عام على رحيل حكم البابا: حطيئة الإعلام السوري

عدنان عبد الرزاق

سكنني المخضرم، جرول بن أوس بن مالك العبسِي “الحطيئة”، حينما طلب إليّ صديقي محمد منصور الكتابة، عن صديقنا المشترك الراحل حكم البابا، لتكون ذكرى وفاته الأولى، ضمن التوثيق الذي تؤرّخه مجلة “العربي القديم”، ولأول مرة إعلامياً، عن مدينة حماة… ولم أعرف الفكاك من الحطيئة.

ربما، لأن حَكم والحطيئة يتشابهان بأمور لا تُحصى، يأتي على الأرجح بمقدمتها، هجاؤهم الجميع، حتى قبل متانة الطرح وتفرده.

ولأني، من قلة قليلة جداً، آثر حكم التواصل معها، حتى وفاته في 19 شباط من عام 2023، زاد سكني الحطيئة الذي تمرّد، كما حكم، على جميع الوصايا التقليدية، بما فيها هاتيك التي تشير إلى الندم، أو الخوف من الموت وما بعده.

فالحطيئة الذي أوصى، فيما أوصى، بعد إلحاح من حوله ب “ويلٌ للشعر من رواية السوء” اقترب منه حكم بوصاياه ب”ويل لسوريا بزمن الإذلال والرخاوة”. ويتتالى التشابه بين فحل الشعر الجاهلي والإسلامي الحطيئة مع فحل الإعلام أيضاً، والمخضرم بين الأجيال الإعلامية، والمدارس والبلدان، حكم البابا… ففروسية الحطيئة التي ألزمته، ساعات وفاته، الاعتراف بغطفان، وامرئ القيس أنهما أشعر العرب، هي ذاتها دفعت حكم للاعتراف، بمهنية، وشعرية حتى خصومه السياسيين.

وقد لا يعرف كثيرون، أن حكم البابا أول ما عُرف به، هو الشِّعر، وليس الصحافة، فحينما أصدر ديوان “عصيان” لم يك بحمى صاحبة الجلالة، لتتوالى مجموعاته الشعرية السبع، قبل أن تأخذه مهنة المتاعب، ويتوه بين النقد والصحافة، وكتابة الدراما التلفزيونية، تاركاً خصوصية ألفُها الجرأة، ولعن الحكام المستبدين وياؤها التثوير، والدعوة للعزة، وإنصاف الفقراء… ليلتصق بالحطيئة مرة أخرى، فجرول دعا الفقراء إلى عدم الاستكانة والخضوع بوجه ظلامهم: “أوصيكم بالإلحاح في المساءلة، فإنها تجارة لا تبور”، وآخر ما خط حكم، قبل موته: “ربما أصبحت قديماً، أو أعيش على أطلال الماضي.. لكنني أعتبر الثورة السورية أهم ما عشته في حياتي، وأنها ستنتصر إن لم تكن قد انتصرت فعلاً”.

ليبقى بخل الحطيئة، ربما الاختلاف الوحيد، مع حكم البابا الذي يسرف بكرمه الحاتمي لحدود التبذير… واجتاحتني للتو آخر دعوة إفطار في آخر رمضان، قبل وفاة حكم، يوم تمرّد حكم على تقاليد الجغرافيا، إنه بضيافتي، وآثر أن يكون صاحب الدعوة.

نهاية القول: قلة قليلة استطاعت الغوص بأعماق حكم الطفل، وكثيرون من حكموا على حكم، من دون أن يعرفوه، أو من خلال ما قيل لهم، أو قرؤوه للراحل.

هو مشاغب لا شك، بل ولحدود التطرّف أحياناً.

وحكم هجّاء، إلى ما قبل الحطيئة، ونكران الجميل بكلمة أو قافية.

وحكم انفعالي بقضايا الحقوق، إلى ما بعد التهور بطلقة…. ولكن هاتيك الخطايا هي خصوصية حكم البابا التي تفرّد بها، بعد أن سار، ربما وحيداً، بين حقل ألغام القمع والاستبداد، وفي حلقه حزمة شوك، جمّعها شوكة تلو شوكة، واحدة من ذكريات إبادة آل الأسد لحماة، وهو ابنها البار، وحارسها الأمين، وشوكة أخرى من ظروف أسرية، قلمّا أسرّ لأحد بها.. وثالثة وأخيرة، من زمن رخو علا فيه أشباه الموهوبين، وساد فيه المتكسّبون لابسو الأقنعة.

لتبقى طيبة حكم، ونقاؤه الداخلي الخصلة التي لمسها المقربون، وطاول فيئُها المحتاجين، وهي كلمة السر، على الأرجح، بكل انفجارات حكم.

فأن تكون طيباً بمواهب مركبة، ومستويات نفسية متعددة، بواقع نظام قمعي حاقد، فلا مناص من التمرّد، والمشاكسة، وهجاء جميع الرخويّات… حتى نفسك إن طاولتها الرخاوة.

المصدر: العربي القديم

تعليق واحد

  1. بالذكرى السنوية الأولى لرحيل حكم البابا الشاعر والصحفي وكاتب الدراما التلفزيونية 19-02-2024/2023 ، رثاء بمقاربة جميلة بينه وبين “الحطيئة” وما كتبه قبل موته “ربما أصبحت قديماً، أو أعيش على أطلال الماضي.. لكنني أعتبر الثورة السورية أهم ما عشته في حياتي، وأنها ستنتصر إن لم تكن قد انتصرت فعلاً”.

زر الذهاب إلى الأعلى