الديمقراطية الإسرائيلية غير المكتملة || كيف يمكن أن تؤدي الحرب في غزة إلى نظام دستوري جديد؟

يوهانان بليسنر

في الأشهر التي سبقت هجمات “حماس”  في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) كان المجتمع الإسرائيلي أكثر انقساماً من أي وقت مضى، وكانت الجهود التي بذلتها حكومة رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، اليمينية المتطرفة، في سبيل تطبيق إصلاحات مخالفة للديمقراطية قد أثارت أكبر وأطول احتجاجات شهدتها البلاد على الإطلاق. وقبيل الصيف الماضي أظهرت استطلاعات الرأي أن 45 في المئة من الشعب حسبوا أن البلاد على شفا حرب أهلية عنيفة.

مذ ذاك، أدت الهجمات، والقرار الحكومي اللاحق بشن حملة شاملة ومفتوحة على “حماس” إلى توحيد الإسرائيليين وراء الحرب. فأظهروا تأييداً كاسحاً للهدفين المتمثلين في إعادة الرهائن وإسقاط النظام الإرهابي في قطاع غزة. وعلى رغم ذلك، بالكاد تضاءل الاستقطاب: فاليوم، وفي ذروة القتال، تبلغ ثقة الإسرائيليين في الحكومة أدنى مستوياتها على الإطلاق. وبقي تأثير “الالتفاف حول العلم” مقتصراً على دعم قوات الدفاع الإسرائيلية، ومهمتها هزيمة “حماس”. فماذا يعني ذلك لإسرائيل، وما ينبئ به عن قدرتها على إرساء نظام مستقر بعد الحرب؟

في أعقاب السابع من أكتوبر، بدا من المسلم به أن لا شيء في إسرائيل سيعود إلى ما كان عليه. وعلى رغم استحالة التنبؤ بنتيجة الحرب وآثارها على المدى الطويل، لاحظ كثر أن التركيبة السياسية الإسرائيلية، والأسس الأمنية، ستخضع، على وجه شبه مؤكد، إلى تغييرات جذرية. ومن المحتم أن يترتب على الإخفاقات الاستخباراتية الكارثية التي سبقت الهجمات، تداعيات بعيدة المدى على المؤسسة الأمنية والدفاعية الإسرائيلية. فإسرائيل تحتاج إلى إعادة صياغة نهجها، برمته، تجاه الصراع الفلسطيني. وتكهن كثر بأن القيادة الحالية، برئاسة نتنياهو، ستضطر إلى التنحي في نهاية الحرب، ولكن نظراً إلى الاضطرابات الاجتماعية والسياسية التي شهدتها إسرائيل في الأشهر التي سبقت الحرب، قد لا تقتصر التغييرات المتوقعة على ذلك. فإقالة نتنياهو المحتملة تترتب عليها عواقب وخيمة، وتتناول أموراً كثيرة منها تلك التي كانت محورية في تحالفه مع الأحزاب الدينية في اليمين المتطرف. ومن الممكن أن توفر هذه الإقالة فرصة نادرة تجدد صورة عقد إسرائيل الجماعي. ويدرك معظم الإسرائيليين الآن أنهم محاطون من كل جانب بالتهديدات، وأن عليهم العمل متكاتفين من أجل تحقيق هدف موحد، والاعتراف المشترك بالتضحيات المطلوبة للدفاع عن بلادهم. فبعد أن أفلت الإسرائيليون، بشق النفس، من تهديد الحكم غير الليبرالي والاستبدادي، لن يقبلوا بالعودة للوضع السابق. وسوف يطالبون بضمانات صارمة تضمن استحالة انقلاب غالبية موقتة على الديمقراطية، وتكفل حقوق المواطنين الفردية من طريق الدستور.

من الانقسام إلى الكارثة

وثمة تطوران مختلفان حالا دون استعداد إسرائيل لكارثة السابع من أكتوبر. الأول، طبعاً، هو قراءة الحكومة الخاطئة والخطرة للوضع الأمني في البلاد. ففي بداية عام 2023، كان نتنياهو وشركاؤه في الائتلاف اليميني واثقين من أن إسرائيل تمكنت من احتواء “حماس”. وافترضوا أن مهمة حكم أكثر من مليوني نسمة من سكان غزة كبحت تطرف الحركة الإسلامية ووجهت مشاغلها نحو المسؤوليات اليومية العادية، وأبعدتها من إعداد الهجمات عبر الحدود. وفوق ذلك، اقتنعت المؤسسة العسكرية الإسرائيلية بأن محاولات “حماس” الهجوم، مصيرها الفشل بسبب الجدار الأمني والعالي التقنية الذي بلغت كلفته مليار دولار، وشيد في نهاية عام 2021 على طول خط هدنة عام 1949. وعلى هذا، اطمأن ضباط الجيش الإسرائيلي إلى إحساس زائف بأمن الوضع على طول حدود إسرائيل مع غزة. وأسهمت هذه المسلمات في ارتكاب الهفوات الأمنية المدمرة التي سهلت فتك هجمات “حماس” فتكاً ذريعاً.

وما لا يقل أهمية عن دور العامل الأمني، سياسة الإصلاح القضائي الذي حاول نتنياهو إجراءه بالقوة. وغالباً ما تفهم التغييرات التي اقترحها نتنياهو على أنها مجرد محاولة استيلاء على السلطة هدفها مساعدته على تجنب السجن بتهمة الفساد، ويحتمل أن تؤدي إلى تدهور أسس الديمقراطية في إسرائيل تدهوراً خطراً. وكان الإصلاح، وهو يمنح الائتلاف الحاكم حق نقض قرارات المحكمة العليا، ينهي فعلياً السلطة القضائية المستقلة في البلاد. وبدا الأمر، في نظر معظم الإسرائيليين وسيلة لضمان احتفاظ المستوطنين اليمينيين المتطرفين، والفئات الأصولية المتطرفة في البلاد، بامتياز ونفوذ استثنائيين. وعلى رغم أنهم لا يعدون أكثر من نحو 13 في المئة من جملة سكان إسرائيل، يحظى اليهود المتشددون بتمثيل بارز في الائتلاف الحاكم. ويثير قلق غالبية الإسرائيليين أن اليهود المتشددين يرفضون الخدمة في الجيش الإسرائيلي، والدخول في سوق العمل أسوة ببقية سكان البلاد وعلى قدم المساواة، وكان من شأن الإصلاحات القضائية أن تجيز لهم الاستمرار على تلقي معونات خاصة وحوافز اقتصادية، على رغم أن إسهامهم في الأمن القومي والاقتصاد الإسرائيلي قريب من الصفر.

وأثارت الإصلاحات القضائية، نظراً إلى الخشية عميقة من آثارها غير الديمقراطية، معارضة شعبية هائلة منذ البداية تقريباً. ففي شهر فبراير (شباط)، بعد أسابيع فحسب من طرح الخطط، عارض ثلثا الشعب الإسرائيلي، أي 66 في المئة، اقتراح بند يمنح الغالبية في البرلمان الحق في إلغاء أحكام المحكمة العليا. وعارضت نسبة مماثلة، أي 63 في المئة، تسييس اختيار القضاة، وهو العنصر الرئيس الآخر في خطة الحكومة. ومع قدوم شهر يونيو (حزيران)، وبعد أن أقال نتنياهو وزير الدفاع يوآف غالانت الذي حذر من أن الإصلاحات تضعف بشكل خطر استعداد الجيش الإسرائيلي، واضطر رئيس الوزراء إلى التراجع عنها، وسط احتجاجات عامة ضخمة، وبعد أن انقلب أنصار الليكود، حزب نتنياهو نفسه، عليها. وفي استطلاعات رأي أجريت في ذلك الوقت، أوضح أكثر من 60 في المئة من ناخبي الليكود أنهم يؤيدون حصراً الإصلاحات التي توقع عليها المعارضة أيضاً. وإلا فهم يفضلون صرف النظر عن عملية الإصلاح برمتها.

وأثار الإصلاح القضائي، مع حلول الصيف، استياءً واسع النطاق في صفوف الجيش. فهددت أعداد كبيرة من جنود الاحتياط برفض الالتحاق تطوعاً بالخدمة إذا واصلت الحكومة تنفيذ الخطة. وفي يوليو (تموز)، قالت رسالة احتجاج، وقعها أكثر من ألف جندي احتياط في سلاح الجو، إن “التشريع الذي يسمح للحكومة بالتصرف على نحو غير منطقي على الإطلاق، سيضر بأمن دولة إسرائيل، ويتسبب في فقدان الثقة في الدولة، وينتهك التزامنا الأخطارة بحياتنا”، بيد أن قادة إسرائيل تصوروا، على ما يبدو، أنهم قادرون على انتهاج السياسات المثيرة للخلاف والمغامرة، وإن أدى ذلك إلى انقسام الناخبين، وإضعاف الأمن القومي. وعلى مثال افتراضاتها في شأن “حماس”، تبين أن إصرار الحكومة على الاستهانة بالمعارضة الشعبية الساحقة لخططها القضائية، كان قراراً باطلاً ترتبت عليه تداعيات وخيمة.

تحمل العواقب

ومن المؤكد أن الإخفاقات السياسية والأمنية الكثيرة التي أسهمت في حصول السابع من أكتوبر تستدعي تداعيات بعيدة المدى. وسبق أن تحمل رئيس أركان جيش الدفاع الإسرائيلي، ورئيس مديرية الاستخبارات العسكرية، ومدير “الشاباك”، ووكالة الأمن الداخلي الإسرائيلية، المسؤولية عن الهفوات الأمنية التي حدثت في أثناء ولايتهم. ويبدو من المرجح أن يستقيلوا جميعاً فور انتهاء الحرب في غزة، بيد أن رئيس الوزراء نفسه ظل، إلى اليوم، صامتاً بصورة لافتة. وهو رفض تحمل المسؤولية عن الأخطاء التي وقعت في السابع من أكتوبر. وإذا تحدث عن استجابة الحكومة، وزن كلماته بحذر. وهذا قرينة على أنه يتوقع تشكيل لجنة رسمية تجري تحقيقاً في أخطاء ارتكبت، ويحاول التماس طريقة للبقاء في السلطة. إلا أنه من غير المعقول إن يتحمل رؤساء الأجهزة الأمنية الإسرائيلية جميعهم المسؤولية، غداة الحرب، بينما يعفى نتنياهو من الأمر.

وليس يسيراً أن نتصور رجلاً متمسكاً بالسلطة يقبل على الاستقالة بمحض إرادته، بعد توجيه عدة تهم جنائية له. وهذا يعني أن أحزاب المعارضة، في الكنيست، ستحتاج إلى أن ينضم إليها خمسة أعضاء في الأقل من الائتلاف الحالي، إما للتصويت على اختيار رئيس وزراء بديل، أو حكومة بديلة، أو للموافقة على تشريع يحل البرلمان ويجري انتخابات مبكرة. وعلى رغم أن كلا السيناريوهين غير مرجح اليوم، قد تعجل نهاية الحرب، وبناء على نتائجها وصورتها العامة، في نهاية نتنياهو السياسية.

ولا شك في ضوء استطلاعات الرأي، أن التأييد الذي يحظى به نتنياهو اليوم، تراجع تراجعاً حاداً. وغداة السابع من أكتوبر، انخفضت نسبة تأييد نتنياهو، وقيادة الجيش الإسرائيلي، رداً على الإخفاقات الأمنية. ولكن بعد الاعتراف بالمسؤولية، واتخاذ إجراءات حاسمة في ساحة المعركة، حصل القادة العسكريون على نسبة تأييد أعلى. وعلى خلاف ذلك، استمرت نسبة شعبية نتنياهو في الانخفاض، حتى بين الذين اقترعوا لائتلافه في الانتخابات التي جرت قبل عام. وعلى سبيل المثال، في استطلاع نشر في 31 أكتوبر، أعرب 10 في المئة من الذين عرفوا أنفسهم ناخبين يمينيين (وهم الداعمون الأساسيون لنتنياهو) عن ثقتهم في إدارة رئيس الوزراء الحرب، في حين قال 29 في المئة إنهم يثقون “في الإثنين [القادة العسكريين ونتنياهو] على حد واحد”، وصرح 20 في المئة أنهم لا يثقون في كليهما.

فعلى رغم أن الإسرائيليين أيدوا المجهود الحربي على نطاق واسع، يواجه رئيس الوزراء أدنى مستوى من التأييد الشعبي على الإطلاق. فمحض 22 في المئة فقط من اليهود الإسرائيليين ثقة عالية على أدائه في قيادة الحرب. وواحد من خمسة إسرائيليين يهود فقط يقول إنه يثق في حكومته، وهو أدنى معدل شهده معهدنا منذ أن بدأنا تقويم الثقة في المؤسسات قبل 20 عاماً. وتدل هذه النتائج الصارخة على أن نهاية الحرب قد ينجم عنها زخم تغيير غير عادي، ليس على مستوى قيادات البلاد وحدها، بل في طريقة حكم البلاد، والقضايا التي تشغل الناس، كذلك.

حماية الحقوق، وليس اليمين المتطرف

فما هو التحول الذي قد يحصل إذا خرج نتنياهو من المعادلة؟ أولاً، من المرجح أن يعاني حزب رئيس الوزراء، الليكود، وهو أصبح بالفعل في موقف ضعيف، على ما أظهرته استطلاعات الرأي، من انهيار كبير في شعبيته. ومن المرجح أن يواجه بعض شركائه في الائتلاف، من اليمين المتطرف، مصيراً مماثلاً. ويتقدم هذا، على سلم الأهمية، عدداً من القضايا التي غلبت على سعي نتنياهو إلى السلطة وتمسكه بها، مثل إصلاحه القضائي وإقراره سلطة النقض التي تتمتع بها الأحزاب اليهودية المتشددة، ستكون في صدارة المسائل التي تحرص القيادة الجديدة على معالجتها.

ولنأخذ، على سبيل المثال، الجهود الرامية إلى إضفاء الطابع الرسمي على إعفاء اليهود المتشددين من الخدمة العسكرية. وكانت المبادرة الرئيسة للأحزاب الدينية في ائتلاف نتنياهو، عبارة عن مشروع قانون شامل يضفي الشرعية على الواقع الحالي الذي يعفى بموجبه طلاب المدارس الدينية [ياشيفا] جميعاً من الخدمة العسكرية. ويعتبر مشروع القانون، عملياً، باطلاً، ولا يتمتع بأضعف فرصة نجاح. وبعد الخسائر الفادحة التي تكبدها جيش الدفاع الإسرائيلي في الحرب في غزة، ونظراً إلى عدم وجود يهودي متشدد واحد تقريباً في المقابر العسكرية التي تمتلئ بسرعة، من غير المرجح أن يقر الكنيست مثل هذا القانون.

وتخصص نسبة غير عادلة من موازنة الدولة للمدارس اليهودية المتشددة التي ترفض تدريس المناهج الأساسية، ولا تمكن خريجيها من دخول سوق العمل الحديثة. فليس مثل هذا السخاء مبرراً، سياسياً، في ظل اقتصاد من المتوقع أن يواجه صعاباً في مرحلة ما بعد الحرب، ثم هناك الإصلاح القضائي الذي لا يحظى بشعبية على الإطلاق. وسبق أن سحبت الخطة من التداول كشرط لتشكيل حكومة طوارئ في أثناء الحرب مع حزب الوحدة الوطنية بزعامة بيني غانتس. ومن الصعب تصور حكومة في المستقبل تسعى في إحياء تلك الخطة، ولكن الفرصة السانحة تتخطى مجرد رفض السياسات التي تعود بالنفع على شريحة ضيقة من اليمين المتطرف. فمنذ عام 2018، مرت إسرائيل باضطرابات سياسية ومجتمعية غير مسبوقة: أولها، أزمة انتخابية أدت إلى إجراء خمسة انتخابات في أقل من أربع سنوات، وأسفرت، في أواخر عام 2022، عن تشكيل الحكومة الأكثر يمينية في تاريخ إسرائيل. وثانيها أزمة مؤسسية، آثارها تحدي حكومة نتنياهو غير المسبوق استقلالية القضاء، في النصف الأول من عام 2023. وأخيراً، أسوأ هجوم على الأراضي الإسرائيلية في تاريخ البلاد، اندلعت في أعقابه الحرب الجارية. وبعد الخروج من الحوادث الصادمة هذه، تحتاج إسرائيل، عاجلاً، إلى توحيد مواطنيها، وتجديد أسس البلاد الديمقراطية. وإحدى الطرق التي يمكن استخدامها هي إنشاء عقد اجتماعي جديد يعتمد على سياسات حكومية تحظى بتأييد واسع وقادرة على إرساء قاعدة مشتركة بين الفئات اليهودية المتنوعة في إسرائيل، وعلى حماية حقوق الأقليات في البلاد.

وفي وسع الحكومة المقبلة، مثلاً، أن تطوي إلقاء عبء الدفاع عن البلاد، والموت في سبيلها، على عاتق بعض الإسرائيليين دون سواهم. وهذا يعني عدداً أقل بكثير من الإعفاءات من الخدمة العسكرية، والسماح لمزيد من النساء بأن يتبوآ مراكز قتالية مهمة (وهو اتجاه بدأ بالفعل)، ومنح حوافز اقتصادية لأولئك الذين يخدمون في المناصب العسكرية الرئيسة، والتزام جميع أفراد المجتمع المشاركة في شكل من أشكال الخدمة الوطنية الهادفة. وعلى المستوى الاقتصادي لا يفترض في الذين يرفضون الإسهام المثمر في الاقتصاد أن يتنعموا بعد اليوم بفوائد اجتماعية غير محدودة تسددها ضرائب الإسرائيليين العاملين أو المؤدين خدمتهم العسكرية الوطنية.

وعلى قدر واحد من الأهمية، ستحتاج البلاد إلى العمل من أجل إنجاز إطار دستوري جديد. وفي عهد تأسيس إسرائيل، دعا “إعلان قيام دولة إسرائيل” في عام 1948 إلى وضع دستور مكتوب. وظلت الخلافات الجوهرية على أهم خصائص الدولة تمنع طوال عقود، إنجاز هذا الهدف. لذا، وبعد 75 عاماً، لا تفتقر إسرائيل إلى دستور رسمي فحسب، بل تعاني نقص الضوابط والرقابة على حكومتها: فلا يوجد ميثاق للحقوق، ولا فيتو رئاسياً، ولا مجلس ثانياً للبرلمان، ولا توزيع فيدرالياً للسلطات. وطوال عقود، راقبت المحكمة العليا الإسرائيلية وحدها، بصورة موثوقة، السلطة غير المحدودة التي قد تمارسها الجهة التي يصادف أن تتمتع بغالبية موقتة في البرلمان. وعلى مر السنين، أقر الكنيست بعض القوانين الأساسية التي شرعت عدداً من الحقوق التي اعترفت بها المحكمة العليا واعتبرتها دستوراً قيد الإعداد، ولكن حوادث العام الماضي أثبتت أن هذه التدابير غير كافية على الإطلاق في سبيل مواجهة حكومة عازمة على إقرار تدابير لا يستفيد منها سوى مؤيديها.

والحق أن الإسرائيليين يتفقون عموماً على ضرورة تعريف قواعد الحياة السياسية من جديد، وتوسيع إطارها الدستوري. وكان، قبل الحرب، ما يقارب 70 في المئة من الشعب يؤيدون دستوراً يتماشى مع روح “إعلان قيام دولة إسرائيل”، وضمانه ديمقراطية “تقوم على الحرية والعدالة والسلام كما تصورها أنبياء إسرائيل”، ويكفل، في الوقت نفسه “المساواة الكاملة في الحقوق الاجتماعية والسياسية بين جميع سكانها، بغض النظر عن الدين أو العرق أو الجنس”. ومثل هذا الإطار الدستوري مهم في أي ديمقراطية، ولكنه حيوي على نحو خاص في بلد يسعى إلى الحفاظ على هويته اليهودية، والدفاع عن نفسه من أعداء كثر، من غير التضحية بالمبادئ الديمقراطية الأساسية.

وأوضح الإسرائيليون، من انتماءات سياسية متفرقة، أنه يتعين على حكومات البلاد ألا تمضي، بعد الآن، في سياسات حزبية ضيقة قد تهدد النسيج الأساس للبلاد. وتظهر استطلاعات الرأي العام كلها تقريباً، منذ بداية الحرب، أن الإسرائيليين يميلون نحو أحزاب الوسط، والزعماء الذين يشددون على الوحدة الوطنية، بعيداً من الساسة من كلا الطرفين [اليمين واليسار]. وما حدث في الأشهر التي سبقت الحرب كان في مثابة إلهاء متهور لبلد كان يواجه، بالفعل، تهديدات خارجية أكثر من أية ديمقراطية أخرى في العالم، وتحول ديموغرافي أدى إلى تقليص الشريحة المجتمعية التي تتحمل أعباء اقتصادية وأمنية لم يسبق لها مثيل.

إعادة تعريف مفهوم الديمقراطية

وفي مواجهة واحدة هي من أعظم التجارب وأصعب التحديات في تاريخ البلاد، تمتحن الإسرائيليين مجموعة فرص حاسمة. فإعادة بناء الديمقراطية الإسرائيلية، وتعزيزها، عملية طويلة وصعبة. وإذا برزت قيادة جديدة بعد الحرب، قادرة على البدء في إصلاح تصدعات وحدة البلاد، أمكن أن تتحول الكارثة التي بدأت في السابع من أكتوبر إلى منعطف يحمل الإسرائيليين على تصحيح الخطأ الذي ارتكبه مؤسسو إسرائيل في عام 1948 عندما اختاروا تجنب الأسئلة الخطرة، المتعلقة بطابع دولة إسرائيل.

وقد تجمع القيادة الإسرائيليين على مشروع تجديد وطني عريض يتضمن عقداً اجتماعياً جديداً يحترمه المجتمع كله. ومن شأن هذا أن يتيح لإسرائيل إعادة بناء دفاعاتها التي تضررت ضرراً كبيراً في هذه الحرب، وتمهيد الطريق إلى ازدهار اقتصادي أوسع وأطول ديمومة. ومن خلال تكريس هذا العقد الاجتماعي الجديد في وثيقة دستورية طال انتظارها، يستطيع الإسرائيليون حماية البلاد من تهديدات المستقبل المحدقة بنسيجها الديمقراطي.

وستواجه مثل هذه الخطوات، طبعاً، عقبات كبيرة، بدءاً من كسب ثقة الشعب، وإشراك المواطنين في اقتراع يعبرون فيه عن تأييدهم القيادة الجديدة. وسيكون من الصعب إقناع نتنياهو بالموافقة على الأمر. وعلى رغم أنه يواجه لائحة اتهام، ولا يحظى بشعبية كبيرة، فرئيس الوزراء، في الوقت نفسه اللاعب السياسي الأكثر دهاء في العالم الغربي. وقد تولى قيادة إسرائيل مدة 13 عاماً من الأعوام الـ14 الماضية، وهو لن يترك الساحة طوعاً. وإلى ذلك، ثمة قوى سياسية فاعلة أخرى في ائتلافه قد تخسر كثيراً إذا أجريت تغييرات من هذا النوع، لذا فهي ستقاوم تلك التعديلات بشراسة. ويتوقف النجاح في هذا المسعى على تجاوز الفصائل المختلفة، في المجموعة الواسعة من الأحزاب الإسرائيلية، لاختلافاتها الصارخة في بعض الأحيان، وتوحيد صفوفها من أجل مصلحة البلاد العامة، في وقت تشهد فيه أزمة وطنية.

وفي ضوء تعاظم التهديدات التي تتعرض لها إسرائيل، سواء من الأعداء في الخارج أو من القوى المناهضة للديمقراطية في الداخل، يتعاظم خطر الامتناع من العمل. فمن طريق صوغ نظام دستوري جديد، تحظى إسرائيل بفرصة نادرة تمكنها من بلوغ أحد أهم الأهداف التي تصورها مؤسسوها، ولم يتحقق بعد. فإذا تمكن الإسرائيليون من بلوغ هذا الهدف السامي، في أعقاب أسوأ كارثة وطنية منذ المحرقة، وسعهم إذ ذاك تحويل مأساة السابع من أكتوبر الأليمة إلى فرصة تاريخية، ليس دفاعاً عن الدولة اليهودية فحسب، بل ضمان مستقبلها الديمقراطي إلى أجيال قادمة.

*يوهانان بليسنر هو رئيس المعهد الإسرائيلي للديمقراطية في القدس. شغل منصب عضو في الكنيست من عام 2007 إلى عام 2013.

مترجم من فورين أفيرز، 19 ديسمبر (كانون الأول) 2023

المصدر: اندبندنت عربية

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. قراءة موضوعية لوضع المجتمع الصهيوني في دويلتهم والصراعات السياسية والاجتماعية والانقسام الذي كان يعاني منه المجتمع الصهيوني قبل 7 أكتوبر والذي زادت حدته بعد طوفان الأقصى حول الديمقراطية وقرارات الحرب والسلم وحماية “الوطن” ليكون مشروع تجديد وطني عريض يتضمن عقداً اجتماعياً جديداً يحترمه المجتمع كله.

زر الذهاب إلى الأعلى