محكمة لاهاي: بين موجبات القانون الدولي والاستثناء الاسرائيلي

أيمن أبو هاشم

عشية الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، وقف اندرش فيرم السفير السويدي السابق لدى الأمم المتحدة، وقال في كلمةٍ شهيرةٍ له متسائلاً: إلى متى سنبقى محكومين بقانونين دوليين واحد لنا جميعاً وواحد لإسرائيل!؟. تلك الصرخة الشجاعة في صورة تساؤل استنكاري غاضب عن معنى استثناء “إسرائيل” من شرعة القانون الدولي، لم تلقى آذاناً صاغية من القوى الغربية النافذة، التي لم تدّخر جهداً في التخطيط والمشاركة الفعلية، في زرع الكيان الاستيطاني والعنصري والإبادي في قلب العالم العربي، ودعمه وتغذيته طيلة العقود التالية على نشوئه، بكل أسباب القوة والتفوق والتوسع على حساب قضم أراضي الفلسطينيين، وتصفية وجودهم المادي والمعنوي. بعد كل هذا الوقت الطويل من صرخة اندرش فيرم، التي يبدو أن مواقف أخلافه في الحكومة السويدية الحالية التي انحازت تماماً للعدوان الصهيوني على غزة، على غرار أكثرية الحكومات الغربية، كانت ستُخيب آماله لو بقيّ حياً إلى يومنا هذا، ورأى سياساتهم النكراء في منع وصول يد المحاسبة والعدالة إلى “الاستثناء الإسرائيلي” الفالت من عقال الضمير والقانون. بيدَ أن ملايين الأحرار في العالم الذين انضموا إلى تلك الصرخة، وبصوتٍ أجهر من أي وقتٍ مضى، على خلفية المقتلة الدموية الرهيبة التي يرتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي بحق المدنيين في غزة، يجدون في قيام جنوب أفريقيا بتولي مهمة تأطير القانون الدولي لوقف الحرب وتجريم الاحتلال، بعد أن فشلت السياسة في لجم التوحش الإسرائيلي على الأقل، مهمةً كفاحيةً كبرى، بهدف هزيمة الاحتلال على الجبهة القانونية، وبقيادة أكثر دولة في العالم اختبرت أغلبيتها السوداء، التجربة المريرة لنظام الفصل العنصري الذي دام 46 عاماً. على هذا النحو اجتمعت في جنوب أفريقيا الإرادة السياسية، والخبرة القانونية، وإيمان شعبها وقادتها بعدالة القضية الفلسطينية، وأصبحت عبارة زعيمها الراحل نيلسون منديلاً الذي قال: ” لن تكتمل حرية جنوب أفريقيا إلا بحرية الشعب الفلسطيني” بمثابة الرباط الجدلي التحرري الذي يجمع من عانوا من أنظمة الآبارتهايد، ومن قاتلوا من أجل نيل حريتهم في بوتقةٍ واحدة.

 لم يكن من قبيل الاستفاضة، أن يتناول ممثل جنوب إفريقيا وزير العدل رونالد لامولا في بداية مرافعته أمام محكمة العدل الدولية، تاريخ الصراع الفلسطيني / الإسرائيلي، لقطع الطريق على مخاتلات وإسقاطات الرواية الصهيونية، التي قامت على توقيف ساعة الصراع، على ما جرى في 7 أكتوبر وما تلاه، بغرض طمس التاريخ الطويل لجرائم الاحتلال في مصادرة أراضي الفلسطينيين وتهجيرهم من بيوتهم ووطنهم، وهي متن الرواية الفلسطينية، التي تأبى سقوط مظالمها بالتقادم، أو بحبال الأباطيل الصهيونية. أما بخصوص الطلبات القانونية التي قدّمها فريق جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية، فأهمها يعود إلى وجود خطر معقول لحدوث إبادة جماعية، وفحوى الطلب المتمثل في “أن تصدر المحكمة بشكلٍ عاجل أوامر مؤقتة ملزمة قانونًا لإسرائيل بتعليق عملياتها العسكرية على الفور في غزة وضدها”. استند الطلب الاحترازي، المتصل موضوعاً بأساس الدعوى، وهو تجريم ارتكاب الاحتلال لما يرقى إلى جريمة إبادة جماعية في غزة، على لائحة اتهام مؤلفة من (84) صفحة، شرحت السياق المنهجي المُستند إلى حشد هائل من الأدلة الصادرة عن جهات دولية موثوقة، تبرهن على وجود نية واضحة لدى القيادات الإسرائيلية السياسية والعسكرية، للقيام بعمليات تطهير عرقي وإبادة جماعية للفلسطينيين، وبسط الأفعال والانتهاكات التي استهدفت الوجود المادي والمعنوي لسكان غزة بوصفهم جماعة قومية. وقد وصفت أستاذة القانون في جامعة جنوب أستراليا جولييت ماكنتاير ملف جنوب أفريقيا: بأنه ملفّ “شامل للغاية” وقد تمّت صياغته “بعناية مطلقة”.

 قيل الكثير في الأسلوب الصلف والوقح الذي حاولت من خلاله المؤسسات الصهيونية، تشويه صورة جنوب أفريقيا واتهامها السخيف بدعم منظمة إرهابية. في حين ذهب الفريق الإسرائيلي إلى تسخير الخبراء القانونيين لديه، للانتقال من الدفاع عن التعويذة الإسرائيلية المعروفة في تبرير جرائم الجيش بدعوى الدفاع عن النفس، إلى الهجوم على كل من ينقض هذه التعويذة بالوقائع الصارخة والأدلة الدامغة. وشيطنته بالتهمة الجاهزة كلما تعرّت الأكاذيب الإسرائيلية، وهي معاداة السامية. في خضم هذه المنازلة القانونية التي لم تشهدها محكمة دولية من قبل، بما فيها محاكم نورنبرغ وطوكيو بعد الحرب العالمية الثانية مباشرةً، ولأسباب تاريخية وراهنة اجتمعت مع بعضها البعض، وتداخلت فيها السياسة مع القانون على نحوٍ أثار ما بينهما من مفارقات عجيبة في زمن المعايير المزدوجة والمُختلّة. كشفت بدورها المرافعات القانونية في محكمة لاهاي؛ تسجيل جنوب أفريقيا تقدماً كاسحاً في تعليل وتفنيد موجبات قضيته القائمة على وقائع وحقائق وأسانيد لا يعتريها الشك، في مقابل ضعف الحجج القانونية الإسرائيلية، وفشلها في إنكار جريمة الإبادة الجماعية الموثّقة بالصوت والصورة على مرأى ومسمع العالم أجمع. أبعد من أقواس المحكمة وخارج أبوابها، كان يتابع ويتساءل أهل غزة ومعهم كل أحرار العالم: ما الذي يمكن أن تفعله هذه المحكمة، لإيقاف فصول الإبادة قبل اكتمالها بحق من تبقى من المدنيين الأحياء؟ وهل يمكن أن تنجح بما فشلت فيه السياسة، بعد أن خذلت الأخيرة ضحايا العدوان الصهيوني الأشر؟ وأسئلة أخرى تتوقف إجاباتها على قرار المحكمة، فيما إذا كان حسب مايكل بيكر الذي عمل كاتباً قانونياً سابقاً للمحكمة، سيطالب قرار المحكمة إسرائيل بوقف الحرب فورياً، أو مطالبتها ” تقييد ” حملتها العسكرية. وإلى حين فصل المحكمة النهائي بأساس الدعوى، وهذا يحتاج ربما إلى وقتٍ طويل، بوسعنا استشراف منحى الصراع المحتدم عالمياً، وقد فتحت حرب الإبادة على غزة أبوابه على مصاريعها، في ظل سطوة مخاطر وتهديدات وجودية، لا تقتصر على مصير غزة أو فلسطين فحسب، وإنما تطال مصائر الشعوب العربية، وشعوب العالم قاطبةً، والنظام الدولي برمته وجدوى مؤسساته القائمة. ما بين تحول الاستثناء الإسرائيلي الغاشم، إلى قاعدة في السلوك السياسي الدولي، يفرض فيها الأقوياء شريعتهم الوحشية على الضعفاء دون قيدٍ أو شرط، أو إعادة الاعتبار لمبادئ حقوق الانسان، واتفاقيات القانون الدولي، لحماية البشرية من جنون سياسات الاحتلال والطغيان والهيمنة، وإطلاق يد المحاكم الدولية لملاحقة القتلة والمجرمين والحد من سياسية الإفلات من العقاب.

 في حال التزام المحكمة بسلطان القانون ورفض قضاتها الضغوط والإملاءات السياسية، وحسمها الموافقة على طلب إيقاف جريمة الإبادة بحق الغزيين، وذلك خلال مدة أقصاها ثلاثة أسابيع حسب تقديرات المختصين، سيكون ذلك في – حال حدوثه – نصراً قانونياً مهماً، يحتاج كي يأخذ طابع التنفيذ العملي، إلى استكماله بتصعيد الحركة المدنية والشعبية العالمية المناصرة للقضية الفلسطينية، والضغط على صنّاع القرار في الولايات المتحدة والغرب، لإلزام حكومة وجيش الاحتلال بتنفيذ قرار المحكمة ووقف عدوانهم على غزة فورياً. قبل وضوح ما ستؤول إليه هذه المعركة القانونية في لاهاي، بوسعنا تلمس تداعياتها السياسية في انكشاف الوجه البشع لصورة إسرائيل في العالم بصورة غير مسبوقة، في مقابل تحفيز الفلسطينيين على توحيد قرارهم الوطني، بما يسهم في تراكم وتثمير كفاحهم المسنود بحراك الشعوب المساندة لقضيتهم، على طريق إنهاء أسوأ احتلال عرفه التاريخ البشري الحديث، وملاحقة القتلة والمجرمين من قادته ومسؤوليه. في هذا وحده يتحقق انصاف ضحايا الجرائم الفظيعة والمهولة، التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي في غزة، وأدت إلى سقوط ما يقارب 100 ألف ضحية ما بين شهيد وجريح ومفقود، منهم ما يقارب 70% من النساء والأطفال، وهي حصيلة أكثر من مئة يوم على حرب الإبادة المفتوحة والمتواصلة..

المصدر: موقع مصير   

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. الكيان الصhيوني وبدعم ومشاركة الغرب بقيادة أمريكا jمارس الارهاب والابادة الجماعية بحق شعبنا الفلسطيني المقاوم في فلسطين/غزة إن مبادرة جنوب افريقيا ارعبته لأنها ستفضح جرائمه والداعمين وتكشف الوجه البشع للإحتلال الصhيوني أمام العالم لذلك حاولت لتشويه سمعة جنوب افريقيا وممارسة الضغط لتبرئة قوى الاحتلال ، قراءة دقيقة موضوعية .

زر الذهاب إلى الأعلى