالك المرجوم سليماني شهيد القدس، ويبرر بعضهم له ولأقرانه أن ذلك من السياسة والاضطرار !

ويدعي بعض الرسمي العربي وغير العربي وقوفه إلى جانب ثورة الحرية والكرامة، ثم يرى في روسيا وإيران ضامنا وفي أميركا حليفا، ويدعم المقاومة الفلسطينية ضد الكيان إعلاميا ثم يبرز أميركا التي هي رأس حربة ضد الفلسطينيين وضد أي قرار سيادي في المنطقة على أنها شريك نزيه لصنع السلام، وأنها تمارس ضغوطاً على الكيان المجرم !!

يضحي أحدنا بالغالي والنفيس من أجل التغيير في بلده ثم يقيم علاقات مع جهاز أمني في بلد آخر ويرهن هذا التغيير لقرارات الأمم المتحدة التي يصيغها مجلس الأمن بزعامة الولايات المتحدة ألد أعداء التغيير !

حدث ولا حرج عن تناقضات كبيرة وواضحة على لسان المحللين والباحثين والكتاب الذين يضللون الوعي من حيث يدرون أو لا يدرون .

وهناك انفصام حاد بين قدرتنا العالية على التضحيات والعمل العسكري والمواجهة الميدانية، وبين خورنا السياسي الذي يستند إلى الاستعجال والجهل والضعف وغياب الفهم الدقيق والجرأة والهروب والخوف من استحقاقاته.

مئتا سنة من تاريخنا حافلة بالأمثلة على ذلك وآخرها الذي يوضحها توضيحاً دقيقاً الثلة التي جعلت على الثورة السورية من بدايتها تقريباً حتى أستانة ولقاء الدوحة واللجنة الدستورية، وفلسطينيا من خلال “حماس السياسية” التي تمثل للأسف الشديد الثبات الأسطوري في غزة، فبعد خمسة شهور تقريباً يصرون على شكر المجرمين الذين يرونهم شركاء ويضعونهم في دائرة الأمة – والأمة منهم براء – وهم في الحقيقة أجراء المتوحشين الذين يقتلوننا ويشاركون في قتلهم. أي سخرية سياسية تلك !!

والذين يعرضون الآن عن توصيف “حماس السياسية” ويهربون من الحقيقة المرة ويختبئون وراء أصابعهم هم أنفسهم الذين ادعوا رجاحة العقل فناهضوا الثورة السورية ضد المجرم تحت علل واهية، وهم أنفسهم الذين رأوا في الأداء السياسي للفصائل السورية دوراً يمكن الاتكاء عليه لإحداث نقلة نوعية، وهم أنفسهم الذين نادوا بفلان الرسمي الوظيفي خليفة وبعلان سلطانا وبثالث نشميا وبرابع أخ العروبة وبخامس وليا للأمر وحاميا للحمى والمقدسات الشريفة .

سيختصر كل ذلك من يظن نفسه يفهم في السياسة فيقول: هذه هي السياسة. لا أبداً. بل هذه هي السياسة التي يريدها ويفرضها علينا النظام الدولي، والقائل وأمثاله يبررون ضعفهم وجهلهم وخوفهم حينما يركنون إليها، وإلى العمل بموجبها والانصياع لها، ولا يحرر طريقة سياسية واضحة تعبر عن انتمائنا وتنتزع ما يحقق مصلحتنا رغماً عن الدولي، وكل أطره وعماله من الرسمي الوظيفي العربي وغير العربي، وجميع أدواتهم من المعارضات التقليدية والحركات والجماعات؛ ولا يدعم من ينادي بذلك ويسعى إليه ويعمل له، وإنما يتنكر له ويتحاشاه، وربما يعاديه .

والخلاصة البسيطة العميقة تقول: كما استطعنا أن نواجه المحلي وبعض الإقليمي ورمينا بهم أرضاً بعيداً عن هذه الواقعية وأجنداتها ومخلفاتها، فإننا نستطيع أن ننطلق مرة ثانية في مواجهة سائر من تبقى برؤية سياسية متوازنة تتجاوز الذل والخنوع.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى