عاش رياض التُّرك قائدا سياسيّا في الحزب الشيوعي السوري، واعتُقل بسبب ذلك في الخمسينيات ثلاث سنوات في فترتين متقطعتين. وفي عهد الأسدين، الأب والابن، اعتقل 18 عاماً (1980 – 1998)، وأقلّ من سنتين بعد 2011. … برز أصغر عضو مكتب سياسي في مؤتمر الحزب الشيوعي السوري 1969، ولاحقاً أقوى قيادي في المكتب حينما انشقّ خالد بكداش في 1972 عن الحزب، وعُرِفَ حزب رياض بالمكتب السياسي، بسبب الأكثرية التي نالها تيارُه حينها في المكتب والحزب بعامة؛ التيار الذي طرح قضايا هامة في ذلك المؤتمر، من قبيل إعادة النظر بموقف الحزب من القضية الفلسطينية، والوحدة العربية وطبيعة التحالفات مع موسكو، والخلاف حول التنظيم، ووصولاً إلى عبادة الفرد والحزب الشيوعي العربي؛ وتراجع عن أغلبيتها مع تحوّله نحو الليبرالية. المفارقة هنا أن النظام أيضاً راح يَهجُر الاشتراكية منذ بداية التسعينيات.
مع دخول حزب خالد بكداش الجبهة الوطنية التقدّمية في بداية السبعينيات حصل الطلاق البائن مع حزب المكتب السياسي، والذي عَقد مؤتمره في 1978، وكرَّس رياض التُّرك زعيما “ستالينيا” للحزب الجديد. لم يطُل به المقام، فقد اعتُقل في 1980، وقضى فترة اعتقاله في زنزانة منفردة. في ذلك المؤتمر، تبنّى الحزب الديمقراطية، وراحت تتعزّز فيه الميول الليبرالية، والتي تكرّست كأيديولوجيا للحزب مع سقوط الاتحاد السوفييتي، وسقوط أسطورة الماركسية والشيوعية. وفي 2005 أعلن رسمياً، وفي مؤتمر للحزب، عن تخلّيه عن الاسم القديم، وصار اسمُه حزب الشعب الديمقراطي، وانتُخب عبد الله هوشة أميناً عاماً، ولكنه استقال في 2007، بسبب تدخّلات رياض في مهام الأمانة العامة، وكأنّ الحزب ملكية شخصية له، وحدث انشقاقٌ آخر في 2014، وللاعتبارات ذاتها، أي بسبب دوره المركزي، والذي يتخطّى البنية التنظيمية. وبالتالي، لم يستطع أن يكون رجلاً ديمقراطياً بالفعل، رغم أنّه ناضل طوال حياته، ومعه آلاف الشيوعيين وسواهم، من أجل الوصول إلى الديمقراطية، وبأدقّ الصياغات من أجل تغيير شكل النظام السياسي الشمولي في سورية.
لم يكن رياض التُّرك مفكّراً ماركسياً، ولا أصبح كذلك بتحوّله الليبرالي لاحقاً، ولم يتقدّم برؤى فكرية في الحالتين. كان الرجل زعيماً سياسياً، ومناضلاً جذرياً ضد النظام، وهذا صحيح. للرجل أخطاؤه الكبرى، وهذا لا يقلّل من أهمية نضاليّته؛ لقد أراد أن يكون بديلاً لخالد بكداش، ولم يكن يريد لحزبه أن يكون ممثلاً لكل أعضائه، ووفقا للتسلسل التنظيمي بالطبع. لقد برزت نزعته إلى التفرّد طوال ممارسته السياسية، كما ذُكر أعلاه، والأسوأ أنه مارس إقصاءً سلبياً منذ أصبحت لحزبه بنية تنظيمية مستقلة؛ بعد انضمام حزبه للتجمّع الوطني الديمقراطي، وتشكَّل الأخير في 1979، رفض بشكلٍ قاطعٍ انضمام حزب العمل الشيوعي، وبحجّة اتهاميّة، لا مصداقيّة لها بأي حال، باعتباره حزباً “علوياً” وأفراده عملاء للمخابرات! وقضى أفراد ذلك الحزب في المعتقلات والسجون، كما أعضاء المكتب السياسي، كما كل القوى السياسية من خارج الجبهة الوطنية التقدّمية، والتي طالبت بتغيير النظام، وعدم الاكتفاء بالمطالبة برفع حالة الطوارئ مثلاً، والتي كانت تتبنّاها الأحزاب الشيوعية في الجبهة (خالد بكداش ويوسف فيصل).
يؤخذ عليه تأييده لنتائج غزو أميركا للعراق في 2003، وأنّه نقل العراق من تحت الصفر إلى الصفر، وانتقل العراق إلى نظامٍ طائفيٍ وحروب لم تنتهِ، وكذلك، تحبيذ غزو سورية، وإزالة النظام، حيذاك، وكذلك لم يكن موقفه ديمقراطياً تجاه بعض الأحزاب اليسارية في سورية أثناء انعقاد إعلان دمشق في 2007، وأيضاً أعاق، هو بالتحديد، الوصول إلى جسمٍ سياسيٍّ يمثل كل أطياف المعارضة السورية، فتشكل جسمان في 2011، هما هيئة التنسيق الوطنية، والمجلس الوطني السوري، وهذا لعب دوراً سلبياً للغاية في تطوّر الثورة، حيث شتّت قوى المعارضة السورية، وراحت تتقاتل في ما بينها أكثر من تصويب مشكلات الثورة وتدخلات الخارج بها!
لم يكن رياض التُّرك رجلاً ديمقراطياً؛ فلا المجتمع ديمقراطيّ ليتمثل قيمَه، ولا الماركسيّة الستالينية التي تشرّبها في الحزب، منذ أصبح عضواً فيه كانت ديمقراطية، وكذلك لعب النظام الاستبدادي دوراً في تسييد البنية الفكرية الاستبدادية، وهذا لا يخصّ الراحل، بل الأغلبية الساحقة من قيادات العمل السياسي في سورية. وبالتالي، كان إقصائيا، في الوقت الذي يناضل من أجل الديمقراطية، و”ديكتاتورا” في حزبه. وهذه قضية مطروحة أمام السوريين كافة، كيف يمكن أن تكون ديمقراطياً، وبغض النظر عن الأيديولوجيا أو الأفكار التي تتبنّاها، كالماركسية، أو الليبرالية، أو الإسلام السياسي وسواه.
رجل بحجم رياض التُّرك، كان يمكن أن يلعب دوراً سياسياً أكثر بكثير من أن يظلّ عضواً في حزبٍ سياسيٍ، أو يفضّل مجلساً وطنياً وينبذ هيئة التنسيق. كان من أهم الشخصيات السياسية في حزبه، وفي إعلان دمشق، وفي المجلس الوطني، وحتى وفاته، وبالتالي، يتحمّل قسطاً كبيراً في فشل المعارضة، استراتيجياً وتكتيكياً وبالسياسات العامة، ومنذ دخول حزبه إلى التجمّع الوطني الديمقراطي في 1980.
أيضاً، تفتقد سورية إلى شخصيات سياسية من نوعية رياض التُّرك، فقد امتهن السياسة كحرفةٍ، ولم يهادن أبداً. ربما المسألة معقّدة للغاية؛ حيث كيف يمكن للمرء أن يكون كذلك، وهو يعيش تحت أسوأ نظامٍ استبداديٍّ وإفقاري وأمني بامتياز؛ وأيضاً حدثت تحوّلاتٌ سياسيةٌ كبرى، لم يفكّر بها رياض كثيراً، كسقوط الاتحاد السوفييتي وماركسيّته، حيث كان تبنّيه الليبرالية والابتعاد عن الماركسية سابقا لذلك. ولكن ذلك لم يكن سهلاً عند أغلبية اليساريين السوريين، وكان لتأثير السقوط خطورة كبيرة، دفعت تياراتٍ واسعةً للانتقال “السحري” من الماركسية إلى الليبرالية “الفردية”، والايمان بالأخيرة. كان رياض الترك يريد تغيير النظام وإنهاء حكم العائلة في سورية، وهذا يُسجّل له، ولكن الطرق للوصول إلى ذلك متعدّدة، وفيها اختلاف بالرأي وبالسياسة وبالتنظيم وسواه، وهذا ما لم يستطع قبوله، فكان، ومجدّداً، إقصائياً.
رحل الرجل التسعيني. كان يأمل بأن يرى سورية ديمقراطية، وأعطى بلاده حياته بأكملها؛ هذا رجل قدوة في امتهان العمل السياسي، ولكن له أخطاء كبرى، حاولتُ تحديد بعضها أعلاه؛ لروحه السلام، ولعائلته ومحبّيه ولسورية كل العزاء.
المصدر: العربي الجديد
قراءة نقدية موضوعية لمسيرة الراحل رياض الترك السياسية بمواقفه ورؤيته ، موقفه من نتائج غزو أمريكا للعراق 2003 وإنه إقصائي وغير ديمقراطي ضمن الإيديولوجيا التي يتبناها والحزب الذي ناضل من خلاله ، ولكنه يظل مناضلاً وطنياً ثورياً ، الله يرحمه ويغفر له .