جاء إعلان مجلس سوريا الديمقراطية (مسد) عن عقده الاجتماعي الجديد تحت اسم “العقد الاجتماعي للإدارة الذاتية الديمقراطية لإقليم شمال وشرق سوريا”، يوم 13 من الشهر الماضي (ديسمبر/ كانون الأول)، ليثير ردود فعل عربية وكردية ناقدة ورافضة، وقد أجّجت دعوة الفنان السوري المعارض سميح شقير منتفضي السويداء إلى الحوار مع هذه “الإدارة” ردود الفعل السلبية، وأطلقت سجالات حادّة على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي بشكل خاص، سفّهت دعوة الرّجل وحطّت من شأنه. وواقع الحال أن الخلاف القائم على الهوية الوطنية وعلى العقد الاجتماعي المناسب لإدارة الاجتماع السوري وليد تراكماتٍ من إنكار الحقوق والطموحات وغياب المساواة الدستورية والقانونية والتمييز العملي والقمع السافر ضد الكرد وإثنياتٍ سورية أخرى.
بدأ التدافع الوطني بشأن هوية الدولة السورية في اللحظة التي انتقلت فيه السلطنة العثمانية من دولةٍ مشتركة للمسلمين بفضائها المفتوح لكل الشعوب الداخلة تحت سقف مواطنتها المرتكزة إلى الانتماء الديني، الإسلام، وإلى قيم عامّة مشتركة، أخلاقية واجتماعية وثقافية، تكرّست عبر التجربة التاريخية المديدة للحضارة العربية الإسلامية، إلى دولة وطنية/ تركية، عبر تبنّي فكرة وفدت إليها من أوروبا، التي حققت قفزات في مجال الاندماج الاجتماعي والنمو الاقتصادي والعلمي والثقافي على قاعدة الوطنية بعد إقرار دولها الدولة قاعدة لتحديد الحدود والحقوق والمصالح والسيادة والعلاقات بين الدول في معاهدة وستفاليا عام 1648. ومع تحويل الدولة الوطنية التركية إلى دولة عِرقية، قومية عنصرية، وتبنّيها سياسة تتريك شعوب السلطنة غير التركية بنزع خصوصياتها اللغوية والثقافية في محاولةٍ لضرب عصفوريْن بحجر واحد: الخروج من حالة الضعف والترهّل العميق الذي بلغته عبر تكريس هوية تركية مميّزة، والحفاظ على نفوذها وسلطانها في العالم الإسلامي، الذي حكمته ستة قرون، وتوظيف إمكاناته البشرية والمادّية في تعزيز موقفها في مواجهة الضغوط الأوروبية.
أثار التوجّه التركي الجديد ردود فعل رافضة سياسة التتريك لدى شعوب السلطنة غير التركية، ومطالبتها بالمعاملة بالمثل، وبالسماح لها بتنمية خصوصياتها اللغوية والثقافية والمشاركة في صياغة القرار السياسي وخطط التنمية وتوزيع الثروة في الدولة العلية بعدالةٍ شاملةٍ، قبل أن يتحوّل هذا التوجّه الوحدوي، تحت تأثير الرفض التركي والمعاملة القاسية لأصحاب هذه الدعوات، إلى المطالبة بالاستقلال وتأسيس كيان وطني مستقل لكل شعبٍ من شعوب السلطنة. لقد غدت الدعوة إلى الوطنية/ القومية الخاصة توجّها عامّا بين مثقفي شعوب السلطنة غير التركية وسياسييها، حيث انخرطت هذه القوى في نشاطات سياسية وثقافية وأدبية وإعلامية لترويج الفكرة وكسب قبول محلي ودولي بها.
لم تنجح القوى الثقافية والسياسية لشعوب السلطنة غير التركية في التأثير على سياسات السلطنة، ودفعها إلى الاعتراف بتطلعّاتها الوطنية، فلجأت إلى مغازلة الدول الأوروبية، للحصول على تأييدها ودعمها إقامة دول مستقلة، وهي، الدول الأوروبية، ذات مصلحة في تفكيك السلطنة والاستحواذ على ما بيدها من أراض وثروات، بعدما نجحت في إطلاق ثورة صناعية جعلتها بحاجةٍ للمواد الأولية وللأسواق في وقت واحد، وتمدّدها في مساحات شاسعة في آسيا وأفريقيا لهذا الغرض.
لم تأت حسابات القرايا على هوى حسابات السرايا، حيث تحوّلت الدول الأوروبية إلى دول مستعمرة، وتقاسمت ما كان بقي بيد السلطنة من أراض في بلاد الشام والعراق في اتفاقية سايكس بيكو بين فرنسا والمملكة المتحدة عام 1916، ومعاهدة سيفر بين فرنسا والمملكة المتحدة وإيطاليا واليونان والسلطنة العثمانية لتقاسم بلاد الشام والعراق وأجزاء من أرض الأناضول وتأسيس دولة أرمينيا شرق الأناضول عام 1920، وقد نصّت المعاهدة ضمن بنودها على إقامة إقليم حكم ذاتي للكرد (كردستان) في جنوب شرق الأناضول. في السياق، تم الإعلان عن وعد بلفور وتقديم أرض فلسطين العربية لليهود، ومعاهدة لوزان بين فرنسا والمملكة المتحدة وإيطاليا واليونان والجنرال مصطفى كمال اعترف بقيام الجمهورية التركية فيها، والتراجع عن الوعد الأوروبي بإقامة حكم ذاتي للكرد مقابل قطْع الجنرال علاقته بالبلاشفة الذين أمدّوه بالأسلحة، عام 1923. وشكّلت دولا جديدة فيها وفق مصالحها، ومن دون أخذ مصالح شعوبها وتطلّعاتها الوطنية الخاصة بالاعتبار، دافعة أبناء هذه المناطق التي كانت مفتوحة لحركة شعوب السلطنة في الإقامة والتملّك؛ ما حوّلها إلى دولة أمم، إلى انقساماتٍ عمودية وتباين في المواقع والأدوار، حاكم ومحكوم، وإلى تفشّي التوجّه التركي العنصري بين مثقفيها وسياسييها والدخول في صراعاتٍ قوميةٍ وإثنية، على خلفية التمايز والأحقية في الأرض والسيادة، ما زالت مستمرة.
لم تكن ردود الفعل بين شعوب الإقليم على إقامة هذه الكيانات الجديدة بحدودها وبتركيبتها السكانية، قوميا وإثنيا، واحدة، فقد تباينت وتعارضت وفق تقدير كل طرفٍ للربح والخسارة الذي نجم عن ذلك، فقد اعترض العرب على التقسيم، لأنه يتعارض مع تطلعاتهم الوطنية، لكنهم تمسّكوا، في الوقت نفسه، بالخريطة الجديدة خوفا من أن تأتي إعادة النظر فيها على حسابهم، فيخسرون جزءا من الأرض التي يحوزونها. اعترض الكرد على التقسيم، لأنه قسّمهم بين تركيا وإيران والعراق وسورية، وطالبوا بإعادة نظر في الخرائط الجديدة، على أمل نيْل حقهم في أرض خاصة ودولة مستقلة تضعهم على قدم المساواة بين شعوب العالم. وقد زاد انقسام العالم إلى تكتّلين متصارعين، الرأسمالي والشيوعي، في ضوْء نتائج الحرب العالمية الثانية، المشهد تعقيدا، وحوّل الخلافات المحلية بشأن الهويات الوطنية إلى قضايا جيوسياسية ومادّة للاستثمار والتوظيف بربطها بالصراعات الدولية بين التكتّلين، تصعد وتهبط حسب المناخ الدولي واحتياجات التكتلين لتسخين الموقف أو تبريده، ما كرّس التباينات المحلية وعمّقها ووضع ضحايا خطط التقسيم الاستعمارية في مواجهة بعضهم بعضا، وزادت السياسات التمييزية ضد الكرد، التي اتبعتها الأنظمة في تركيا وإيران والعراق وسورية، الطين بلّة، جاعلة الحالة عدائية والمواجهة صفرية.
لا يشكّل طرح “العقد الاجتماعي” الجديد ولا دعوة سميح شقير إلى الحوار جذر المشكلة/ المعضلة، بقدر ما تشكله الأحكام المسبقة والنمطية في القضية الكردية، التي كانت وما زالت تعكّر صفو الحياة السورية، وتمزّق عرى الاندماج الوطني، فقد تجاهلت الأنظمة التي حكمت سورية بعد تأسيسها تطلّعات الكرد القومية، قبل أن يأتي نظام البعث ويكرّس التمييز ويعمّقه ويجعله سياسة رسمية. أحزاب المعارضة اليسارية والقومية تجنّبت، باستثناء حزب العمل الشيوعي الذي تبنّى حقّ تقرير المصير للكرد، إصدار مواقف حول القضية الكردية أو حول السياسة التمييزية المعتمدة خوفا من اتهامها بتشجيع الكُرد على الانفصال، في ضوء تهويل النظام السوري لقطع الطريق على أي تعاطفٍ أو تعاطٍ سياسي إيجابي مع الكرد باعتبار مطالبهم بمثابة إقامة إسرائيل ثانية في الوطن العربي، وقد غدا الموقف في العقد الأخير حالة من التضاد والتعارض الحاد في رؤى طرفي المعادلة الرئيسين: العرب والكرد، واعتماد قواهما السياسية قاعدة “كل شيء أو لا شيء” في إدارة الخلاف دافعين الموقف إلى حالة استعصاء قاتلة، فالنظام يرفض كل دعوة إلى التغيير، مهما كان حجمها وطبيعتها، سبق ورفض فحوى بيان المؤتمر الوطني لإعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي عام 2007، الذي دعا إلى تغيير تدرّجي سلمي وآمن. اشترطت أحزاب كردية، تيار المستقبل وآخرون، قبول العلمانية واللغة الكردية لغة ثانية للدخول في “إعلان دمشق”. وضع المجلس الوطني الكردي شرط القبول بتصوّره لحل القضية الكردية، ما يعني القبول بالفدرالية، للانضمام إلى المعارضة السورية والاشتراك معها في دعم ثورة الحرية والكرامة. وقد أعلن حزب الاتحاد الديمقراطي عن تأسيس “الإدارة الذاتية” من دون أن يتشاور مع أحد من المعارضة العربية أو الكردية. رفض الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة هذا المشروع، واتهم القائمين عليه بالانفصال، جاعلا التعاطي معها أو الاقتراب منها خيانةً عظمى، وفي الوقت نفسه، قبل المجلس الوطني الكردي في صفوفه، مع أن الأخير كان سبّاقا بالدعوة إلى الفدرالية وما زال متمسّكا بها. وها هو مجلس سوريا الديمقراطية (مسد) يعمّق القطيعة، بإعلانه عن عقده الاجتماعي الجديد، من دون إشارة إلى إمكانية العودة عنه لصالح توافق وطني سوري على عقد اجتماعي مختلف، وخصوصا أن تجربة “الإدارة الذاتية” في عقدها الماضي لم تعرف من الديمقراطية إلا بعض شكلياتها.
مواقف مسبقة وثابتة تتجاهل طبيعة السياسة وفضاءها الواسع وما فيه من تقنيات وآليات من التنافس إلى المساومة والصفقات والحلول الوسط والحلول المرحلية، وما تقدّمه لكل طرفٍ من فرص للتقدّم خطوة نحو أهدافه، وتعزيز فرص تحقيقها ولو بعد حين، أو تجنّبه الوقوع في العزلة السياسية، وما تتطلبه كل تقنيةٍ أو آلية من حسابات ومراجعات وتقويم آني ومديد.
يستدعي الخروج من الاستعصاء القاتل تجاوز المواقف المسبقة، والتفكير خارج الصندوق، والدخول في حوار وطني شاملٍ لا يستبعد أحدا، وتشكيل هيئة حوار تحظى بالقبول، وتعمل على قاعدة أنها سيّدة نفسها، وقراراتها ملزمة للقوى المشكّلة لها للتوافق على مخرج سياسي يلحظ تطلعات السوريين وطموحاتهم، عربا وكردا وآشوريين سريان، والبحث في صورة سورية الجديدة ونظامها الديمقراطي التعدّدي الذي لا يميّز بين المواطنين في الحقوق والواجبات، ولا يفرّق بينهم على أي أساس من دين أو مذهب أو عرق أو جنس. نظام أساسه عقد اجتماعي وطني سوري جديد في دستور جديد تضعه جمعية تأسيسية في المرحلة الانتقالية، ووضع هذا التصوّر للحل على الطاولة للضغط على النظام للقبول بنقل السلطة إلى هيئة حاكمة، كما ورد في بيان جنيف1 وقرار مجلس الأمن 2254، والدخول في خطواتٍ عملية لتطبيق بقية بنود القرار.
المصدر: العربي الجديد