يمتد العالم العربي على مساحة 13.6 مليون كيلو متر مربع، ويمتاز موقعه بأهمية استراتيجية، فهو يتصل بالمحيط الأطلسي غرباً والخليج العربي شرقاً والبحر الأبيض المتوسط شمالاً والبحيرات الوسطى في أفريقيا جنوباً، كما يوجد وسطه البحر الأحمر وقناة السويس. وفي هذه المساحة الشاسعة يعيش 400 مليون نسمة يمثلون نحو5 % من إجمالي سكان العالم، تصل نسبة الذين تقل أعمارهم عن 15 سنة إلى 38 %، وهو أعلى متوسط في العالم بأسره. ويوجد في أراضيه مخزون كبير من الموارد الطبيعية النادرة والغالية، بينها البترول والغاز واليورانيوم والنحاس ومعادن أخرى، كما توجد المياه، وتسطع عليه الشمس، التي يمكن أن تتحول إلى طاقة متجددة.
ولكنَّه يواجه تحدِّيات عديدة من أهمها: تواضع حجم التجارة العربية البينية، وتواضع حجم الاستثمارات المحلية، بل هجرة رؤوس الأموال والعقول والكفاءات العلمية إلى الخارج، وضعف البنية التحتية في كثير من البلدان العربية، وتفاقم معدَّلات الفقر والبطالة، وتدهور الأوضاع المعيشية للمواطن العربي عموماً، وعدم مواكبة مخرجات العملية التعليمية لاحتياجات التنمية.
وبعيداً عن نظرية المؤامرة التي يحلو للكثيرين في العالم العربي نسبة مآسينا وتخلُّفنا إليها، أي رمي المسؤولية على الخارج بالكامل ورفعها عن أنفسنا، كثيرة هي المؤشرات الاقتصادية والتنموية التي يمكن من خلال نظرة سريعة إلى أرقامها الحصول على فكرة وافية عن الواقع الاقتصادي العربي قياساً بباقي أمم العالم.
إنّ العالم العربي يبيع مواد أولية أهمها النفط، وهو لم يدخل بعد عصر الثورة الصناعة الثالثة، أما زراعته فهي متخلِّفة، في أغلب أقطاره، إلى حدٍّ جعله يستورد قسماً كبيراً من غذائه، مع أنّ كتلة سكانية كبيرة الحجم من مواطنيه تعيش في الأرياف ولديه مساحات كبيرة جداً من الأراضي الزراعية المهملة.
لقد أفرزت فترة الازدهار النفطي، منذ سبعينيات القرن الماضي، اختلالاً واضحاً في التركيب الهيكلي للاقتصاديات العربية، وفي هيكل الطلب الاجتماعي. وكانت حصيلة هذه التغيُّرات الهيكلية تحوُّل بعض الاقتصاديات العربية من ” اقتصاديات إنتاجية ” إلى ” اقتصاديات ريعية “، واستمرار بقاء القطاع النفطي قطاعاً علوياً، يكتفي بتحريك النشاط الاقتصادي من خلال الإنفاق بدلاً من التشابك العضوي معه.
وعليه، فقد تراكمت العديد من المؤشرات الخطيرة في تطور الاقتصاديات العربية من أهمها:
(1) – التدهور النسبي في القطاع الزراعي والارتفاع الكبير في نصيب الصناعات الاستخراجية وقطاع الخدمات.
(2) – تخلخل التوازن بين القطاعات والفئات الاجتماعية، وتوسُّع الفجوة بين الأرياف والمدن.
(3) – انخفاض موقع الصناعة التحويلية في هيكل الإنتاج القومي.
(4) – تركيز الاهتمام بالتنمية المادية وإغفال أهمية التنمية البشرية.
(5) – مهَّدَ النفط لمفهوم ” الدولة الريعية “، حيث تمكنت الحكومات من أن ” ترشو” قطاعات من المجتمع، بهدف توسيع قاعدة حكمها وسلطتها.
لقد صحت الأقطار العربية، منذ أواخر ثمانينات القرن الماضي، لتجد نفسها أمام عالم جديد، لم تهئ نفسها لمتطلباته وتحدياته، سواء بشكل جماعي أو انفرادي. فقد أصبح النظام الاقتصادي العالمي هو الأداة التي تستخدمها الدول الكبرى للهيمنة في المجالات السياسية والاقتصادية، بعد أن استطاعت الرأسمالية تطوير وسائل عملها.
وهكذا أصبح النظام الاقتصادي العربي نظاماً عاجزاً عن توفير شروط تراكمه ونموه داخلياً، فالموارد استُنزفت، والإمكانات تراجعت، والإرادة استُلبت. وتبعاً لتعدد منافذ الخلل أصبحت العملية التنموية تتمُّ في إطار تبعية موصوفة بدلاً من تقليل حدَّتها كما كان متوقَّعاً.
إنّ المنطقة العربية ” تشكل مستورداً صافياً للغذاء، بسبب ضعف إنتاجيتها الزراعية وغياب السياسات الزراعية وسوء استخدام الموارد الطبيعية، خصوصاً المائية، بما يوفِّر الأمن الغذائي للمنطقة العربية، وكذلك ضعف التنسيق بين الدول العربية في مجال التخصص في الزراعات “. وعليه فإنّ العالم العربي يستورد 50 % من الحبوب وثلثي احتياجاته من بقية السلع الغذائية، وبلغت قيمة ما يستورده 50 مليار دولار.
وفي هذا السياق، ليس من المتصور أن تظل دول عربية عاجزة (السودان مثلاً) عن زراعة ملايين الأفدنة الصالحة للزراعة لعدم قدرتها على تدبير استثمارات مالية، بينما تستورد دول عربية أخرى غذاءها من الخارج لتدعم اقتصاديات غير عربية، في حين أنّ في إمكانها أن تحوِّل دفة استثماراتها تجاه ذلك البلد العربي الذي تنقصه تلك الاستثمارات (تستثمر الصين في الأراضي الزراعية السودانية). ولا يمكن تصوُّر أن تظل بعض الدول العربية تعاني من بطالة تدفع بأبنائها إلى الهجرة غير الشرعية إلى الدول الأوروبية، بكل ما فيها من مخاطر وتأثيرات اقتصادية واجتماعية، في حين تفتح دول عربية أخرى أراضيها للعمالة غير العربية بأعداد مذهلة.
ومن المعلوم أنّ العالم العربي يحتوي من الموارد الطبيعية المتنوعة ما يتكفل بإشباع حاجات ضعف السكان العرب، لكنَّ المشكلة تكمن في كيفية توزيع هذه الثروات والفئات الاجتماعية التي تطالها ومدى توظيفها في خدمة تنمية اقتصادية واجتماعية تؤمِّن تحسيناً لأوضاع المواطن العربي، ولكنَّ المشكلة تكمن في جمود الاقتصاد العربي وعدم تحرُّكه لبلوغ الأهداف المنشودة.
إنّ الاقتصاديات العربية هي اقتصاديات مكشوفة، بمعنى أنها تعتمد على العالم الخارجي من خلال آليات التصدير والاستيراد. وإذا كانت بلدان، مثل ألمانيا واليابان والصين وكوريا الجنوبية، قد عززت النمو الاقتصادي عن طريق تصدير السلع والبضائع المصنَّعة، فإنّ البلدان العربية لا تزال تتعامل تجارياً عن طريق تصدير المواد الأولية ومن أهمها النفط الخام وغيرها من مواد منتجات غير مصنَّعة، أو أنها مصنَّعة بدرجة جزئية تتطلب مراحل أخرى من التصنيع لتكون موادَّ أو سلعاً نهائية تُعرض على المستهلكين النهائيين.
ومما لا شك فيه أنّ موارد النفط قد حسَّنت من الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في العديد من البلدان العربية، إن لم يكن كلها، بشكل مباشر أو غير مباشر، لكنَّ الإيرادات والفوائض لم تُستثمر بطرق مجدية تعزِّز تطوير القطاعات غير النفطية وتحسِّن من كفاءة البشر في مختلف البلدان العربية.
وفي الواقع، فإنّ من أهم المعوِّقات التي يجدر بنا معرفتها أنّ الحكومات العربية لا تتقيد في تنفيذ ما يُتخذ من قرارات واتفاقات في إطار العمل الاقتصادي العربي المشترك، إضافة إلى عدم تحييد العمل الاقتصادي العربي وإبعاده عن الخلافات السياسية، وجعله دوماً تحت رحمة الشك في النيات البينية العربية، وأسير الخلافات والشكوك، وكذلك عدم واقعية الكثير من القرارات والاتفاقات، واختيار مداخل للعمل الاقتصادي العربي المشترك لا تتوافر فيها المقوِّمات اللازمة للتنفيذ والنجاح.
كما يمكن أن نجد أسباباً أخرى في مجالين رئيسيين: أولهما، التدهور الواضح في مستوى النخب السياسية والفكرية التي تعتمدها أغلب السلطات العربية. فلقد أصبح من المألوف أن تنشغل هذه النخب بالمهم عن الأهم، وبالأهداف الفرعية عن الأهداف الرئيسية، وبالمصالح الذاتية والفردية عن المصالح العامة. لذلك لم يعد مستغرباً ألا تنال قضايا التعاون الاقتصادي بين الدول العربية إلا النزر اليسير من الاهتمام، حتى في مناسبات ومجالات العمل العربي الجماعي.
وثانيهما، الضغوط الخارجية التي لم تناهض مشاريع الوحدة أو الاتحاد العربيين فحسب، بل عارضت أيضاً مشاريع التعاون العربي. وقد انتقلت هذه الضغوط من عرقلة المشاريع والمبادرات الرامية إلى تطوير التعاون بين الدول العربية، إلى مرحلة جديدة تميَّزت بمحاولات غربية أحياناً لفرض إسرائيل كطرف رئيسي في أي مشروع من مشاريع التعاون الإقليمي.
إنّ نقطة البداية، بالنسبة للعالم العربي، هي البحث عن قواه الاستراتيجية الكثيرة جداً، خاصة البشرية والاقتصادية، إلا أنّ التسيير الاقتصادي مازال متأخراً في العديد من الأقطار العربية. فعلى الرغم من أنّ العالم دخل العقد الثالث من الألفية الثالثة، في ظل إحكام العولمة لسيطرتها على العالم، فإنّ الاقتصاد العربي ما زال يعاني الكثير من المصاعب، بسبب غياب استراتيجية عربية واضحة للتعامل المجدي مع الموارد الاقتصادية والبشرية العربية. ويبدو أنّ الأمر يتطلب صياغة استراتيجية عربية موحدة، تأخذ بعين الاعتبار الخصائص القطرية، تتجه بالعالم العربي نحو التعاون المجدي مع نفسه أولاً، ومع جواره الإقليمي ثانياً، ومع العالم ثالثاً.
ويتطلب العمل الاقتصادي العربي المشترك الانطلاق إلى آفاق أوسع وأعمق، تتخطى إقامة مناطق التجارة الحرَّة إلى بناء نظام اقتصادي عربي فعَّال، على أساس نسق أعمق من التجارة السلعية يشمل قطاعات أخرى للتعاون، مثل الخدمات والاستثمار والمصارف والتكنولوجيا والمعلومات والنقل والاتصالات والسياحة والتعمير، إلى جانب التكامل الصناعي والزراعي والبحث العلمي، فضلاً عن حق الانتقال للمواطن العربي في أرجاء وطنه الأكبر بسهولة وباحترام.
وإذا كان لكل دولة عربية ميِّزاتها الخاصة، فلابدَّ من التأكيد أنّ قيام أي تكتل اقتصادي عربي لا يعني التخلِّي عن مبدأ الميِّزات النسبية لكل بلد عربي على حدة في ترشيد استعمال موارده المتاحة على المديين القصير والبعيد، فعلى سبيل المثال إنّ البلد الذي يتمتع بموارد زراعية كبيرة وغنية من الطبيعي أن يستغل هذه الموارد بهدف تطوير القطاع الزراعي، وعلى أساس قاعدة تكنولوجية علمية ملائمة وحديثة في آن واحد، ومن المفترض أن يكون التكتل الاقتصادي العربي مبنياً على استغلال الميِّزات النسبية لكل دولة من الدول العربية مما يؤدي إلى تعظيم الفائدة المشتركة المتأتية عنه.
وفي كل الأحوال، من الضروري التركيز على مسار الشراكة العربية – العربية قبل غيره من المسارات الإقليمية والدولية، لاسيما وأنّ استكمال قيام منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى، على أسس تستند لمعايير وقواعد التجارة العالمية، يحتاج إلى تعزيز العلاقات العربية وتنمية التجارة البينية وتشجيع فرص الاستثمار، الأمر الذي من شأنه رفع قوة المساومة العربية تجاه التكتلات الأخرى، وأيضاً داخل منظمة التجارة العالمية. ذلك أنّ المصالح العربية العليا تتطلب التفاوض وإدارة العلاقات الاقتصادية الخارجية في إطار عربي جماعي، وليس على مستوى الأطراف العربية مجزأة في إطار خليجي أو مشرقي أو مغاربي، أو مجزأة قطرياً.
على أيِّ حال، بين هذا وذاك، يجب ألا ينسى العرب أنهم لن يحصدوا شيئاً إذا لم يعودوا إلى التفكير بذاتهم، ويبقى صحيحاً – على الدوام – أنّ مَن يخسر نفسه لا يفيده إن كسب العالم، بل لا يستطيع أن يكسب أحداً إذا فقد وزنه واحترامه ومكانته وذاته.