كان موسم الحج والرحلات التجارية وحياة التنقل عند بعض القبائل من البدو والتواصل مع العجم عند الحضر والتغيير الديموغرافي بسبب الحروب والغزوات والأسواق الأدبية مرتعًا خصبًا لتبادل الثقافات عند العرب حيث كان الحجاج والتجار ينقلون لهجاتهم مع بضائعهم وكانت الأسواق الأدبية كعكاظ الذي بدأ كسوق محلي وأصبح بعد ذلك منتدىً تتوحد فيه لهجات القبائل وملتقًى لكل من أراد أن يعرض نتاجه الفكري وبضائعه التجارية…ففي تلك الأسواق كانت تتناغم القلوب مع المصالح وتعقد الأحلاف والعهود وتعلق معلقات الشعر الجاهلي ودرر الإنتاج الفكري والأدبي على ستار الكعبة، تلك الأسواق التي أضحت ساحة واسعة للاختلاط بالأقوام والقبائل الأخرى والامتزاج بكل ما هو جميل وجديد واستمر الحال على هذا المنوال حتى جاء الإسلام وجعل منها ساحة حقيقية للإبداع…. كما كان لقريش رحلتين سنويتين “رحلة الشتاء والصيف” حيث كان تجار قريش يرسلون قوافلهم التجارية إلى الشام في الصيف وإلى اليمن في الشتاء بهدف التجارة فتعود القوافل محملة بكل جديد من ثقافات ومفردات وبضائع ومن هنا نرى أن العرب في الجاهلية كانوا أفضل حالا مما كنا عليه نحن في القرن العشرين…
وقد كان العرب يرسلون أولادهم إلى البادية لتعلم اللغة العربية الفصحى فقد ثبت عن سيدنا محمد إقامته عند مرضعته حليمة السعدية في البادية…لأن القبائل العربية كانت تتكلم بلهجات مختلفة من حيث مخارج الحروف واللفظ على خلاف أهل البادية الذين حافظوا على الفصحى وقد كانت لغة القصيدة تجمع العرب كافة تحت مظلة الفصحى
يقول السجستاني في كتابه: “الكبير في القرآن”: قرأ عليّ إعرابي ” الذين آمنوا وعملوا الصالحات طيبا لهم و حسن مآبا ” فقلت: طوبى ، فقال: طيب.
وهذا يظهر عجز السجستاني وهو عالم لغة معروف عن تقويم لسان الأعرابي وتغيير لهجته التي ألفها ودرج عليها ومرن لسانه على التخاطب بها فاختلطت بدمه ووجدانه وبسبب هذا الاختلاف والتعدد نزل القرآن الكريم بسبع لهجات، قال صلى الله عليه وسلم” إن القرآن نزل بسبعة أحرف فاقرأوا ما تيسر منه” لييسر انتشار الدين الجديد وليخفيف المشقة على المسلمين وإلا لشق الأمر عليهم وكان فوق طاقتهم اللفظية والنفسية ولكن الفصحى بقيت لغة القراءة والكتابة عند الناطقين باللغة العربية ولغة الديانة عند غير الناطقين بها..
ورغم اختلاف اللهجات والقراءات القرآنية التي طالت المظاهر اللفظية من تحريك الحروف وتسكينها وترقيق وتفخيم وشد ومد وإمالة إلا أن لهجة قريش كان لها دور السيادة بسبب فصاحتها ومكانتها بين العرب…
وقد بقيت اللهجات العربية سجينة اللفظ فقط مع بعض التفاوت بسبب القرب أو البعد الجغرافي من بلاد العجم وخاصة عند الحضر بسبب اتصالهم بكل جديد وتواصلهم مع بلاد العرب والعجم الذي فرض عليهم الإعارة والاستعارة في الألفاظ والصوتيات… فمثلًا هذيل كانوا ينطقون “الذين= اللذون” وتميم كانوا يؤثرون الضم في لفظهم فكانوا ينطقون: حيث= حَوثُ..
إلا ان حياة البدوي الهادئة الساكنة تجعله يميل إلى التراخي والسرعة في النطق واليسر في اللفظ فيدغم الحروف فمثلا أهل تميم كانوا يجعلون من (اجتمعوا = اجدمعوا، و معهم = محم والكعبة = الجعبة)
وقد استمرت اللهجات على هذا الوضع إلى أن امتدت رقعة الدولة الإسلامية وشملت بلادا غيرعربية فازدادت خارطة اللهجات اتساعًا وتطورت وأصبحت المفردات أكثر عددًا حيث دخلت ألفاظ جديدة على لغتنا العربية وبدأ الاختلاف واضحا بين بلد وآخر بل بين مدينة وأخرى وكان إزدياد المساحة الناطقة بالضاد يتناسب طردًا مع ازدياد رقعة الخلافة الإسلامية فبعد دخول السلطنة العثمانية تأثرت الثقافة العربية باللغة التركية وكان البعد الجغرافي عاملًا رئيسًا جعل من سيطرة اللغة الدخيلة وحشا يلتهم العربية أو ضيفا يتدخل بالقليل حيث نجد البلاد الأقرب جغرافيا إلى تركيا أكثر تأثرا من غيرها كسوريا والعراق مثلا وأخص بالذكر مدينة حلب السورية التي ما تزال تقتفي أثر الأتراك في كل شيء حيث تجد الكثير من المفردات التركية في اللهجة الحلبية كما نجد الكثير من المفردات العربية في اللغة التركية أيضًا… وصولا إلى الاحتلال الأوربي و دخول نابليون إلى مصر وسورية وانفتاح الوطن العربي على الغرب و تأثر اللغة والمجتمع بأفكار ومفردات جديدة وما تزال بصمة الاحتلال الأوربي ظاهرة إلى يومنا هذا حيث نرى الكثير من المفردات الفرنسية في لبنان والإنكليزية في مصر والإيطالية في ليبيا بينما نجد المغرب العربي غارقا بين الفرنسية والأمازيغية و البربرية وبلاد الرافدين التي تسبح في بحر التركية والفارسية والإنكليزية وسورية التي تأثرت بالتركية والفرنسية والعراقية بعد جعل حلب عاصمة للدولة الحمدانية…
و تجدر الإشارة إلى أن اللهجات أماتت أصواتًا وأحيت أخرى فنرى مثلا المدن السورية أماتت القاف وأحيت الهمزة بينما نرى العكس عند أهل الريف..
مثال: قلبي = ألبي ، قفل = افل، حريق= حريء
ونشهد تجاهلًا كاملًا للأحرف اللثوية
مثال: غيّاث= غياس، ذئب= زئب..
وقلب الدال = ذال مثال: هؤلاء= هذول أو هاذول أو ذول…
وقلب الطاء = تاء وأحيانا دال في بعض البلدان العربية (طيب + تيّب)
وقلب الكاف = ج في العراق والقاف = G في فلسطين والخليج …والجيم=Gفي مصر ..
وقد حلت بعض مفردات الفصحى مكان العامية مثل: (خش= دخل) و(مقشة= مكنسة) وتغيرت بعض معاني المفردات مثل كلمة”شنب” التي كانت تعني بياض الأسنان وأصبحت تعني “شارب”
و انتهى بنا الأمر في عصرنا الحالي إلى عدد لا يحصى من اللهجات كالشامية والعراقية والخليجية والمصرية والسودانية ولهجة المغرب العربي… وعشرات الملايين من المفردات الدخيلة على اللغة العربية وكلها تختلف فيما بينها في حين تبقى الفصحى لغة بليغة واحدة حماها القرآن من الانقراض والتغيير واللحن وبقيت لغة القراءة والكتابة إلى يومنا هذا؛ في حين انتشرت عند العرب القدماء العنعنة و العجعجة الفحفحة والكشكشة والشنشنة والكسكسة والطمطمة و الاستنطاء و الوتم و الوكم و التضجع و التلتلة…
و خلاصة القول إن اللهجات في تطور وتغير مستمر والفصحى ثابتة محفوظة بفضل القرآن و إن اللهجات قديمًا كانت أكثر عددا مقارنة بالرقعة الجغرافية بينما لم تطل اللهجات المفردات بل اكتفت باللفظ فقط أما الآن فالخريطة اللغوية أوسع والمفردات أكثر والاختلافات قد تطال حتى الأحياء داخل الرقعة الجغرافية الواحدة مثال ذلك: كلمة “نعم” في سورية: “شو” في حين في مصر: أيوا وفي العراق : ها عيني…
فمثلًا عبارة ماذا تريد أو نعم في دمشق: “شو” وفي حلب “إشّو” وفي إدلب “أشو وفي الرقة “ها”…”
أمثلة عن اللهجات القديمة:
العنعنة : ج = ي عند تميم و الكويت و جنوب العراق ( شجرة = شيرة، دجاج = دياي )
أ= ع ( أنك = عنك) أشهد أنك رسول الله= أشهد عنك رسول الله)(أذن=عذن)
العجعجة: ي= ج عند قضاعة (تميميّ = تميمج) (أبو علج (عليّ) المطعمانِ الشحمَ بالعشج (العشيّ)
الفحفحة : ح = ع عند هذيل ( حتّى= عتّى) (أحلّ الله = أعلّ الله) و( حتّى حِين= عتّى حين)
الكشكشة: ك المؤنث= ش عند بني سعد وربيعة و مضر ( عليك = عليش أو عليك= عليكش)
فعيناش(ك) عيناها وجيدش(ك) جيدها ولكن عظم الساق منشن(ك) دقيق
الكسكسة: إضافة (س) بعد (ك) (منك= منكس، عنك = عنكس)
الشنشنة: ك= ش عند أهل اليمن وما يزال أهل حضرموت ينطقون بها ( لبيك= لبيش )
الطمطمانية : لام التعريف = م (طاب الهوى= طاب أمهوى)
وقوله (ص):(ليس من امبر امصيام في امسفر)= ليس من البر الصيام في السفر
التلتلة: كسر حرف المضارعة إذا كان مفتوحًا (تِفْهَم ، نِرْكَب)
الاستنطاء: العين الساكنة نونا عند أهل اليمن و هذيل( أعطى = انطى)
التضجع:وهي الإمالة بالكسرة (عابد= عيبد ، عالم = عيلم)
الوكم : كسر كاف الخطاب عند ربيعة و بكر من وائل ( بكُم = بكِم)
الوتم : س= ت عند أهل اليمن
(ياقبّــح الله بنـي السِّعْـلاةِ**عمرَو بن يَرْبُوع شرارَ الناتِ (الناس)
(غيـرَ أعفـاءٍ ولا أكيــاتِ*****ياقبّــح الله بنـي السِّعْـلاة (أكياس)
الوهم: كسر الهاء في (منهُم = منهِم و عنهُم = عنهِم)
الوكم: كسر كاف المخاطبة (بكُم = بكِم)
القطعة: يا ولد= يا ولا – مساء الخير= سا الخير
كل هذه التطورات أدت إلى اتساع الخريطة اللغوية للهجات…وقد أثرت الدراما العربية ووسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي على اللهجات فأصبحت أكثر اتساعًا وانتشارًا بل وفرضت علينا تبني اللهجة البيضاء البعيدة عن الإغراق في المحلية حتى يفهمنا المتلقي في كل المنصات الإلكترونية وقد أصبح علم اللهجات (الدراسات الصوتية واللسانية) مادة دسمة تدرّس في الجامعات للطلاب الناطقين بغير العربية..
ونخلص للقول بأن اللهجة هي مجموعة صفات لغوية تنتمي إلى بيئة خاصة ضمن بيئة أوسع تضم عدة لهجات لكل منها خصائها ويشترك في الصفات اللغوية هذه جميع أفراد البيئة الواحدة وتشمل الاختلاف الصوتي وأحيانًا معنى أو بنية الكلمة نفسها..
فلهجتي أنا مثلًا تختلف اختلافًا كاملًا عن لهجة بعض أهلي الذين نشؤوا في مناطق حلب التراثية التي تفوح من جدرانها رائحة الغار..
المصدر: مجلة الوعي السوري
قراءة علمية موضوعية موثقة عن دور تعدد اللهجات باللغة العربية حتى كانت هناك سبعة قراءات للقرآن الكريم كما قال رسول الله (ص) بسبب ذلك ”إن القرآن نزل بسبعة أحرف فاقرأوا ما تيسر منه” لييسر انتشار الدين الجديد وليخفيف المشقة على المسلمين لأن اللهجة هي مجموعة صفات لغوية تنتمي لبيئة خاصة ضمن بيئة أوسع تضم عدة لهجات لكل منها خصائها ويشتركون في الصفات اللغوية .