بين الدعم المطلق لإسرائيل والبحث عن “أفق سياسي” لما بعد الحرب، أضاعت الولايات المتحدة – كالعادة – “الأفق السياسي”، على غرار ما فعلته في كل تدخّلاتها وحروبها. لم تستطع السيطرة على التطرّف الإسرائيلي الجامح ولا ترويضه، ففرض عليها قبول إملاءاته: 1) الحرب المستدامة حتى لو غيّر أساليبها، 2) مواصلة مدِّه بما يطلبه من أدوات القتل والتدمير، 3) إعادة احتلال قطاع غزّة في انتظار “القضاء على حماس” ولو بعد سنوات، 4) المماطلة في أي حلول حقيقية للحفاظ على خيار التهجير والسعي إلى تصفية دور “الأونروا” لإبقاء الوضع المعيشي طارداً للغزيين من أرضهم، 5) إقصاء التطرّف الإسرائيلي و”سلطة حماس” عن حكم غزّة، 6) إحباط أي صيغة لـ”سلطة فلسطينية موحّدة” للضفة الغربية والقطاع، 7) مواصلة الضغط على “سلطة رام الله” وإضعافها لإقصاء أي بحث جدّي في تطبيق “حلّ الدولتين”، 8) التعامل مع “اتفاق أوسلو” على أنه ملغى وغير قابل للتطبيق بغية زعزعة الشرعية الدولية لمنظمة التحرير، وبالتالي للسلطة الفلسطينية، 9) استخدام تطرّف أحزاب الصهيونية – الدينية للاستمرار في السياسات العنصرية وتحصين الاستيطان وإرهاب المستوطنين لمنع أي بحث في تغيير أوضاع الاحتلال في الضفة، 10) ممارسة ضغوط على الدول العربية، سواء لمواصلة نهج “التطبيع المجاني” من دون تنازلات للفلسطينيين، أم لتمويل إعادة إعمار “غزّة المحتلة” بإشراف إسرائيل وشروطها.
هذه مجرّد عيّنة من سياسات سبق للإدارات الأميركية أن أيّدتها سراً أو علناً (عدم تطبيق اتفاق أوسلو)، أو تغاضت عنها (توظيف ممارسات “حماس” في إضعاف السلطة الفلسطينية)، أو تلكّأت في معارضتها (الاستيطان وتقويض “حلّ الدولتين”)، أو خضعت فيها لإرادة الإسرائيليين (انتهاكات المسجد الأقصى وسائر المقدّسات، والقوانين العنصرية التي تتعامل مع الفلسطينيين كشعب مُستَعبَد واقع تحت الاستعمار). ولم تستطع الإدارة الحالية أن تحلّ الإشكالات التي عوّقت إدخال المساعدات الإنسانية إلى غزّة، أقلّه مقابل امتناعها عن طلب وقف إطلاق النار، فبدت مؤيّدة للحصار الخانق ولقتل ما يقرب من 15 ألف طفل وامرأة، عدا آلاف المفقودين. بل إن الإدارة الأميركية واصلت إرسال شحنات أسلحة متطوّرة إلى إسرائيل على رغم أن بنيامين نتنياهو يعمل بأجندته الخاصة ويتجاهل أي مطالب أميركية تخالف تطلعاته للبقاء في الحكم، كذلك على رغم أن واشنطن تعرف أن تيار التطرّف السياسي – الديني لا ينفكّ يتوسع داخل صفوف الجيش وقوات الشرطة. والأهم أن كل التقديرات تفيد بأن عدم إحراز نصر حاسم في غزّة سيدفع المجتمع الإسرائيلي إلى أحزاب التطرّف التي ترفض الآن وقف الحرب وتؤيّد علناً تهجير الفلسطينيين من غزّة والضفة. فأي إسرائيل تريدها الولايات المتحدة في هذا الشرق الأوسط، ولأي أهداف، وكيف يمكن في هذه الحال أن تعيش بأمان في المنطقة أو أن تتعايش مع شعوبها ودولها؟
في عام 2022 قادت أميركا تحالفاً غربياً مناوئاً للغزو الروسي لأوكرانيا، وكانت القضية التي دافعت عنها مبدئية ومحقّة ومشروعة بدليل أن الغالبية في الجمعية العامة للأمم المتحدة وقفت معها ضد هذا الغزو وطالبت بالانسحاب الروسي، لكن الانقسام الحالي داخل الكونغرس في شأن مواصلة الدعم لأوكرانيا يُظهر أن المسألة لا علاقة لها بأي مبادئ وقيم، وليست فصلاً في صراع دولي بين شرق يغلّب الاستبداد وغرب يغلّب الديموقراطية التي جعلها جو بايدن أحد أبرز شعارات ولايته. لكنه في عام 2023 شهد كيف أن صعود التطرّف كشف زيف “الديموقراطية” في إسرائيل، وبعد هجوم “حماس” على غلاف غزّة ما لبث هو نفسه أن خلع ثوب الديموقراطية ليرتدي حلّة الصهيونية التي لطالما تفاخر بها وراح يتفرّج على مجازر الأطفال والنساء في غزّة، ومع اقتراب الحرب من نهاية شهرها الثالث لا يزال يتفرّج ولا يستطيع سوى إشهار “الفيتو” ضد وقف إطلاق النار.
قيل في هجوم 07/10/2023 إنه عرّض إسرائيل لـ”تهديد وجودي”، والواقع أن الخطر الوجودي الذي تشعر به متأصّل لديها منذ ولادتها على أنقاض النكبة الفلسطينية، ومنذ ترسّخ في لاوعي شعبها أنه يعيش على أرض مسلوبة وأن الشعب الآخر صاحب الأرض لا يزال موجوداً وقريباً ويطالب بحقوقه. ثم قيل إن الحرب، رداً على هجوم “حماس”، ستغيّر منطقة الشرق الأوسط وخريطته، لكن ما تغيّر فعلاً هو الغرب الذي قدّم دعماً مطلقاً لإسرائيل وداس على كل القيم التي كان يعظ بها بقية العالم (الإنسانية والأخلاقيات وسيادة القانون وحقوق الإنسان وحرّية التعبير…) لتغطية الجرائم والفظاعات التي ارتكبتها إسرائيل ثم حوّلتها إلى حرب إبادة جماعية مفتوحة لشعب تعتبر مجرد وجوده نافياً لوجودها. غيّرت دول الغرب روح دساتيرها وقوانينها، فعلى سبيل المثال فقط ساوت أميركا العداء للصهيونية بالعداء للسامية وصارت جامعاتها مطالبة بقمع حرية التعبير بعدما كانت موئلاً ورمزاً لهذه الحرية، وأصبح الاعتراف بإسرائيل شرطاً لاستحقاق الجنسية في ألمانيا التي تتعامل مع معاداة السامية كأنها مسٌّ بالهوية الوطنية وشرعية الدولة. والأمثلة كثيرة في بلدان غربية أخرى جعلت من التعاطف مع الأطفال والنساء الفلسطينيين، وليس مع “حماس”، أشبه بجنحة أو جريمة.
كل ما يُطرح حالياً لما بعد الحرب لا يفترض أن يكون هناك تغيير في إسرائيل نفسها بل تكيّف مع تطرّفها، حتى وهي تهندس النكبة الثانية للفلسطينيين. لم يخرج فيها أي صوت يتحدث عن “سلام” أو عن “تعايش” لا بدّ منه بل هناك استسلام وتسليم بفكرة التخلّص من الشعب الفلسطيني. صدرت دعوات إلى الدول العربية كي تستوعب النازحين، أو إلى دول أجنبية كي تستقبلهم، وهناك دولتان على الأقل (أستراليا وكندا) بدأتا تقديم تسهيلات للهجرة إليهما، فيما يشهد جانبا معبر رفح نشاطاً لسماسرة تهريب غزيين يدفعون آلاف الدولارات لعبور الأراضي المصرية إلى أي مكان.
الدول العربية والإسلامية قالت كلمتها، الاتحاد الأوروبي يبحث عن أفكار ويعجز عن تطبيقها، والكلّ واقعٌ في فخّ أن الكلمة لأميركا وحدها، لكن بايدن لم يطرح أي مبادرة وهو يستعد لدخول سنة انتخابية صعبة، كذلك إسرائيل تتجه إلى تحوّلات سياسية معقّدة. لذلك يُركن حالياً إلى ما هو “ممكن”. وهذا الممكن يعني بقاء قطاع غزّة عالقاً بين حرب واحتلال وحصار، فإسرائيل لن تنسحب منه بحجة أن “الفراغ” يتيح لـ”حماس” العودة إلى حكمه، وهي تريد احتلاله من دون تحمّل مسؤولية سكانه أو السماح للأمم المتحدة بمساعدته بلا عوائق، لكن بقاءها فيه يحبط أي انخراط عربي ودولي في أي مبادرات لا أفق “سلمياً” لها. أما حكم “حماس” فممنوع الآن ولاحقاً، وإذا عاد فسيكون عقبة أمام المساعدات وإعادة الإعمار… وهكذا، ففي اليوم الأول من 2024 يمكن القول إن “اليوم التالي” في غزّة مؤجّل إلى 2025.
المصدر: النهار العربي