خطة هيكلة مخابرات النظام السوري: “عملية تجميلية” لأهداف سياسية

عماد كركص

كانت تجاوزات الأجهزة الأمنية السورية وتوغلها في المجتمع وحتى مؤسسات الدولة السورية، أبرز أسباب اندلاع الحراك ضد النظام السوري في ربيع عام 2011، إذ بنى النظام حكمه على شبكة من الأجهزة الأمنية شديدة التعقيد في الترابط فيما بينها، التي هيكلها رئيس النظام الراحل حافظ الأسد بشكل متماسك وأطلق يدها في البلاد منذ ثمانينات القرن الماضي، وعزز نجله بشار الأسد سلطتها منذ توليه الحكم، ومُنحت سلطات إضافية بعد تعاطيها مع الحراك والثورة حماية للنظام.

وخرجت أخيراً تسريبات صحافية حول خطة روسية لإعادة هيكلة أجهزة الأمن والاستخبارات التي يديرها النظام، وتقضي بإنهاء وإحلال بعض الأفرع الأمنية ودمجها ببعضها. وتزامن ذلك مع صدور سلسلة تعيينات جديدة في قوات النظام، يخص بعضها جهاز المخابرات الأكثر دموية لدى النظام، المسمى المخابرات الجوية.

وتداولت صفحات موالية للنظام في اليومين الماضيين أنباء عن تعيينات جديدة في الأجهزة الأمنية وفروع قوات النظام المختلفة، أبرزها تعيين اللواء قحطان خليل، مديراً لإدارة المخابرات الجوية، خلفاً لغسان إسماعيل الذي شغل المنصب منذ يوليو/تموز 2019. ويُعرف خليل بلقب “جزار داريا”، ويعتبر المسؤول المباشر عن مجزرة داريا في صيف 2012، وكان يتولى أخيراً رئاسة اللجنة الأمنية في جنوب سورية.

وخطة الهيكلة ظهرت فعلياً في العام 2019 حين أوعزت موسكو للنظام بإنشاء ما سمي الفرع 108 ومهمته حماية المنشآت الحكومية والمواقع الهامة، كالبعثات الدبلوماسية وغيرها من المواقع الأجنبية عن البلاد.

لكن الخطة سارت ببطء من دون جدية في التنفيذ، لا سيما أن مسألة إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية السورية كانت حاضرة في الطروحات العربية والدولية مع الأسد، كحل لإنهاء الحراك منذ بدايته، وهي طروحات رفضها الأسد.

خطة هيكلة مخابرات النظام السوري

وحول هذه الخطة، اعتبر مصدر أمني منشق عن النظام، في حديثٍ لـ”العربي الجديد”، أن هيكلة الأجهزة الأمنية كانت فكرة حاضرة منذ الأشهر الأولى لتسلم بشار الأسد السلطة خلفاً لأبيه في عام 2000، لكن الأسد رفض بعد دراسة عدد من المقترحات أي هيكلة لأجهزة الأمن والمخابرات، خشية من أي خلل قد يصيب هذه الأجهزة في أداء عملها في حماية النظام ككل، أو انكشاف أي ضعف في بنية النظام، وطوي الأمر حينها.

في الفترة الأخيرة، ذكر موقع “صوت العاصمة” المحلي منتصف ديسمبر/ كانون الأول الماضي، أن شعبة المخابرات العسكرية بدأت باتخاذ إجراءات خلال الأسابيع الماضية، تتمثل بحل وإنهاء بعض الفروع التابعة لها ودمجها مع فروع أخرى أو ضمها للإدارة الرئيسية.

ونقل الموقع عن مصدر في شعبة المخابرات العسكرية قوله: “البداية كانت في حل الفرع 216 الواقع في منطقة القزاز بدمشق المجاور للفرع 235 المعروف باسم فرع فلسطين، ونقل عناصره ومكاتب الفرع إلى إدارة الشعبة”، مشيراً إلى أن “مبنى الفرع أُخلي بالكامل، وجرى سحب كل النقاط والمفارز الأمنية التابعة للفرع من المنطقة”.

ويُعتبر الفرع 216 “فرع الدوريات” والمسؤول عن مناطق جنوب دمشق، التي انتقلت تبعيتها الأمنية خلال الأيام الماضية إلى فرع المنطقة الذي يحمل الرقم 227، والمسؤول عن معظم دمشق وريفها وأجزاء من المنطقة الجنوبية لسورية، الذي سيُحوَّل أيضاً من فرع مستقل إلى قسم داخل الإدارة.

وذكر موقع “صوت العاصمة” أن الإجراءات الحالية إحدى مراحل خطة روسية بدأ العمل فيها عام 2019 لتغيير بنية الأفرع الأمنية في سورية وتنظيم عملها الاستخباراتي، بعد أن أصبحت عقب اندلاع الثورة السورية في عام 2011 تشكيلات منفصلاً بعضها عن بعض، وموالية لتيارات وجهات داخلية أو خارجية.

ووفق هذه الخطة، ستُحَلّ ثلاثة أفرُع تابعة لشعبة المخابرات العسكرية، هي “فرع فلسطين” الذي تسبب بمقتل واعتقال آلاف السوريين، والفرع 291 المسؤول عن التحقيق مع المجندين والعناصر وصف الضباط، والفرع 293 المعروف باسم “فرع شؤون الضباط” المسؤول عن التحقيق مع الضباط، ومن المقرر صهر الفرعين الأخيرين مع فرع التحقيق الرئيسي في الشعبة وإلغاء أي وجود لهما أو نشاط بصورة مستقلة.

وستُحَلّ أيضاً شعبة الأمن السياسي التابع لوزارة الداخلية، وسيُحوَّل إلى قسم ضمن فرع أمن الدولة التابع لإدارة المخابرات العامة. وأكد موقع “صوت العاصمة” أن التغييرات لن تقتصر على نقل المقارّ أو تغيير المسميات، بل ستشمل تسريح عشرات الضباط برتب كبيرة ونقل آخرين، إضافة إلى تغيير رؤساء الأقسام الناشئة عن حلِّ الفروع الأمنية وتفكيكها.

والهدف من هذه الخطة في النهاية تقليص عدد الفروع الأمنية ودمج الفروع ذات الاختصاصات المشابهة، وذلك بهدف رفع كفاءة العمل الأمني والاستخباراتي في سورية ضمن فروع مختصة، خلافاً للعمل العشوائي الذي تمارسه غالبية الأفرع منذ عام 2011، وصولاً إلى الحد من سطوة تلك الأجهزة على المجتمع المدني ومؤسسات الدولة من خلال تحديد صلاحيات ومهام واختصاصات كل منها. كذلك ستشمل الخطط إحداث تغييرات في أساليب عمل الأجهزة الأمنية وتزويدها بأنظمة وتقنيات ومعدات لوجستية.

شبكة النظام الأمنية

وتقوم شبكة النظام الأمنية على خمسة أجهزة رئيسية. الجهاز الأول مكتب الأمن الوطني، ويتبع لبشار الأسد مباشرةً، ويشرف على عمل الأجهزة الأمنية جميعاً. الجهاز الثاني إدارة المخابرات العامة التابعة لرئاسة الوزراء، ومعها نحو 10 أفرع رئيسية ذات اختصاص، فضلاً عن أفرعها ومفارزها في المحافظات.

الجهاز الثالث إدارة الأمن السياسي، أو شعبة الأمن السياسي، التابعة لوزارة الداخلية، ويتبع لها أيضاً أفرع اختصاصية، فضلاً عن فروعها في المحافظات. الجهاز الرابع إدارة المخابرات الجويّة، التابعة لوزارة الدفاع، ومعها ستة أفرع رئيسية، بالإضافة إلى فروعها في المحافظات. والجهاز الخامس إدارة الاستخبارات العسكرية، التابعة لوزارة الدفاع، وينبثق منها الكثير من الأفرع الاختصاصية، بالإضافة إلى فروعها بالمحافظات، وهذه الإدارة أو الشعبة اعتمد عليها الأسد بشكل رئيسي في وأد الحراك ضده.

الحديث عن هذه الخطة بعد التسريبات، يشير إلى ثلاثة سيناريوهات من ورائها: الأول، يفيد بأن روسيا تريد التماهي مع الضغوط الدولية لإحداث تغيير حقيقي في بنية النظام، ولا سيما مع تفعيل المبادرة العربية القائمة على مبدأ “خطوة مقابل خطوة” لإعادة تأهيل النظام في المنظومة العربية.

والسيناريو الثاني، يتمثل بمسح السجل الإجرامي لهذه الأجهزة الأمنية، المتورطة بحسب تقارير دولية بانتهاكات وجرائم ضد المدنيين، والكثير من ضباطها ورؤسائها مدرجون على قوائم العقوبات الغربية وبعضهم رفعت بحقهم دعاوى أمام المحاكم الأوروبية. أما السيناريو الثالث فهو محاولة روسيا الإمساك بكل تفاصيل الشبكة الأمنية في سورية، ليصار لها تحديد مصير الحكم في البلاد، في ظل أي تغيير دولي، واضطرارها إلى الموافقة على تغيير النظام.

وقلل رئيس فرع المعلومات في شعبة الأمن السياسي السابق، العقيد المنشق عن النظام، يعرب محمد الشرع، من إمكانية تنفيذ هذا الطرح، مشيراً في حديثٍ لـ”العربي الجديد” إلى أن بنية النظام وعقليته ونهجه لا تقبل أي تغيير حقيقي، وإن حصل أي تغيير، فلن يكون أكثر من حبر على ورق هدفه تضليل الداخل والخارج.

وأضاف الشرع أنه “في الأساس لا توجد هيكلية تنظيمية أو إدارية واحدة موحدة للأجهزة الأمنية حتى يقوم النظام بإعادة هيكلتها، هذه الأجهزة لا تعمل وفق خطة عمل ومهام واضحة، ولا يوجد تنسيق بين عملها إلا بشكل سطحي ومبني على الغش والخداع”.

وأوضح أنه “كما عمل النظام وبشكل دائم على إثارة الخلافات والحساسيات بينها، كي يضمن بقاء هذه الأجهزة تعمل لمصلحته ومصلحة بقائه واستمراره، وأمن الوطن والمواطن هو آخر ما يجري التفكير به”.

ولفت الشرع إلى أنه “أمام هذه الحالة وهذا النهج، من المستبعد أي تغيير حقيقي أو وضع هيكلية جديدة حقيقية تحقق مصالح الوطن والمواطن، إذ كيف يرتجى من أجهزة أمنية ومن جيش وبإشراف مباشر من بشار الأسد عمل على قتل وتشريد وتهجير غالبية الشعب السوري وتدمير البلاد، أن يقوم بعملية إصلاحية صغيرة حقيقية؟”.

واعتبر أن “هذا لن يحدث على الإطلاق، وما تردد عن إلغاء النظام فرعاً أمنياً أو نقله من مكان لآخر لن يكون مقدمة لتغيير شامل للأجهزة، وحتى لو حصل فسيبقى تغييراً صورياً شكلياً، بسبب عقلية النظام والأجهزة الأمنية الإجرامية التي من المستحيل تغييرها”.

ورأى الشرع أن “هذا التغيير الشكلي لن يكون هدفه سوى تضليل الشعب السوري، بأن النظام بدأ بعملية إصلاح في أهم قطاع، وهو الجهاز الأمني، في الوقت الذي لم يعد يسأل فيه الشعب عن ذلك وأصبح هدفه تحسين مستواه المعيشي”. أما هدف التغيير للخارج، وفق الشرع “فهو أيضاً تضليل الدول التي منحها وعوداً زائفة، بأنه يقوم بالفعل بالإصلاح والتغيير الحقيقي”.

النظام لا يريد حل فرع فلسطين

من جهته، أشار الباحث في “مركز جسور للدراسات”، رشيد حوراني، إلى أن “حلّ النظام بعض الأفرع الأمنية وتوزيع كوادرها على أفرع أخرى لا يزال قائماً”.

وأضاف في حديثٍ لـ”العربي الجديد” أن “النظام عمل على حل فرع الدوريات وألحق كوادره ومهامه بفرع فلسطين، على خلاف ما نشره صوت العاصمة حول دمجه بفرع المنطقة، والنظام ليس بوارد حل فرع فلسطين، لكونه يشرف ويتابع نشاط الفصائل والحركات الفلسطينية الموجودة بسورية”.

لكن حوراني شدّد على أن “تلك الخطوات لا تعدّ دمجاً ولا إصلاحاً للأجهزة الأمنية والعسكرية”، مشيراً إلى أنه “يجب أن يكون ذلك مرتبطاً بتعديل قانوني من شأنه ضبط صلاحيات الأجهزة القائمة حالياً، وغير ذلك يبقى عملية تجميلية لا تصل إلى حل للمشكلة”.

وأبدى اعتقاده أن “النظام يقوم بذلك بدفع من الجانب الروسي الذي يحاول إعادة تأهيله عربياً، خصوصاً مع المطالب السعودية، ليحظى بالدعم المالي مقابل تلك الإصلاحات الشكلية، ويكون الدعم المالي معيناً لروسيا ولاستمرار دعمها للنظام، لكن يبدو أن الأمر لن يُكتب له النجاح بسبب عدم اقتناع السعودية حتى الآن بتلك الإصلاحات الشكلية، بدليل تعيين النظام لسفير له في الرياض، وعدم تعيين الرياض سفيراً لها بدمشق”.

أما المحلل السياسي طه عبد الواحد، المقيم في موسكو، فاعتبر في حديثٍ لـ”العربي الجديد”، أنه إذا صحت جدية تنفيذ هذه الخطة من قبل روسيا، فإنها تحمل أبعاداً سياسية لموسكو، فأجهزة الأمن هي النظام بحد ذاته.

وأضاف أنه “إذا كانت الجدية حاضرة في هذه الخطة، فروسيا تحاول خلق أجواء أفضل للتسوية السياسية، وإن كان بعملية تجميلية لهذه الأجهزة، ففي حال إقرار تسوية برعاية الأمم المتحدة، وكانت روسيا طرفاً فيها، ستكون موسكو مستفيدة على عدة مستويات من خلال بقائها كأمر واقع وجزء من الحل”.

وقال إن “دول التطبيع العربية قد تجد في هذا التطور غطاءً لدفع الأموال للنظام لمرحلة إعادة إعمار جزئية، ستستفيد منها روسيا وشركاتها بطبيعة الحال”.

ومنذ إقرار المبادرة الأردنية ـ العربية للتواصل مع النظام في مايو/ أيار الماضي، التي أعادته للجامعة العربية، والهادفة للتوصل إلى حلول لعدد من الملفات الرئاسية، وهي المخاوف الأمنية، والحد من تهريب المخدرات، وإقرار حل سياسي ينسجم مع القرار 2254، وحل مسألة المليشيات الأجنبية، وإعادة اللاجئين، يحاول النظام الترويج لعدد من الإصلاحات، كإعادة هيكلة الجيش ليكون “جيشاً احترافياً”، أي قائماً على التوظيف والتطوع بدلاً من التجنيد الإجباري.

يضاف إلى ذلك إجراء إصلاحات في “حزب البعث” الحاكم، التي أعلنها بشار الأسد نفسه قبل أيام في اجتماع القيادة المركزية للحزب، وأخيراً إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية. لكن اللجنة الوزارية المنبثقة من المبادرة، يبدو أنها لا تجد تجاوباً حقيقياً في الملفات الرئيسية، ولا سيما مسألة المخدرات وإعادة اللاجئين والوجود الأجنبي.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. نظام طاغية الشام وبعد إعادته الى كرسي سورية بجامعة الانظمة العربية كان المطلوب منه ترتيبات لوقف تجارة وتهريب المخدرات والحد من الميليشيات الطائفية الارهابية وايضاً وتحضير مستلزمات عودة اللاجئين وتنفيذ الحل السلمي للملف السوري وفق القرارات الاممية لذلك يروج كل فترة لإجراءات لعدد من الإصلاحات تنفيذاً لها ولكن الحقيقة لا جديد لأن بنيته فاسدة من قمة الهرم ، قراءة ومتابعة واقعية .

زر الذهاب إلى الأعلى