يدفعني إلى إعادة نشر هذه المحاضرة التي أعددتها منذ 17 عاماً، مع إجراء تعديلات جوهرية لربط الماضي المنظور بحاضرنا العربي البائس، الذي تهدده محاولات جهات عديدة لتفكيكه وإعادة تركيبه.
خلّفت الحقبة الاستعمارية وراءها عدة قنابل موقوتة قابلة للانفجار في أية لحظة، مزروعة حول وداخل حدود العالم العربي. فلم تألُ القوى الاستعمارية جهداً في زرع بذور فتن طائفية أو إثنية تكاد لا تخلو منها دولة عربية، بل أنّ الأطماع الخارجية لا تعدم وسيلة لخلق هذه الفتن خلقاً، وابتداعها إذا لم تكن قائمة على النحو الذي يحقق مصالحها في استمرار سيطرتها على المنطقة وعرقلة أية فرصة لتكوين تكتل مستقل لها، سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو الأمني.
غير أنّ المشاريع الخارجية ما كان لها أن تنجح لولا أنها وجدت عوامل داخلية تحقق لها هذه الأطماع، سواء كانت هذه العوامل سياسات خاطئة تكرس الأوضاع ما قبل الوطنية وتغذيها، أو صراعات داخلية تقتات على هذه الأوضاع وتستغلها.
إنّ مشكلة العرب الأولى عدم إنشائهم حيّزاً للسياسة خارج روابط القرابة والدين والمذهب، لذلك بدت أغلب الدول والمجتمعات العربية عصية على التوحد، ملغّمة بكل عوامل الانفجار الداخلي والتشرذم القبلي والطائفي والمذهبي والإثني والعشائري. وما انزلاق الصراع إلى مستويات قبل وطنية وقبل مدنية، على ما برهنت وتبرهن حالات لبنان والسودان والعراق والجزائر وليبيا وسورية وغيرها، سوى دلالة على جدية المخاوف، على الوحدة الوطنية في أغلب الدول العربية، مما يطرح في مقدمة القضايا والإشكاليات التي تواجه الفكر العربي في المرحلة الراهنة، مسألة الاندماج الوطني والمدني الهش في العالم العربي.
أصول التفكيك
ليس لانعدام الاستقرار المزمن في المنطقة العربية مصدر واحد، فمصادره متعددة ومختلفة، وأول ما ينبغي الإشارة إليه في تحليل هذه المصادر الموقع الجيو – سياسي المميز الذي تحتله المنطقة العربية. فمما لا شك فيه أنّ المنطقة قد شكلت ولا تزال تشكل مركز جذب وميدان تنافس دائم، وبالتالي ساحة صراع وتنازع دولي، تتجدد أسبابه وتتبدل ولكنها مستمرة بلا انقطاع.
وبينما ينظر البعض للطائفية والعشائرية، بوصفهما عاملين أساسيين في تكوين الهوية السياسية للمجتمعات العربية، ويعزو لهما مفاعيل استثنائية على تطور النظم السياسية والقيم الاجتماعية، يرى فيهما البعض الآخر ثمرة تلاعب القوى الأجنبية وتجسيداً لإراداتها في تقسيم البلدان العربية وتفكيكها إلى دويلات غير قابلة للحياة.
(1) – المؤثرات الخارجية
لا شك أنّ الجغرافيا المصطنعة التي حكمت اتجاه وشكل تطور العالم العربي المعاصر بعد الاستقلال هي المصدر الأهم لانعدام الاستقرار الذي عرفته المنطقة. ومهما كان الدافع لذلك، وهو مختلف بين دولة وأخرى، ولو ارتبط جميعه بالصراع على النفوذ الدولي وحماية المصالح الخاصة بالإمبراطوريات الكبيرة، عملت أطماع الدول الأوروبية ونزاعاتها الخاصة على التشجيع على تقسيمه إلى مجموعة كبيرة من الدول الصغيرة بشكل اعتباطي، يستجيب لحاجات ضمان النفوذ الغربي بعد زوال الاحتلال أكثر من استجابته لحاجات التميّز في شروط حياة السكان أو في هويتهم الوطنية أو ثقافاتهم أو مصالحهم.
بالنسبة للاستراتيجية الصهيونية في الشرق الأوسط يمكن الإشارة إلى عدة وثائق حديثة العهد نسبياً: ففي العام 1982 نشرت منظمة في الولايات المتحدة الأمريكية اسمهـــا ” جامعة الاتحاد العربي – الأميركي ” وثيقة تحت عنوان ” الخطة الصهيونية للشرق الأوسط في الثمانينات والتسعينات ” تعتبر من أهم الوثائق وضوحاً، من حيث التفاصيل وغزارة المعلومات، وقد أعلنت الخطة هدفين رئيسيين: أولهما، إحياء دولة إسرائيل لتصبح القوة الوحيدة المهيمنة والمسيطرة في الشرق الأوسط. وثانيهما، العمل على تقسيم وإضعاف الدول العربية. وقد علق إسرائيل شاحاك على الوثيقة قائلاً ” إنّ الخطة تعتمد على فكرة تقسيم الدول العربية إلى دويلات صغيرة لا أهمية لها، والتقليل من ثقل الكتل الشرق أوسطية على مستوى التسليح والجيش.. “.
وفي 20 مايو/أيار 1992 عقد مركز بار إيلان للأبحاث الاستراتيجية، بالتعاون مع مركز الأبحاث السياسية بوزارة الخارجية الإسرائيلية، ندوة حول ” الموقف الإسرائيلي من الجماعات الإثنية والطائفية في منطقة الشرق الأوسط “. وقد ورد في مقدمة الكتاب الذي أصدره المركز عن الندوة ” تبنت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة سياسة تقوم على مبدأ دعم الأقليات العرقية والطائفية في الشرق الأوسط، وتأييد طموحاتها ورغباتها، سواء فيما يتعلق بالمساواة في الحقوق وحق تقرير المصير أو إقامة كيانات مستقلة، وذلك انطلاقاً من الحلف الطبيعي القائم بين إسرائيل وهذه الأقليات “.
وبالنسبة لسورية كتب الباحث الدكتور ايتيمار رابينوفيتش في ورقته، التي قدمت إلى الندوة تحت عنوان ” سورية هل ستبقى دولة موحدة في ظل انتعاش الاتجاهات الانفصالية في المنطقة والعالم؟ “، ومما ورد في خاتمتها: ” .. في ظل التحولات العالمية الجديدة، وما شهدته ولا تزال المنطقة وخريطة العالم من صراعات مريرة ودموية بين الجماعات العرقية والدينية والطائفية، في ظل ذلك كله لا يجب إغفال الدور الذي يمكن أن تلعبه هذه التطورات والتداعيات الجديدة في تهيئة المناخ وتعبئة الأقليات، وشحذها بعناصر التفاؤل والجرأة اللازمة لأن تسعى إلى الاستقلال والانفصال “.
ولعل من أهم الدراسات التي ظهرت بعد جريمة 11 سبتمبر/أيلول في نيويورك، والتي نرى أنها الرافد الأساسي لكل المبادرات الأمريكية، التقرير الذي وضعه المحلل في مؤسسة ” راند كوربوريشن ” للدراسات لوران مورافيتش، وقدمته المؤسسة في 10 يوليو/تموز 2002 إلى هيئة السياسة الدفاعية في وزارة الدفاع الأميركية ” البنتاغون “، أحد أهم المصادر للتعرف على ما تخطط له الولايات المتحدة الأميركية تجاه المنطقة العربية. فما ينتهي إليه التقرير، في مجــال ” الاستراتيجية الكبرى للشرق الأوسط “، يقول بالحرف ما يأتي: العراق هو المحور التكتيكي، السعودية هي المحور الاستراتيجي، مصر هي الجائزة.
وهكذا ذهبت مؤسسات الأبحاث الأميركية، العاملة في خدمة المحافظين الجدد، إلى إعداد المعايير والمصطلحات السياسية التي يجب أن تتغير حول المنطقة بما يتلاءم مع الرؤية الأميركية. إذ اقترحت عبارة ” الشرق الأوسط ” بدل العالم العربي. فقد نصح روبرت ساتلوف، المدير التنفيذي في ” مؤسسة واشنطن لسياسات الشرق الأدنى “، في رسالة موجهة إلى كارن هيوز مساعدة وزيرة الخارجية الأميركية لشؤون السياسات العامة ” إقصاء تعابير العالم العربي والعالم الإسلامي من القاموس الديبلوماسي الأميركي “، بينما طالبها بصراحة ” دافعوا قدر الإمكان عن مقاربة خاصة بكل بلد على حدة “.
وتجدر الإشارة إلى أنّ مشروع إعادة تشكيل المنطقة يتلازم عضوياً مع خطة ” الفوضى الخلاقة ” التي أشرف على وضعها نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني، وباتت من أساسيات خطب الرئيس بوش الابن وتصريحاته. واليوم يبدو أنّ ما تمارسه السياسة الأميركية حاليا في الشرق الأوسط الموسع، بالرغم من تبدل الإدارات، هو عملية هدم متبوعة أو مقترنة بعملية بناء شرق أوسط موالٍ، تفشل عمليات استقطابه إلى القوى الدولية الأخرى.
وهكذا، دخلنا مرحلة دقيقة جداً، مرحلة إعادة ترتيب الأوراق دولياً، وربما إعادة ترتيب الأنظمة والدول والحدود. فقد أتت مشاريع ” الشرق الأوسط ” منذ خمسينيات القرن الماضي، الذي أصبح ” جديداً ” بعد مؤتمر مدريد في العام 1991، و” موسّعاً ” بعد غزو العراق واحتلاله، تحاول استكمال ما دشنته اتفاقيات ” سايكس – بيكو” في أوائل القرن العشرين، ولكن من خلال الانتقال به من حدود الدولة الوطنية إلى حدود عصبية القبيلة والنسب والمذهب!
(2) – المؤثرات الداخلية
لقد كان التشكيل التاريخي لدولنا العربية عند بدايات القرن العشرين مهلهلاً وضعيفاً إثر تفكك الإمبراطورية العثمانية وزوالها، إذ برزت أصناف عدة من الدول العربية: دول منقسمة على ذاتها، ودول مركبة من الأقاليم، ودول ذات تاريخ قديم، ودول لا تاريخ لها. وعاشت هذه الدول تحمل جملة هائلة من التناقضات الاجتماعية والسياسية والثقافية من دون أن يلتفت إليها أبناؤها ليعترفوا أولاً بحجم معضلاتها، فضيعوا فرصاً ثمينة لإيجاد حلول عملية بعدم الاعتراف بها.
لقد فشلت أغلبية الحكومات العربية في بناء دولة لكل مواطنيها. وبالتالي، فإنها مسؤولة مسؤولية مباشرة عن تشويه صورة الدولة المركزية إلى حد جعل شرائح واسعة من مجتمعاتها تتطلع إلى صيغ حكم بديلة، قاسمها المشترك تقليص دور السلطة المركزية أو حتى الانفضاض من حولها.
ومن جهة أخرى، لم يواجه الفكر القومي العربي مسألة الأقليات الدينية والمذهبية والإثنية ومخاوفها، من أجل فهمها واستيعابها، وبالتالي إبداع قيم جاذبة يمكن أن تتجاوز معها أقلويتها والانشداد إلى الأفق الجامع، فظلت دمّلاً ينزف كلما تعرض العرب لأزمة جدية. ولم يواجه مسألة العلاقة بين القومية العربية والديموقراطية، بل طرح قومية مفرغة من الديموقراطية لم تأخذ في الحسبان حريات الأفراد وحقوقهم الإنسانية الأساسية. ونظر إلى الشعوب بوصفها ” جماهير “، ” رعايا ” مطلوب منها أن تضحي دائماً وتتنازل عن حقوقها من أجل ” طوبى قومي “. ولم يواجه مسألة الفصل بين المجالين السياسي والديني، فلم يتصدَ لتعيين حدود الدين في الحياة السياسية والاجتماعية من منظور عقلاني، فكان أن اكتسح الديني السياسي، والأصالة الحداثة، والماضوية العصرنة.
في ظل هذا الالتباس والقصور والتردد والتراجع كان من الطبيعي أن تنتكس المجتمعات العربية وتتذرر إلى تكويناتها ما قبل الوطنية وما قبل المدنية، وأن يرتكس الفكر العربي إلى الغيبي والسلفي والتقليدي، وأن تثار من جديد المخاوف على الوحدة الوطنية وتطرح الفيديرالية حلاً لأزمة الاندماج الوطني العاثر.
مظاهر التفكيك
إنّ ما حصل بعد الغزو الأميركي للعراق ليس مجرد سقوط لنظام ديكتاتوري، بل هو إخلال بتركيبة المنطقة تمهيداً لإعادة النظر فيها، وهو بمستوى أهمية ما جرى في مرحلة ما بعد سقوط الدولة العثمانية. ولا يحتاج المرء إلى أكثر من نظرة سريعة ليكتشف أنّ العراق اليوم، ليس العراق الاتحادي الذي حلم به أهله دائماً، بل هو فيديرالية طوائف ومذاهب وأعراق وعشائر، واستئثار جزء من شعب الدولة الاتحادية بثروات البلاد على حساب أجزائه الأخرى، والأهم من ذلك كله من دون قبول فئات واسعة من الشعب العراقي لمثل هذا النوع من نظام الحكم.
وبما أنّ الدستور يرغم الجميع على الدخول الإلزامي في شبكته المذهبية والقومية الضيقة، من قانون الأحوال الشخصية إلى معانقة الغرائز النابذة مروراً بالحصول على وظيفة أو منصب سياسي، فإنّ المأزق الدستوري سوف يظل كالسيف مسلطاً على الرقاب، وهذا ما نشهده حالياً إذ ثمة عطالة لتجديد مؤسسات الدولة منذ الانتخابات الأخيرة قبل ثمانية أشهر.
وإذا كانت الفيديرالية على أساس جغرافي، تضفي على المسار الديمقراطي مزيداً من النضج والتكامل، فإنّ الدعوة لفيديرالية على أساس مذهبي هي على النقيض عامل إقلاق ومحاولة تمييز غير صحي، تفضي إلى إرباكات كثيرة في عملية البناء الديمقراطي ومفهوم المواطنة.
إنّ ما ينقسم حوله العراقيون ليس الموقع والخيار السياسي فحسب، بل أيضاً توجه العراق المستقبلي، انتماؤه ودوره وموقعه الإقليمي، خاصة بعد دور ميليشيات الحشد الشعبي، ذات الميول الإيرانية، في مصادرة مستقبله.
آفاق التفكيك
يبدو أنّ البدائل والخيارات المطروحة على العالم العربي، موضوعياً، تتمثل في ثلاثة بدائل مستقبلية: أولها، استمرار حالة التشتت والفوضى والبعثرة العربية، بما ينطوي عليه من هيمنة إسرائيلية وإيرانية على المشرق العربي. وثانيهما، إعادة تنظيم المنطقة في شكل شراكات إقليمية ضمن إطار الشرق الأوسط الموسع. وثالثها، العودة إلى النظام الإقليمي العربي بعد إنعاشه وتطويره وتغيير سلوكيات أطرافه وتحديثه.
ومن المتوقع أن يُطرح النظام الشرق أوسطي وفق السيناريو المرجح التالي: أن يتشكل على مسرح المنطقة نظام شرق أوسطي تكون فيه إسرائيل هي مركز التفاعل وجوهره، وتقوم فيه بدور محوري يعزز أمنها ويدعم اقتصادها بحيث يتم تعظيم مصلحتها بالحصول على أكبر قدر ممكن من الثمار والمكاسب بأقل قدر ممكن من الأعباء والتضحيات. في حين تقوم الولايات المتحدة الأمريكية بتوجيهه وإدارته وفق مصالحها الاستراتيجية، وليس مستبعداً أن يتم ذلك على قاعدة إنشاء ” منظمة للأمن والتعاون في الشرق الأوسط الموسع “، كما جرى الحديث عنها خلال زيارة الرئيس الأميركي بايدن إلى المنطقة.
إنّ العراق في تجربته التاريخية الصعبة التي يجتازها اليوم، وسواء نجح فيها أم فشل، سوف يكون نموذجاً حقيقياً في تطبيقاته على بلدان عربية أخرى. ففي ظل الأوضاع السياسية المهترئة التي تعاني منها العديد من الدول العربية ومجتمعاتها وحالات النفور السياسية التي تعبر تعبيراً حقيقيا عن انقسامات داخلية مريعة، ليس من المستبعد أن تتأثر به بلدان وبيئات أخرى، حيث أنّ سورية، تحت نفوذ قوى الأمر الواقع حالياً، مرشحة لأن تكون نموذجاً أخر لنظام قائم على المحاصصات الطائفية.
وفي المقابل، بعد أن تغير العالم من حول النخبة الثقافية والسياسية في المجالين العربي والإقليمي، وتغيرت الظروف الداخلية والخارجية، وصارت بلدان المشرق في دائرة تحديات جديدة وشديدة التعقيد، فإنها شرعت في إعادة النظر في كثير من مسلماتها وأنماط تفكيرها وطرائق عملها وعلاقاتها، وإطلاق أفكار وآليات جديدة باتجاه مشروع مستقبلي لبلدانها وللمنطقة، يتجاوز حمى الانقسامات والصراعات، وقد تكون الأنظمة اللامركزية الإدارية على أساس جغرافي، بما فيها النظام الفيديرالي، أحد خيارات المشروع. لكن الأهم من ذلك كله، أن لا تذهب هذه النخب إلى فرض أية خيارات على شعوبها بالقوة، وخاصة بقوة المحتل الأجنبي.
وفي هذا السياق، ثمة احتمالان ينضجان في واقعنا الراهن: احتمال أن نذهب إلى مصالحة تاريخية بين أطراف السياسة والمجتمع، تتيح انتقالاً تدريجياً وآمناً نحو وضع بديل، نقبله جميعاً لأنه من اختيارنا، واحتمال نقيض يعني تحققه ذهابنا من أزمتنا الراهنة إلى حال مفتوح على الاقتتال والفوضى. هذان الاحتمالان هما بديلان تاريخيان للواقع العربي الحالي، يمثل أولهما فرصة وثانيهما كارثة. ولكي يرجح احتمال الفرصة فلندرك أنّ الدولة المركزية واحتكار القرار السياسي والإداري لم يعودا ممكنين في ظل عالم يتجه نحو اللامركزية وتوسيع دائرة المشاركة واحترام الخصوصيات.
وفي السياق نفسه، يفترض أن تمثل المكوّنات القومية والطائفية عاملاً ذا بعد إيجابي في الحياة العربية، إذ يمكن أن تضيف تنوعاً إلى مجتمعاتنا يجعلها أكثر ثراء ثقافياً وتسامحاً وانفتاحاً. في كل الأحوال فإنّ التعايش والاندماج يقتضي تسليماً من جميع مكوّنات مجتمعاتنا بضرورة إشاعة روح التسامح وقيم العيش المشترك، وهذا يوجب على المكوّنات الأقلوية ألا تتقدم بمطالب لا تستطيع الأكثرية قبولها.
كما أنّ للحكومات دوراً أكثر أهمية، إذ إنّ عليها أن تتيح تكافؤ الفرص الإدارية والسياسية والثقافية، فلا يعقل أن تمنع كفاءة من خدمة وطنها من موقع تخصصها وتميّزها بسبب انتمائها العقائدي أو الاجتماعي أو السياسي أو القومي أو الطائفي، كما يتوجب على الحكومات صيانة الحقوق الدينية والسياسية والثقافية عبر مؤسسات وقوانين دستورية تؤسس لسياق وطني، يصون حقوق الجميع وتطوير النظام السياسي وإرساء متطلبات الديمقراطية فيه.
ومن جهة أخرى، على الصعيد الاستراتيجي، تظل المنطقة العربية محتفظة بثقلها الخاص، في منظور المصالح الدولية. مما يجعلها منطقة غير مستقرة، ومعرضة للاهتزاز والتوتر، يحمّل حكوماتها مسؤولية بناء موقع استراتيجي، وفق منهج عقلاني، غير تصادمي، يستند إلى أصول الحوار بين دول الشمال والجنوب، وإلى توفير الإمكانيات الذاتية، بما يحمينا من محاولات الاختراق الأجنبية، وبناء سياسة واضحة مع دول الجوار.
وقد يكون من المناسب أن يعترف العرب، بحكامهم ونخبهم الفكرية والسياسية، أنّ محصلة مشروعهم القومي التحرري، بالرغم من محطات مضيئة فيه، هي إحباط آمال الشعوب العربية في التحرر والتقدم والوحدة. وما ذلك إلا لأنّ البنية الحضارية العربية، التي واجه بها العرب تحديات مرحلة ما بعد استقلال أقطارهم، كانت بنية مأزومة.
(*) – في الأصل محاضرة قُدمت في فضاء ” التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريـات ” التونسي المعارض مساء 21/10/2005.