المفهوماتُ مادةٌ أوليةٌ في صناعة السياسة وبناء الحوارات والاتفاقات والفعل بالكلمات. والمفهوماتُ المُنهكة مفهوماتٌ تعجز عن أداء دورها بوصفها أدوات تواصلٍ في الحقل السياسي، وفي الحقل الاجتماعي الذي يحتضن ولادة سياسيٍّ من نوعٍ ما. من ثم تصبح المفهوماتُ المُنهكةُ مُقدَّماتِ سياسةٍ مشوَّهةٍ أو معيوبة، وأداءٍ ركيكٍ يؤدّيه “غير السياسي” على مسرح العمومي. قد يعني ذلك أن ثمّة حاجة إلى منح المفهومات نوعاً من الاسترخاء الدلالي، أو تفريغها من الشحنات الأيديولوجية التي تُنهِكُها وتجعلها غيرَ قادرةٍ على أداء وظيفتها بوصفها أدوات تواصلٍ مشتركة. صار في سورية مفهوماتٌ منهكةٌ وصولاً إلى إنتاج الوهم؛ فـ”السياسة السورية” التي تستخدم هذه المفهومات المُنهكة صارت عاجزةً عن إنتاج إي نوعٍ من الحقيقة، وصارت تنتج الأوهام، وتبني على إشاعات. مثلًا، إذا فكَّرنا بهذه الطريقة نفسها في المفهومات الواردة في التعبيرات الآتية: “النظام السوري”، “المعارضة السورية”، “المقاومة والممانعة”، “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة”، “مجلس سوريا الديمقراطية”، إلى ما هنالك، سنجد أنها كلها إشاعات، إنها وهمٌ صار يؤدي دورَ الحقيقة. مثلها ثنائيات كاذبة لا وجود لها إلا في أوهامنا (شرق الفرات، غرب الفرات)، (معارضة، وموالاة)، (إسلامي، علماني)، إلى ما هنالك: إنها سلطة الوهم. والوهم الذي يلعب دور الحقيقة يقتل الواقع، ولا يترك إلا واقعةً واحدةً هي واقعة الموت: صار الموت يوقِّع كل شيءٍ، ومنها أفكار السوريين الإبداعية التي صارت مثل موؤودةٍ لا تُسأل بأي ذنبٍ قُتلت. نحاول في الآتي بقدر ما تسمح المساحة في مقالٍ صحافي استعراض أمثلة قليلة لمفهومات سورية مُنهكة تحتاج إلى استرخاءٍ دلالي، وإلى الصيانة بعد ابتذالها وتسطيحها، والصيانة عكس الابتذال، وصون المفهومات ليس ترفاً، بل قد يكون الشرط اللازم لصون الحيوات والإنسان والأوطان.
أولاً، مفهوم “النظام السوري”: لا يوجد في سورية نظام سياسي الآن، بل طُغمة قاتلة، وعصابة مخدّرات، ومجموعة من مندوبي الحرس الثوري والولي الفقيه، وحزب الله، وروسيا، ومنتفعاتهم. ومن ثم لم يعد مفيداً، ولا بليغاً، وصفه بالاستبدادي أو الشمولي، فقد صار هذا مديحاً لا يستحقّه، وخدمةً له، وتوصيفاً أكبر من قيمته بوصفه عصابة تهريب مخدّرات مدعومةً بمليشيات طائفية.
ثانياً، “المعارضة”: تكون المعارضة لنظامٍ سياسي يحكم الدولة، وليس لعصابات ومهرّبين اختطفوا مؤسّسات الدولة ومقدّراتها وحوّلوها في خدمة أهدافهم الإجرامية. ومن ثم، لم يعد مصطلح المعارضة يعمل، وصار هو الآخر إشاعةً لا نفع بها. وصار بناء المشروع الوطني على أنقاض هذا المفهوم المُنهك ضرورةً ملحّة.
ثالثاً، الشعب: يقرأ المرء في البيانات والخطابات السياسية عباراتٍ غريبةً عجيبةً تلعب دور الحقائق والمسلّمات، مثل “الشعب الكردي”، “الشعب الدرزي”، “الشعوب السورية”، “مكوّنات الشعب السوري” (في إشارة إلى طوائفه أو إثنياته). هذه كلها إشاعاتٌ؛ فالشعب يكون بدلالة دولة، وفي سورية شعبٌ واحدٌ اسمُه الشعب السوري، ولا يتكوّن على المستوى السياسي من طوائف، وأعراق، وإثنيات، صارت معروفة باسم “مكوّنات”، بل يتكوَّن من أفرادٍ سوريين فحسب، كل واحدٍ فيهم يسعى ليكون سورياً من خلال سعيه لأن يكون مواطناً بموجب تعاقد اجتماعي يبني الدولة؛ فالشعب السوري لا يتكوّن من مجموعٍ حسابي لطوائفه، وجماعاته، بل من أفرادٍ أحرار يتعاقدون بموجب إراداتهم الحرّة، وكل انتماء آخر يختارونه يتعزّز بهذه الحرية فحسب. يعني ذلك أن العبارات الآتية مثلاً ليست إلا أوهام تلعب دور الحقيقة: “حوار بين العرب والأكراد”، و”بين الدروز والعلوية والسُّنة”، “مكوّنات الشعب السوري كافّة”! إلى ما هنالك.
رابعاً، الحوار: لا يكون الحوار في السياسة الوطنية على قاعدة فلان يتحاور مع فلان، أو جماعة مع جماعة، بل يكون استناداً إلى موضوعات حوار في فضاء عمومي يتشارك فيه الجميع. وعليه، تصير العنوانات التي تستخدم في الحوارات، أو مشاريع الحوارات السورية، مثل حوار “عربي كردي”، عنوانات لا سياسية تلعب دور السياسي. الحوارات الوطنية يكون أطرافها أفراد، ومنها مثلاً طبيعة الدولة، مسألة التعددية الثقافية وحقّ الثقافات المختلفة في التعبير عن نفسها، وحقوق الإنسان السوري، والدين وحدوده في السياسة، إلى ما هنالك، وصولاً إلى الحوار الذي ينتج منه التعاقد والدستور.
خامساً، الإدارة الذاتية: وهمٌ كبير لأن الذات في السياسية الوطنية هي الشعب، ومادة الديمقراطية الأولية أن الشعب يحكم ذاته، وهو كله يقرر صورة اللامركزية بوصفها صيغة متقدمة لممارسة الديمقراطية. هذا يعني أن أي ادعاء اليوم لذاتٍ غير الذات السورية (قبل الإدارة) خروجٌ عن السياق الديمقراطي، وعليه فـ “مجلس سوريا الديمقراطية” مثلاً، ليس إلا إشاعة ووهماً يلعب دور الحقيقة، من ثم يتيح للموت الفرصة للتوقيع على حيواتنا.
سادساً، الائتلاف السياسي: إذا أردنا الحرية، والكرامة، والشعب السوري واحد، فكيف يكون فهم الائتلاف مبنيّاً على المحاصصة الطائفية أو العشائرية أو الأيديولوجية؟ لا يحتاج المرء، في الحالة السورية، للتذكير بغياب تنظيماتٍ حزبية حديثة لها برامج تنموية وبرامج سياسات محلية مثل حالات الديمقراطيات المستقرّة، ولكن هذا لا يعني أن يصير الائتلاف الوطني ائتلاف طوائف وأيديولوجياتٍ وإثنيات، بل الأكثر ملاءمة لمقتضى الحال أن يكون ائتلاف موضوعاتٍ سياسية، وتمثيلاتٍ مدينية مثل النقابات والاتحادات المهنية، وشبكات ثقة عابرة للأيديولوجيات مثل التنسيقيات، وأن يكون التمثيل على أساس تمثيل الموضوعات، وحوارات عمومية ترسم أفقاً للاندماج الوطني.
سابعاً، الحلّ السياسي: لا توجد عصا سحرية لحلٍّ يأتي بمعجزاتٍ، لكن الحلّ يكون تراكميّاً، يحل العُقد واحدةً تلو الأخرى، ولا يبدأ من دون مشروع وطني جامع ليس الخارج من مداخله؛ فالدول وما يُسمّى “المجتمع الدولي” ليس مدخلاً للحلّ السياسي، بل مدخله التجسير بين السوريين وإيجاد مشروعٍ وطني يلائمهم.
يمكن الاستمرار كثيراً في سرد مفهوماتٍ تحوّلت إلى إشاعات، ويبقى السؤال: كيف تعمل السياسة السورية في ضوء الوهم، ومع زحمة الإشاعات؟ نقترح أن تبدأ من تغيير موضوعاتها، ومنهجياتها، والجرأة على إبداع الجديد وإنتاج الحقائق وإنتاج الحياة سياسياً والتخلّي عن سياسات الموت. ويبدأ هذا الإنتاج من مُساءلة المسلّمات وما يبدو بديهياً، ومن الثقة بقدرة السوريين العاديين على التغيير وعلى تأميم السياسة السورية، وتجاوز الإشاعات الراسخة التي تلعب دور السياسة، ومنها “النظام” و”المعارضة” و”الإدارة الذاتية” و”الإسلام السياسي” والطائفية والعشائرية والأيديولوجيات كلها. والخطوة الأولى، الأكثر أهميةً وصعوبةً، للمبادرة في مشروع وطني سوري، هي تجديد المفهومات منتهية الصلاحية كلها، ونحت مفهوماتٍ تدعم التحرّر، ومن ثم تغيير الأدوات والمنهجيات والموضوعات، وصولًا إلى إنتاج الحقيقة والواقع والحياة بصورة متعيِّنة وملموسة.
المصدر: العربي الجديد