تشير عوامل عدة، من ضمنها الحاجة إلى إبقاء التركيز مصبوبًا على غزة، إلى أن إسرائيل لن تجني فائدة كبيرة من إشعال الجبهة الشمالية.
ازدادت التوقعات بأن تبادل إطلاق النار اليومي بين إسرائيل وحزب الله على طول الحدود اللبنانية الجنوبية، والمستمر منذ الهجوم الذي نفّذته حماس يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر، قد يشهد تصعيدًا يصل إلى حدّ مواجهة كبرى، حتى إن بعض المحلّلين اعتبروا هذا الاحتمال “مرتفعًا”. ومع أن هذا الخطر سيبقى ماثلًا لوقتٍ طويل من العام 2024، تشير الدلائل إلى أن هذا السيناريو لن يحدث في الأسابيع القادمة أو حتى على مدى الأشهر القليلة المقبلة.
على سبيل المثال، أشار آموس هاريل، المراسل العسكري ومحلّل شؤون الدفاع في صحيفة هآرتس، إلى تحضيرات تجريها ألوية عدة في الجيش الإسرائيلي لسحب بعض جنود الاحتياط من الخدمة، استجابةً “للعبء الهائل الذي يتكبّده الاقتصاد وجنود الاحتياط وعائلاتهم”. وستتولّى وحدات عسكرية نظامية حراسة الحدود مع لبنان، حيث يُعتبر حزب الله تهديدًا يجب التصدّي له، إنما يُنظر إلى عملياته عبر الحدود على أنها “أمرٌ روتيني تقريبًا”.
إن ما ستشهده الحدود اللبنانية الإسرائيلية في المرحلة المقبلة رهنٌ بمزيج من العوامل السياسية والعسكرية المرتبطة بشكل أساسي بالحرب في غزة. فقد يستخدم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو التهديد بالتصعيد في لبنان لمنع الرئيس الأميركي جو بايدن من ممارسة ضغوط على إسرائيل للحدّ من عملياتها العسكرية في غزة أو وقفها. لكن الضغوط الأميركية في هذا الصدد لا تزال أدنى بكثير من العتبة التي قد تدفع نتنياهو إلى تعمّد إشعال حرب مع لبنان من أجل ضمان تحقيق مكاسب ملموسة لإسرائيل.
على نحو مماثل، ومع أن نتنياهو قد يعمد إلى التصعيد مع حزب الله “للسيطرة على الأزمة” – علمًا أن المقصود هنا بالأزمة هو عبارة عن التحديات الداخلية المُحدقة بالبقاء السياسي لنتنياهو – غير أن المواجهة المفتوحة لن تقع إلا بموافقة سائر أعضاء “مجلس الحرب” الإسرائيلي والقيادة العسكرية. وعلى الرغم من أن هذه الأخيرة ربما تشاركه الرغبة في إلحاق الهزيمة بحزب الله باعتباره تهديدًا عسكريًا محتملًا، الأرجح أنها ستتجنّب فتح جبهة ثانية إذا كان ثمة خطر من أن يقوّض ذلك قدرتها على “إكمال المهمّة” في غزة. إن توسيع رقعة الصراع في غزة ليتحوّل إلى حرب إقليمية – وإن ظلّت محصورة بلبنان – من شأنه أن يخيف الولايات المتحدة والحكومات الأوروبية بشكلٍ كافٍ لدفعها إلى انتهاج جهودٍ دبلوماسية نشطة أكثر قد تؤدّي إلى تقييد حرية إسرائيل في تنفيذ عمليات عسكرية في غزة وتقليص الخيارات المتاحة أمامها لمرحلة ما بعد انتهاء القتال الدائر في القطاع.
بالطبع، ثمة وجه آخر لهذا التحليل. إذا خلصت إسرائيل ومجلسها الحربي إلى أنهما لن ينجحا بتحقيق الهدف الإسرائيلي المعلن بالقضاء على التهديد العسكري الذي تمثّله حماس، أو إلى أن حماس ستبقى القوة المسيطرة في ما سيبقى من قطاع غزة بعد الحرب، قد يدفعهما ذلك إلى محاولة التقليل من التهديد الذي يطرحه حزب الله طالما أن الفرصة سانحة لذلك.
إذًا، كيف يمكننا تقييم ما ستؤول إليه الأحداث؟ تبرز مؤشرات عدة قد تساعد على ذلك.
أولًا، لا بدّ من الحديث عن نبرة الخطاب الأميركي الرسمي حول غزة وجوهره، وما إذا يمكن ترجمة فحواها إلى تدابير محدّدة من شأنها التأثير على خيارات إسرائيل وأفعالها. حتى الآن، لم تقترن التصريحات الأميركية عن ضرورة الحدّ من الخسائر في صفوف المدنيين الفلسطينيين بعواقب يُعتدّ بها من شأنها أن تطال إسرائيل في حال عدم الالتزام بمضامينها. هذه النتائج قد لا تكون عقابية بالضرورة، مثلًا على شكل تعليق عمليات تزويد إسرائيل بالأسلحة والذخائر. بل يمكن أن تشمل النتائج تعزيز إدارة بايدن خطابها المتمحور حول إعادة إحياء حلّ الدولتَين، كسبيلٍ لإنهاء النزاع الإسرائيلي الفلسطيني، واتّخاذ خطوات تمهّد الطريق نحو إقامة دولة فلسطينية فعليًا. وبإمكان الإدارة، على الأقل، تعزيز الدور الإنساني لمنظمة الأمم المتحدة بدلًا من عرقلة مساعيها، حتى لو تطلّب الأمر ممارسة ضغوط ذات مصداقية على إسرائيل للسماح بإيصال المساعدات إلى غزة على نطاق واسع. في موازاة ذلك، بإمكان واشنطن توسيع الحظر الذي فرضته على منح تأشيرات دخول للمستوطنين الإسرائيليين المنخرطين في أعمال عنف، في إطار تدابير أشمل ضدّ كامل المشروع الاستيطاني في الأراضي المحتلة. ويمكن لذلك أن يحقّق فائدة إضافية تتمثّل في عرقلة جهود اليمين المتطرّف الرامية إلى إعادة إنشاء المستوطنات في قطاع غزة.
لكن الرسائل التي تصدر عن واشنطن في الوقت الراهن تدلّ على استمرار تساهلها مع العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة، بل وحتى تجاه الظروف الإنسانية المروّعة الناجمة عنها، على الرغم من أن الممارسات الإسرائيلية تقوّض الأهداف الأميركية المُعلنة من خلال تحويل القطاع إلى أرض غير صالحة للسكن. وفي ظل غياب تدابير أميركية مقنعة مثل التي اقترحتُها أعلاه، لا يوجد سبب يدفعنا إلى الاعتقاد بأن مجلس الحرب الإسرائيلي سيشعر بالحاجة إلى تصعيد وتائر الأعمال العدائية مع حزب الله إلى درجة شنّ حرب شاملة من أجل استباق حدوث تحوّل ما في السياسة الأميركية تجاه غزة.
ثانيًا، تشكّل طبيعة العمليات القتالية الإسرائيلية في غزة ووتيرتها مؤشّرًا على النوايا الإسرائيلية المحتملة تجاه حزب الله. طالما أن هذه تدلّ على استمرار العزم على القضاء التام على حماس، تتضاءل تبعًا لذلك احتمالات فتح جبهة ثانية مع لبنان. طبعًا، قد تستمر التصريحات العلنية الصادرة عن الوزراء والقادة العسكريين الإسرائيليين في دعم تحقيق أهداف قصوى في غزة، حتى فيما تبدأ الخطط العسكرية بالسير في اتجاه مختلف. لكن السعي نحو أهداف أكثر تواضعًا في غزة لا يشير حكمًا إلى أن المواجهة مع حزب الله ستحتدم.
يواجه مجلس الحرب الإسرائيلي – والشريحة القيادية السياسية عمومًا – معضلة تتمثّل في افتقاره حتى الآن إلى خطة واضحة لغزة بعد انتهاء القتال، وتحديدًا خلال المرحلة التي تتجاوز المدى القصير والذي يتراوح، مثلًا، بين ستة أشهر وسنة. ويحمل هذا الواقع تأثيرات متضاربة. فمن جهة، ونظرًا إلى الغموض المحيط بمرحلة ما بعد الحرب، قد ترى إسرائيل أن استهداف حزب الله هو خيار معقول للتخفيف من حالة اللايقين الاستراتيجي. أما من جهة أخرى، فقد تمكّن الجيش الإسرائيلي حتى الآن من إطالة أمد عمليته البرية في ظل غياب هدف سياسي عام واضح. وأدّى اتّساع نطاق العمليات القتالية نحو جنوب غزة (وحتى على طول الحدود بين غزة ومصر) إلى وضع الجيش الإسرائيلي أمام أحد هذَين السيناريوهَين المحتملَين: إما مواصلة القتال إلى حين القضاء على قدرات حماس العسكرية (وإنهاء حكمها)، أو الانتقال إلى تحقيق أهداف محدودة أكثر.
ثالثًا، قد ينذر التحوّل في نطاق الهجمات الإسرائيلية في لبنان بتصعيد وشيك يشعل حربًا أوسع مع حزب الله. تحديدًا، إنّ شنّ غارات كبيرة تستهدف بصورة لا لبس فيها المدنيين سيشكّل على الأرجح استفزازًا متعمّدًا من أجل دفع حزب الله إلى الردّ بالمثل، وبالتالي إعطاء إسرائيل ذريعة لتنفيذ عملية كبيرة. هذا السيناريو سيكون في الواقع أشبه بتكرارٍ للاستراتيجية التي اتّبعتها إسرائيل في عهد رئيس الوزراء آنذاك مناحيم بيغن ووزير دفاعه أرييل شارون في مطلع الثمانينيات. فقد توقّعا شنّ غزو بري على لبنان بعد ردّ مدفعية منظمة التحرير الفلسطينية على قصف سلاح الجو الإسرائيلي مبانٍ سكنية مدنية ومكاتب منظمة التحرير في قلب العاصمة بيروت في تموز/يوليو من العام 1981، ثم مجدّدًا عقب غارات جوية إسرائيلية في أيار/مايو 1982. لكن الاجتياح بدأ في نهاية المطاف في الشهر التالي بعدما تعرّض السفير الإسرائيلي في لندن لمحاولة اغتيال (نفّذها، للمفارقة، فصيل فلسطيني منشقّ يعمل لصالح المخابرات العراقية التابعة لصدام حسين)، على الرغم من أن منظمة التحرير الفلسطينية لم تكن قد خرقت اتفاق وقف إطلاق النار.
ستحدّد التطوّرات التي تشهدها الساحة السياسية الداخلية في إسرائيل مسار الكثير من الأمور، لكن في الوقت الراهن يبدو أن نتنياهو لا يقوى على ضغوط بقية أعضاء المجلس الحربي حول القرارات المهمة. وتشير التقارير إلى أن الجيش الإسرائيلي يستعدّ لتغيير نمط عملياته ووتيرتها بعد منتصف كانون الثاني/يناير 2024، بيد أن ذلك لا يعني انحسار الحرب في غزة، بل هي أبعد ما تكون عن ذلك. في هذا السياق، قال وزير الدفاع يوآف غالانت لمستشار الأمن القومي الأميركي جايك سوليفان في منتصف كانون الأول/ديسمبر إن العمليات القتالية الإسرائيلية “ستمتد لأكثر من أشهر عدّة”، فيما توقّع مسؤولون أمنيون إسرائيليون آخرون خلال الفترة نفسها أن تتطلّب الحرب “ما بين ستة وتسعة أشهر إضافية من العمليات العسكرية المكثفة”.
قد تكون هذه التقييمات جزئيًا عبارة عن جعجعة خطابية، ولا شكّ أيضًا أنها عرضة للتغيير. لكنها تشجّع على الاستنتاج بأن مجلس الحرب الإسرائيلي قادرٌ على الاستمرار في حرب غزة لأشهر عدّة إضافية، ولن يحقّق مكاسب تُذكر من زعزعة هذا الوضع المريح استراتيجيًا من خلال شنّ حرب متفلّتة ضدّ حزب الله.
المصدر: مركز كارنيغي للشرق الأوسط
هل ستجني إسرائيل فائدة كبيرة من إشعال الجبهة الشمالية ؟ لأن أهل التقية ليس لهم مصلحة بذلك وكذلك الدول المتنفذة ، لأن قيادة الكيان الصهيوني تعمل لذلك لأنها تحاول تحقيق نصر بالتدمير والقتل ، ولأن الداعم والحامي لتجاوزاتها “الغرب وأمريكا” ملتزمين .