يجهد كثيرون من المؤمنين نفوسهم وعقولهم وتفكيرهم لإثبات وجود الله كشكل من أشكال التحريض على الإيمان به. منهم من يلجأ إلى استبعاث حكايا وحوادث تتحدث عن معجزات بشرية وخوارق غير موضوعية؛ لتدعيم مقولتهم بوجود الله خالق الكون بما فيه من آيات معجزات وما فيه من بشر أسوياء وغير أسوياء. مؤمنين وملحدين وما بين ذلك من درجات. أما ما يسوقه مثل هؤلاء من معجزات وخوارق بشرية فليست إلا تخيلات لا تمت الى الواقع بصلة.. أو روايات منقولة مفبركة لا تتصل بالحقيقة بأي رباط..
وبصرف النظر عن النوايا الحسنة لهؤلاء أو أغلبهم؛ آلا أنهم يضيعون جهودهم بتلك الروايات غير الواقعية أولا.. وثانيا بالتوجه إلى غير المؤمنين لحضهم على الإيمان. فلا الروايات ستصبح حقيقة ولا الملحدون سيؤمنون. لا بل سيزدادون ابتعادا عن الدين وتهكما على أمثال هؤلاء المؤمنين بما يرددونه من حكايا غير حقيقية تدل على سذاجة عقولهم وضحالة تفكيرهم.. الأمر الذي يؤخذ عليهم ولا يصب في مصلحة دعوتهم..
وهنا بعض الملحوظات السائغات صونا للحقيقة والوقائع والدين ذاته:
1 – والحقيقة أن الله لا يحتاج بحثا لإثبات وجوده. ففي الكون العظيم من الآيات المعجزات الخارقات ما يكفي ويزيد لبيان وثبوت وتأكيد خالق مدبر لهذا الكون العظيم المحكم صناعة وترتيبا وخلقا..
وله في خلق الإنسان وصورته وبيانه؛ بيان واضح وعميق على وجود خالق مدبر لهذا الكائن العظيم الذي اسمه الإنسان..
وله في الموت وسره والروح وأسرارها والعلم وآفاقه الكثير من الدلائل المعجزة الدالة على وجوده وعظمة خلقه ومخلوقاته..
2 – أما أولئك الملحدون فلا داعي للتوجه المضني إليهم فهم في إلحادهم مستغرقون. لن يلتفتوا إلى أي حديث في الدين أو عنه إليهم. وكلما خاطبهم المؤمنون بحديث في الدين، استنكروا وتهكموا وزادوا استخفافا بالدين ذاته وبالمتدينين.. وما لم تقع في حياة الواحد منهم أحداث تهز كيانه أو تصحي عقله وفكره فلن يستمع إلى حديث الروح يناجيه مقتربا منه أو مقربا إلى قلبه الإيمان…
3 – إن الغالبية الساحقة من البشر مؤمنون بالله. فلا يحتاج الله أعدادا إضافية من المؤمنين بوجوده. لكنه بحاجة إلى تفعيل إيمان المؤمنين وتجسيده في حياتهم العملية والميدانية: قيما وسلوكا وتعاملا فيما بينهم ومع جميع كائناته ومخلوقاته..
تتجسد قيم الله في كل ما ينفع الناس والحياة والمخلوقات. فهو المحبة الخالصة والعدل المطلق والإنسانية النقية والنفس التقية والفكر السليم والعقل القويم والعمل الصالح.. الله هو الخير المطلق ولا خير فيمن يعبد الله أو يؤمن بالله ولا يجسد قيمه الخالدة فوق الزمان والمكان..
فلا حاجة لله في البشر وما يفعلون. حاجته أن يكونوا أوفياء لما يحضهم عليه؛ مخلصون له فيما يعبر عن وجوده في دواخلهم وتعاملاتهم..
يكفي سلوك المؤمنين استقامة ليكونوا قدوة فرموزا للخير فدعاة للحق وبالتالي مثلا لغير المؤمنين وللملحدين أنفسهم..
4 – إن تجسيد قيم الله ومعانيه السامية في حياة المؤمنين هو الفيصل في تقرير مدى تدينهم: عميقا هو حقيقيا أم هو ظاهري شكلاني سطحي غير نافذ في مجاهيل الحياة ومضامين السلوك..
فليست العبرة في مظاهر التدين بل في ممارسة التدين..
المؤمن الحقيقي صوت ضد الظلم وراية مع الحق ويد للخير ونفس للاستقامة وعقل للتقوى ونداء للحرية وعنوان للكرامة. الكرامة التي تحفظ للإنسان حقه وعزته وحريته. الحرية التي تتيح للإنسان أن يكون إنسانا سيد نفسه عضوا فاعلا إيجابيا في مجتمعه وبيئته الإنسانية العامة..
المؤمن الحقيقي ليس أنانيا ولا يمكن أن يكون..
وليس حسودا ولا يمكن أن يكون..
لا يقبل الكذب والغش والنفاق في أي أمر..
لا يهادن الظلم. فالظالمون هم الكافرون.
لا يرضى الظلم لنفسه ولغيره أيضا. يأبى الظلم على نفسه كما على غيره. ينكر الجور ويحاربه في كل مجال. لا يخشى إلا الله…
إن إدراك المعاني الحقيقية والعميقة لشعار:
” الله أكبر ” كفيل بذاته لتحرير الإنسان من العبودية لأي شيء سوى الحق. تحريره من الخوف ممن دون الله بشرا أيا كانوا.
كفيل بتلزيم سلوك الإنسان لكل قيم الخير والعدل والاستقامة والمحبة.
وفي هذا ما يكفي لصلاح حياة البشر وعلاقاتهم..
إياك نعبد وإياك نستعين يرددها المؤمنون المصلون في كل صلاة.. وحدها تكفي لتكون تحريرا للمؤمن نير الخضوع والخنوع والخوف والإنحناء إلا للخالق الباري فلا معبود سواه. ولا معين إلاه..
الله يتجلى في سلوك عباده ومعاملاتهم وإلا فلا حاجة له في كل مظاهر التدين إن لم تسهم بفعالية في تنشئة إنسان مؤمن حقيقي تقي في نهجه وحياته. والتقوى سيرة أخلاقية أمينة مخلصة صادقة متكاملة..
والتقوى هي الكشاف لحقيقة الإيمان ودوافع العبادة وخلفياتها. فينكشف بها الأصيل من المزيف المنافق الذي يتلطى بمظاهر التدين لتمرير سلوكيات غير متدينة؛ أو العابر السطحي الجاهل الذي يمارس العبادات طقوسا بحكم العادة والتعود دون الخوض في مضمونها العميق الملزم…
5 – سوف يقودنا هذا الى دعوات كثيرة يطلقها مؤمنون بهدف ” التنوير ” الديني فيقمحون العقول في مسائل غير ذات صلة بحياة الناس العملية ولا بالتحديات الراهنة عليهم أو على مصائرهم او بمشكلات واقعهم الاجتماعية. الأمر الذي يؤدي إلى إثارة نقاشات في غير محلها وأوانها. مع ما يترافق بذلك من صرف الأنظار عن الأخطار المحدقة والتحديات الملحة والمشكلات المعيقة لحركة التقدم والتحرر الاجتماعي. لا بل تثير نزاعات فكرية وثقافية من شأنها زيادة أجواء التوتر والشحن والفتنة والانقسام فيما المطلوب الحض، بكل أسباب التنوير والتوعية، على التوحيد وتجميع الطاقات وتنسيقها وتأطيرها وتوجيهها لخدمة المصير المشترك لجميع أبناء المجتمع الواحد بما في ذلك وجودهم المهدد ذاته..
وكما هي حال الجهود الرامية الى إقناع الملحدين بوجود الله؛ فإن ” التنوير ” على طريقة الحض على الانقسام والفتنة؛ يتماهى مع كل محاولات إشغال الناس عن مصيرهم الاجتماعي الواحد المحتوم؛ بانشغالات مضعفة مشتتة انقسامية تبعثر الطاقات والجهود بدل توحيدها..
6 – وحيث أن مجتمعاتنا العربية تعيش حالات من الأخطار الوجودية والتحديات المصيرية؛ فإن التدين الحقيقي يقتضي مواجهتها وفق المنهج الرباني الإيماني؛ بالتعاون وعمل الجماعة والحض على التوحيد والتكاتف والتضامن لرد الأخطار وحماية الوجود والهوية والمقدرات..
إن حربا عالمية شاملة تشنها قوى النفوذ الأجنبي الاستعماري كافة على الوجود العربي ذاته وقد استطاعت تحقيق انتصارات عميقة عليه في مختلف ميادين الحياة؛ وهو ما يستدعي الكف عن كل خطاب انقسامي وكل عصبية تقسيمية وكل دعوة تشتت التفكير وتبعثر الجهود وتستنزف الطاقات..
إنه أوان التوحيد وإسقاط كل دعوات التقسيم والانقسام. يدخل هذا في صلب الإيمان الديني وقيم التدين الحقيقي. قيم الله الفاعلة الجامعة المانعة. العاصمة من التفرقة والعصبية والانحراف والسلبية والتقاعس والتردد فضلا عن كل أشكال النفاق والتواطؤ والخيانة..
وعليه ينبغي توجيه كل خطاب في الدين أو الإصلاح الديني أو التنوير أو تقييم التراث؛ إلى خطاب للتوحيد واصلاح السلوك وصيانة العقيدة والإيمان والتمسك بالحق ورفض الظلم لحفظ النفوس وحمايتها من كل خطر وجودي..
7 – وفي هذا الزمن الذي نعيشه حيث تعبث بمصائر البشر مفاهيم النظام الوحشي العالمي وعولمته الرأسمالية المسؤولة عن تحويل الإنسان إلى سلعة وإلى مادة للاستهلاك وتسخيف وعيه واهتماماته وكل مظاهر إنسانيته؛ يصبح واجب المؤمنين الحقيقيين التزام خطاب ديني يحفظ الأخلاق والقيم الربانية ويصون المجتمع من مظاهر الفساد والتفكك والسلبية التي تزداد أخطارها ومظاهرها في كل يوم..
إن أنظمة العولمة الرأسمالية الفاسدة؛ خالية من أي مضمون أخلاقي إيماني وليس همها سوى تفكيك كل مجتمع بتفكيك الأسرة وصولا إلى تفكيك الإنسان نفسه تأسيسا لسيطرة مستديمة على الجميع؛ مع ما يعني ذلك من انحطاط وتدهور واضمحلال وخضوع لسيطرة قوى الرأسمالية المجرمة المفترسة..
وهذه القوى تمتلك من وسائل الإغراء والضغط والابتزاز والتوجيه واغتصاب العقول وتسخيف المفاهيم ونشر التفاهة والانحلال؛ ما يفوق قدرة البشر المتحررين من سطوتها حتى إذا توحدوا؛ فكيف إذا كانوا مشتتين متفرقين!
خلاصة القول فإن كل دعوة انقسامية هي دعوة للابتعاد عن الله وقيمه وأخلاقه..
إن مواجهة الأخطار المتربصة بأخلاق الإنسان وقيمه الربانية الإيمانية ينبغي أن يكون عنوان كل دعوة دينية وإصلاحية وتنويرية.. ولا يتم ذلك إلا بتجسيد الإيمان سلوكا عمليا للفرد وللجماعة.
2 604 5 دقائق
رؤية صائبة وتحليل منطقي ودقيق..بوركت جهودكم
أن الله لا يحتاج بحثا لإثبات وجوده. ففي الكون العظيم من الآيات المعجزات الخارقات ما يكفي ويزيد لبيان وثبوت وتأكيد خالق مدبر لهذا الكون، قراءة موضوعية ودقيقة بالرؤية الصحيحة بإن الحقائق لا تحتاج لبراهين بوجودها، وأنظمة العولمة الرأسمالية فاسدة خالية من المضمون الأخلاقي الإيماني وهمها تفكيك المجتمع والأسرة وصولا إلى الإنسان. والدعوات انقسامية هي دعوة للابتعاد عن الله وقيمه وأخلاقه.