تسعى روسيا إلى توسيع نفوذها في البادية السورية عسكرياً واقتصادياً، وتحديداً في منطقة تدمر الأثرية (محافظة حمص) ومحيطها، بهدف حماية استثماراتها النفطية والغازية هناك، إضافةً إلى تثبيت وجودها في تلك المنطقة، استعداداً لأيّ استحقاقات مستقبلية تتعلق بمصير مناطق شرق سورية التي تهيمن عليها القوات الأميركية وتلك المتحالفة معها. ويأتي ذلك فيما تمسك واشنطن بورقة عقوبات قانون “قيصر”، والتي سيكون لها بلا شكّ تأثيرٌ على الشركات الروسية التي تسعى للاستثمار في المنطقة.
وقال الناشط الصحافي، ومدير موقع “بالميرا مونيتور”، أيمن الحمصي، لـ”العربي الجديد”، إنه تمّ رصد وصول قوات خاصة روسية إلى المنطقة في الفترة الأخيرة، ترافقها وحداتٌ من فرق الهندسة والاستطلاع الروسية التي دخلت مطار تدمر. بدورها، أوضحت مصادر محلية لـ”العربي الجديد”، أن القوات الروسية استقدمت معها عشرات العناصر من “الفيلق الخامس” التابع لها، بهدف نشرهم في محيط المطار، لحراسته من هجمات خلايا تنظيم “داعش” التي تنشط في المنطقة. وأظهرت صور حديثة نشرتها مجموعة “صائدو الدواعش” الروسية عبر تطبيق “تلغرام” أخيراً، قوات روسية خاصة بين آثار مدينة تدمر الأثرية.
وبحسب موقع “زمان الوصل” المحلي، فإن القوات الروسية استولت على مطار تدمر بشكل كامل خلال الأسبوع الأول من الشهر الحالي، وشرعت بإقامة قاعدة عسكرية فيه. ونقل الموقع عن “مصدر خاص”، قوله إن وفداً عسكرياً روسياً تسلم المطار من وفدٍ تابع للنظام يرأسه قائد الفرقة الجوية 22، اللواء الطيار توفيق محمد خضور، مؤكداً أنه “تمّ إخلاء المطار من الوجود الإيراني، إضافة إلى كل ما يتعلق بـ أو يخص قوات النظام عسكرياً أو لوجستياً”. وأوضح المصدر، أن الروس شرعوا بأعمال الحفر والتجهيزات الهندسية بهدف إعادة تأهيل المطار كقاعدة عسكرية روسية شبيهة بقاعدة حميميم في الساحل السوري، خالية من أي وجود للنظام فيها، وتكون صالحة لاستقبال الطائرات العسكرية والمدنية، متوقعاً أن تنشر روسيا في مطار تدمر مقاتلات حربية. لكن الهدف الاستراتيجي لروسيا هو، بحسب المصدر، أن تستثمر المطار للأغراض المدنية والسياحية مستقبلاً، كون تدمر تضم معلماً من أهم المواقع السياحية في سورية والإقليم، فضلاً عن وجود بعض البنى التحتية للسياحة في تدمر، كفندق بالميرا.
وكانت قوات النظام السوري والمليشيات الإيرانية أعادت استخدام المطار عسكرياً ونشر مروحيات وطائرات حربية فيه في سبتمبر/ أيلول 2017، بعد إعادة تأهيله على عجل من قبل كتيبة إنشاء المطارات التابعة للنظام، بمساعدة شركات هندسية مدنية بالتعاون مع قوات الهندسة الروسية. كما تمّ وضع مروحيات هجومية روسية من طرازات مختلفة لفترات محدودة، وسرب من الطيران المسّير الإيراني أثناء المعارك ضد “داعش” في البادية التدمرية وصولاً إلى دير الزور والبوكمال.
ويأتي ذلك، بالتزامن مع تصاعد الحديث عن وجود اتفاق روسي – أميركي، لإخراج المليشيات الإيرانية من المنطقة ونشر قوات روسية بديلة عنها. ولم يستطع الناشط الصحافي أيمن الحمصي، في حديثه لـ”العربي الجديد”، الجزم بوجود نية روسية لتوسيع مطار تدمر، والاستيلاء عليه بالكامل، مشيراً إلى أن ذلك يدخل في باب التخمين، ومعتبراً أن ما يجري على أرض الواقع حتى الآن هو مجرد إصلاحات وعمليات ترميم داخل المطار. واستغرب الحمصي قيام الروس بنشر صور لجنودهم من القوات الخاصة في المناطق الأثرية التي كان “داعش” عمد إلى تخريبها أثناء سيطرته على المنطقة. ولفت إلى أن الروس موجودون بالفعل في قاعدة تياس (مطار التيفور) وحقل شاعر وحقل جزل، ومتمركزون سابقاً بمطار تدمر، ومنتشرون بمناطق ريف دير الزور. ورأى أن مطار تدمر هو أقل أهمية من قاعدة التيفور الجوية، وقد استخدمه الروس بعد السيطرة على المدينة لإقلاع الطائرات المروحية لمساندة القوات البرية في العمليات العسكرية ضد تنظيم “داعش”، بغية تأمين الطريق إلى مدينة دير الزور شرقاً وحمص غرباً، لكن المليشيات الإيرانية اتخذته في ما بعد قاعدة عسكرية، خصوصاً من جانب لواءي “زينبيون” و”فاطميون”.
وأوضح الحمصي أن الروس، وخصوصاً المرتزقة ممن يعرفون بـ”صائدي داعش” التابعين لشركة “فاغنر”، يتمركزون غرب تدمر لحماية آبار النفط والغاز في منطقتي شاعر وجزل، ويتخذون مطار التيفور قاعدة انطلاق. وأعرب عن اعتقاده بأن تعزيز روسيا لقواتها في المنطقة، هدفه حماية حقول النفط والغاز والفوسفات هناك، حيث حصلت شركات روسية على عقود استثمار خلال السنوات الأخيرة، فضلاً عن أهمية تدمر كعقدة طرق بين شرق سورية وغربها، لذلك فهي تحظى باهتمام جميع القوى، وخصوصاً الإيرانية، كونها على طريق الدولي الواصل إلى معبر البوكمال شرقاً وحمص والبحر المتوسط غرباً. ورأى أن روسيا تتخذ من مسألة حماية آثار تدمر ذريعة لتعزيز وجودها العسكري والاقتصاد هناك.
وكان مدير متحف “إرميتاج” الروسي، ميخائيل بيتروفسكي، وقع مذكرة تفاهم مع هيئة المتاحف والآثار السورية، في أواخر نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، لترميم بعض المنشآت التاريخية والقطع الأثرية في تدمر، بحسب وكالة “سبوتنيك” الروسية. وفي مارس/ آذار الماضي، أعلن المدير العام للآثار والمتاحف في سورية، محمود حمود، أن توقيع الاتفاق مع روسيا لترميم قوس النصر الأثري بمدينة تدمر تمّ تأجيله بسبب الإجراءات المتخذة لوقف تفشي وباء كورونا، حيث لم يتمكن الوفد الروسي من الوصول إلى دمشق من أجل توقيع الاتفاق بسبب إغلاق المطارات وسط التقييدات الوقائية المفروضة من قبل السلطات على خلفية الوباء.
ورأى مراقبون أن الجهود الروسية بهذا الاتجاه تشير إلى سعي موسكو للهيمنة على القطاع السياحي السوري، بعد هيمنتها على القطاع الاقتصادي والقرار السياسي والعسكري والأمني، فيما يشير خبراء إلى أن المافيا الروسية ساهمت في سرقة آثار وتماثيل تدمر، بالشراكة مع لصوص من “داعش” وضباط من النظام السوري من أصحاب الخبرة في نبش آثار البادية السورية. وأشار المراقبون، بشكل خاص، إلى كثرة القطع الأثرية التدمرية المعروضة للبيع على شبكات الإنترنت، وذلك إثر الفترة التي تلت تعاقب السيطرة على تدمر بين النظام السوري وروسيا من جهة وتنظيم “داعش” من جهة أخرى. يذكر أن مدينة تدمر المدرجة في لائحة التراث العالمي من قبل منظمة “اليونسكو”، تعد من أقدم المدن التاريخية في الشرق، وتحظى آثارها بشهرة عالمية.
وبطبيعة الحال، فإن لتدمر ومحيطها أهمية اقتصادية لروسيا، حيث وقعت شركات روسية عقودا طويلة الأجل في مجالي النفط والغاز من الحقول المتبقية في يد النظام، كذلك وقعت اتفاقيات لترميم وتطوير المنشآت النفطية، إضافة إلى عقود لتنفيذ مشاريع لتوليد الطاقة واستخراج الثروات المعدنية، واستخراج الفوسفات من المنطقة الشرقية الواقعة جنوب مدينة تدمر.
غير أن تداعيات قانون “قيصر” الأميركي لا بد أن تصيب الشركات الروسية بخيبة أمل، لأنه يعاقب كل من يتعامل مع النظام السوري، وهو ما جعل روسيا تركز مرة أخرى على الجوانب العسكرية أكثر من الاقتصادية، بغية تحسين موقفها، وموقف النظام التفاوضي، في أي استحقاقات سياسية متوقعة، مع إمساك واشنطن بورقة “قيصر” التي ستكون سيفاً مسلطاً على رقاب النظام وروسيا وإيران.
المصدر: العربي الجديد