يتعرض العرب في هذه اللحظة من تاريخهم إلى خطابات نافية لهم متعددة الأهداف وإلى أنماط من السياسات العملية لترسيخ واقعهم الذي هو ثمرة شروط داخلية وخارجية باتت معروفة للجميع.
فالمثقفون الطائفيون في سوريا يتحدثون عن أن شعب سوريا وبلاد الشام سريان وما العرب إلا غزاة. والأحزاب الطائفية الشيعية في العراق أتت على الهوية العربية لصالح هوية مذهبية وصارت تابعة لإيران.
وبعض متعصبي الكرد في سوريا يجعلون من المنطقة السورية في الشمال وشمال شرق ذات الأكثرية العربية كدير الزور والحسكة والرقة منطقة تاريخية للأكراد والقبائل العربية طارئة واخترعوا اسماً كردياً سخيفاً لها هو:”روج آفا”.
وتسمع في الجزائر أصوات أمازيغية تدعو إلى عودة العرب وهم الأكثرية من حيث أتوا. ناهيك عن ترهات الفرعونية وما شابه ذلك. أنا لا أعرف تركيب الDNA في دمي ولا أريد أن أعرف هذه السخافة العرقية وهب أني من أصول إيطالية تعود إلى عصر الرومان ولكني انطلاقاً من مشيئتي الحرة في الانتماء، وتأكيداً لحبي لغتي العربية، وشعوراً بمسؤوليتي التي اخترتها بكامل إرادتي تجاه مسألة الحرية عربياً، أُعلن بأني عربي.
ولأني أنتمي إلى العرب، سواء كانوا أمة أو أقواماً، فإني رافض لواقع العرب، المذري، وناقد لكل أشكال تخلفهم، ورافض لعالمهم السياسي المتأخر، ومتأفف من ذهنيتهم، ومستاء من طائفية تنمو في أحشائهم الآن. ولهذا كله فهم همي الأول.
لست متعصباً للعرب ضد أية قومية أو شعب، ولا أنظر للعرب بوصفهم عرقاً متفوقاً، ولا يحول انتمائي هذا دون انتمائي إلى أرقى ما أنجزته البشرية من علم ومعرفة وأفكار، بل إن تأخر العرب عن امتلاك ذهنية الحرية في التفكير والسلوك والمعرفة هو الذي يجعلني ناقداً لا يهادن واقع العرب، بل إن من شيمة المثقف الذي يجعل من هموم العالم همومه أن يظل حاضر النقد من أجل التجاوز.
فنقد واقع العرب ليس محموداً فحسب وإنما مطلوب وضروري.
وإن ظاهرة ذم العرب سواء جاءت من أقليات قومية، أو من أحزاب طائفية أو من جماعات حاكمة ليس سوى تعصب مرذول وغباء عقلي وعاطفي. بل إن القدح والذم للعرب وتاريخهم، وإعلان الانتماء لأقوام بائدة يرجع تاريخها إلى خمسة آلاف عام قبل الميلاد، واندمجت سكانياً وشكلت ما يطلق عليهم اليوم العرب لهو تعبير عن الوهم الأسطوري ليس إلا.
ولا شك عندي في أن حالة كهذه هي حالة مرضية بامتياز. فهي تنتمي إلى مرض احتقار الذات لنفسها، بل هي أقرب إلى مرض اضطراب الشخصية الحدية. وهو نوع من الفصام، فالمثقف المسكين الذي يرفض الانتماء إلى هذا العالم القاسي المعيش، الذي هو بمعايير التقدم التاريخي العلمي الاجتماعي الثقافي متأخر وينتابه شعور بالعجز والاضطهاد، لا يجد مخرجاً من شعوره بالنقص واحتقار الذات إلا التنكر لانتمائه المعاصر، والبحث في أقوام قديمة أنتجت الأبجدية وبنت الأهرام والحدائق المعلقة، معتقداً بأن في ذلك علاجاً وشفاءً.
وليس هذا فحسب، فإنه تأكيداً لانتمائه الجديد- القديم يشلح العرب القدماء من ثياب الحضارة، فلا يعترف بحضارة تدمر والأنباط واليمن ومكة والمدينة، ويدرجهم في عداد الأعراب الأجلاف الذي لم يعرفوا الحضارة والرقي والمدنية.
وكما يعاني المرضى الإسلاميون العنفيون من المرض نفسه ويذهبون إلى الماضي الإسلامي العريق حلاً لفصامهم، كما يذهب أولئك إلى الماضي العريق قبل الميلاد، وكل طرف من هؤلاء المثقفين المساكين يعلن ملكية الماضي له وحده.
كما إن خطاب بعض الشوفينيين الأكراد ضد العرب الذي يلغي العيش المشترك قديماً وحديثاً لن ينجب إلى صراعات زائفة.
يقود هذا الوعي المأزق الذي لا خروج منه، إلى الهوية الزائفة فلا الفينيقي يمكنه أن يعود إلى الحياة، ولا الفرعون سيستيقظ غداً ليبني هرماً جديداً، ولا الفاتح العربي سيعيد مجد بني أمية ولا الكردي الذي ينسب نفسه للسومريين سيعيد أمجاد الحضارة البائدة.
أيها الهاربون من واقعكم المعيش إلى ماض مات: العرب في عالم جديد ومشكلات جديدة ومستقبل مرتبط بمستقبل العالم، العرب أيها الفصاميون يحتاجون إلى تفكير بالنهوض العلمي -المعرفي السياسي والأخلاقي وإلى عمل دؤوب من أجل الإنسان ومكانته في عالمه، وهذا لن يتم إلا بعقل تجديدي.
العرب يحتاجون إلى مثقف يكتشف عن الإمكانات التي ينطوي عليها عالمهم، وليس إلى الحديث عن المستحيلات الغافية في الماضي.
هب أن السوريين واللبنانيين أعلنوا بقرار يصدر عن أصحاب الحكم بأنهم فينيقيون، فهل سيخرجون من الاستبداد والاحتلال ويحققون السلم والأمن؟ وهب أن جميع المصريين استفتوا على مشروع بأن مصر هي فرعونية ولا علاقة لها بالعرب، فماذا يعني هذا لملايين الفقراء وللتنمية؟ وهل ستحل الجنسية الجديدة الفرعونية مشكلات الاقتصاد والسياسة هب أن المتعصبون القوميون من أكراد وسواهم غيروا كل اسماء المدن والقرى في الجزيرة والرقة ودير الزور هل ستتغير البنية السكانية للمنطقة.
يبدو أن أبطال المسخرة السعداء في أسِرَتِهم القديمة ليس باستطاعتهم المشي على الأرض الأرض التي تعلن دائماً أن الحياة هنا والآن وغداً.
الحل لمشكلات المنطقة لا يكون بهذا الوعي المتخلف بل في قيام الدول الديمقراطية العلمانية التي تحافظ على الحق والحرية والمساواة والإنصاف والتعبير عن ثقافة جميع القوميات والجماعات، والحفاظ على لغتها. وإن بعث الماضي البائد لإنتاج العصبية القومية والدينية ليس سوى الطريق الأمثل للدمار والموت.
المصدر: صفحة الدكتور أحمد برقاوي