لم تكن ثورة 30 حزيران عام 1920 المجيدة حدثًا عابرًا، او ردًا على اعتقال القوات البريطانية احد زعماء العشائر الشيخ شعلان ابو جون، او مجرد تظاهرة حدثت في بغداد وتردد صداها عاطفيا في مدن عراقية اخرى، سواء في منطقة الفرات الاوسط او المناطق الغربية، وانما كانت نتيجة رفض عموم العراقيين للمحتل البريطاني الذي واجهه العراقيون منذ دخوله اول شبر في الاراضي العراقية. بالمقابل فان هذه الثورة لم يشعل نارها حزب سياسي او فئة او طبقة اجتماعية او مذهب او قومية، وانما هي ثورة قام بها الشعب العراقي من شماله الى جنوبه، على الرغم من ان طابعها كان قوميا عربيا الى حد كبير. حيث كانت شعاراتها الاستقلال وحكم عراقي وطني ووحدة عربية. بل ويمكن القول بانها كانت تتويجا للحركة القومية العربية في العراق في بداية صعودها، جراء تفاعلها الواضح والعميق مع عموم الحركة القومية في الوطن العربي. ولم تقلل من اهمية ذلك الخصوصيات والسمات المحلية التي تمتعت بها الحركة القومية في العراق. بل ان هذه الحركة القومية الصاعدة حينها مثلت الطابع القومي والوطني للثورة المجيدة. خاصة وان هذه الثورة تزامنت مع بلوغ الحركة القومية حينها مرحلة عالية من القوة والعزم قبل الاحتلال بعدة سنين. وذلك بسبب انتشار التطلعات القومية والتسييس الواسع لها، والتطور التاريخي، ونمو العوامل الاقتصادية والاجتماعية، ومحاولة التتريك العثمانية، وما تلاها من غطرسة استعمارية انتهجها الحاكم البريطاني للعراق بعد الاحتلال مباشرة، والتي وصلت درجة من الاستهتار دفعت بعض الجهات الرسمية البريطانية. ومن الجدير بالذكر ان من اهم الاحداث التي ساهمت في الثورة وتحديدا في اواخر عام 1919 هجوم الضباط العراقيين في سوريا على الحدود العراقية وتحرير دير الزور بالقوة، وشن هجمات ضد قوات الاحتلال في القائم ومدينة عانة، ثم حدوث انتفاضة تلعفر ودخول الجيش العراقي العربي فيها، ثم محاولة تحرير الموصل بالقوة.
وفق هذا السياق فان ثورة العشرين هي تعبيرعن هذا التطور في الحركة القومية وعنفوانها. بمعنى اخر، فان هذه الثورة لم تكن مجرد انفجار عشائري فوضوي او عشوائي، او مجرد استجابة دينية لبعض الفتاوى على اهميتها، وانما هي ثورة وطنية ذات طابع قومي واضح، بدليل ان شعاراتها المركزية او اهدافها الرئيسية هي المطالبة بالاستقلال الكامل والحكم العربي لكيان عراقي موحد، وكذلك المطالبة بالوحدة العربية. اضافة الى اشتراك جميع فئات الشعب فيها ومن ضمنها العشائر ورجال الدين من مختلف المذاهب. ولا يعيب قومية الثورة بانها ليست خالصة تماما او نقية، فاغلب الثورات هي نتيجة تفاعل عدة عوامل، سياسية واقتصادية واجتماعية، مثلما لا توجد حركات او افكار خالصة باستثناء الافكار المطلقة والمجردة. وهذا ما يفسر اشتراك القوميين في الثورة وكذلك الاحزاب الناهضة حينها مثل حزبي العهد وحرس الاستقلال، وضباط عملوا قبلها داخل الجيش العثماني. وكذلك شارك فيها علماء الدين في المناطق المقدسة الذين قبلوا بالشعارات القومية مثل محمد تقي الشيرازي وابنه، ومحمد مهدي الخالصي وعبد الكريم الجزائري ومن قبلهم محمد سعيد الحبوبي وكذلك العشائر العراقية التي مثلت القوة العسكرية الضاربة للثورة. اما اعتبار اعتقال الشيخ شعلان ابو الجون واطلاق سراحه بالقوة، من جهة ومقتل الجنرال البريطاني لجمن على يد الشيخ ضاري المحمود من جهة اخرى، فهذان الحدثان مثلا الشعرة التي قصمت ظهر البعير.
هذه الثورة المجيدة قد اسقطت السياسات الالحاقية والاستعمارية المباشرة، التي كان ينتهجها الحاكم المدني البريطاني في العراق، الامر الذي اجبر المحتل على التخلي عن حكم العراق المباشر، والاسراع الى عقد مؤتمر في القاهرة بعد عدة شهور من اندلاع الثورة، لايجاد صيغة استقلالية ترضي الوطنيين العراقيين ذوي الاتجاه الثوري، وترضي في نفس الوقت الاجنحة المحافظة في المجتمع العراقي، الذين كانوا يتوجسون ذعرا من السياسة الثورية للقوميين. وقد شكل ذلك في نهاية المطاف انتصارا وطنيا وليس انتصارا نهائيا. اي ان الثورة حققت موضوعيا قيام الدولة العراقية الحديثة. اذ لم يكن بالامكان حينها تشكيل جيش تحرير موحد للفصائل العشائرية الفلاحية، كما لم تتمكن الثورة من انشاء سلطة مركزية موحدة تقود فصائل الثورة كافة، وتدير المناطق المحررة كلها. لان بعض العشائر اكتفت بتحرير مناطقها من الاحتلال الاجنبي، كما انها لم تتمتع بقيادة موحدة ذات توجه قومي وطبقي جذري وحاسم. هذه هي الحقيقة التي لم يستطع ان يتحايل عليها او يقلل من شانها المستشرقون، الذين لم يروا فيها عاملا حاسما ضد المحتل، او البعض الاخر الذي اعتبرها مجرد تمرد عشائري فوضوي. اما الذين حاولوا اظهار الشعب العراقي على انه شعب مفكك لا تربطه اي وحدة وطنية وانه شعب مقسم الى كيانات طائفية ودينية وعنصرية وعشائرية، فقد دحضت هذه الثورة اطروحاتهم وخاصة تلك التي تبناها على سبيل المثال اليهودي العراقي ذو الولاء البريطاني ايلي خدوري.
ان هذه الثورة تكتسب في ايامنا هذه اهمية كبيرة، خاصة في ظل المخاطر التي تهدد ثورة احفاد هؤلاء الابطال، والمقصود هنا ثورة تشرين العظيمة، التي ما زالت نيرانها متقدة. هذه المخاطر ليست في العراق وحده، وانما تهدد الامة العربية عموما. حيث خطر دول الطوائف وانتهاك السيادة الوطنية والتجزئة وغياب الديمقراطية واغتيال الفكر الوطني والقومي وعربدة الدول الاستعمارية والكيان الصهيوني في المنطقة. الى جانب الفقر المتقع الذي يعيش في ظله معظم شعوب المنطقة. كما تكتسب هذه الثورة اهمية اكبر كونها اصبحت الملهمة لثورة تشرين العظيمة. وبهذه المناسبة كان من المفترض ان تندلع الموجة الثالثة للثورة في مثل هذا اليوم العظيم الذي يصادف مرور مائة عام على ثورة العشرين، لكن المسؤولية العالية للثوار تجاة شعبهم، هي التي اجلت موعدها. حيث صادف قبل اسابيع من هذا الموعد انتشار فيروس كورنا القاتل بشكل لم يسبق له مثيل. حيث التجمعات البسيطة تساعد في انتشار المرض فكيف اذا انطلقت ثورة مليونية كما هو مخطط لها؟. ومع ذلك ستبقى هذه الثورة وبطولة ابنائها ماثلة امام عيون ثوار تشرين، ونبراسا يضيء لهم طريق الانتصار. خاصة وان ثورة العشرين تتشابه في بدايتها ثورة الاجداد، التي بدات حينها بتظاهرات قام بها اهالي بغداد التي تمثل الان ساحة التحرير، ثم انتشرت الى مدن اخرى وخاصة مدن الجنوب. بل اظهرت الثورة نفس التلاحم الذي ظهر في ثورة الاحفاد والذي شمل جميع فئات الشعب، اضافة الى مشاركة النخب القليلة انذاك الثقافية والعلمية والاجتماعية ومختلف القطاعات الشعبية. وقد لخص هذا التلاحم والتزاوج الفكري بين التيارات المختلفة المتفاعلة ضمن ثورة العشرين مفتي الموصل محمود حبيب العبيدي في قصيدة طريفة. حيث اقسم في بعض ابياتها بالقران والانجيل بقوله ان الشعب العراقي لن يقبل ابدا بالاحتلال او الانتداب ومن ضمنها الابيات التالية.
لم تكن يا بن لندن علويا ×××× هاشميا ولم تكن قرشيا
لا و لا مسـلما عربيا ×××× من بني قومنا ولا مشرقيا
فلماذا تكون فينا وصيا
تحية لثورة العشرين المجيدة وثوارها الابطال، وتحية لكفاحهم المسلح ضد جيوش اكبر امبراطورية حينها، وتحية لشهدائها الذين كان موتهم انتصارا، والف تحية لاهداف الثورة النبيلة وابرزها، استقلال العراق وحكم وطني ووحدة عربية. تحية من الاحفاد، ثوار تشرين الابطال. واذا كانت ثورة العشرين لم تحقق الانتصار النهائي فان ثورة الاحفاد تتعهد لكم بانها ستنجز المهمة وتحق النصر وتكنس الاحتلال ومعه كل عملائه في المنطقة الخضراء.
المصدر: العراق العربي