لا جديد في القول: لم تكن تداعيات المواجهة الدامية بين جماعة الإخوان المسلمين ونظام الأسد في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، محصورة بين الطرفين المتقاتلين فحسب، بل طالت تلك التداعيات المجتمع السوري برمته، ذلك أن ردّة الفعل الأسديّة المتوحشة – آنذاك – طالت جميع القوى السياسية المناهضة للنظام، وإنْ بدرجات متفاوتة من العنف، بل لعلّه يصحّ القول: إن تلك المواجهة الدامية أتاحت الذرائع التي كان يراها حافظ الأسد كافية لترجمة نهجه الاستبدادي الإقصائي ترجمة عملية، بل لعلها كانت فرصة لإفهام السوريين جميعاً بأن سورية قد دخلت طوراً جديداً يختلف كل الاختلاف عن الأطوار السابقة، أمّا نهايات الطور الجديد فما نزال نعيش تداعياتها الراهنة.
ثمة عامل آخر، كان له شديد الأثر في إحماء السطوة الأمنية لنظام الأسد آنذاك، كما كان محفّزاً للنظام على المزيد من إعلاء وتيرة التصعيد والإيغال في العنف، وأعني بذلك اندلاع الحرب العراقية الإيرانية في أيلول 1980 ، وانحياز حافظ الأسد انحيازاً مطلقاً إلى جانب إيران، ومن ثم اشتعال الحرب الإعلامية بين نظامي سورية والعراق، واتهام الأسد للعراق بإيواء جماعة الإخوان المسلمين، وبذلك تكون العلاقة بين سلطتي البلدين انتقلت من طور الخلافات التقليدية والحساسيات المؤقتة، إلى طور العداء المطلق. ما هو جدير بالذكر أن حافظ الأسد – آنذاك – كان شديد الحاجة إلى أي طرف خارجي ذي صلة بما يجري في سورية، لإشراكه في المؤامرة التي لا شيء سواها يقف وراء تحرّك خصومه أيّاً كانوا، فالإخوان المسلمون هم صنيعة بريطانية أمريكية، ومناهضتهم للنظام إنما تجسّد المسعى الإسرائيلي الأمريكي للنيل من صمود سورية وفقاً لإعلام النظام، ولم يكن نظام صدام حسين بعيداً عن هذا التصنيف، إذ لم تكن حربه المجنونة على الثورة الإسلامية في إيران، إلّا لأن الخميني رفع شعار تحرير القدس، ومناهضة الصهيونية والإمبريالية وفقاً لإعلام الأسد.
وبقدر ما كانت نظرية المؤامرة سنداً ضرورياً للأسد في مواجهته مع خصومه، فإنه من المهم جداً أن تكتمل عناصر تلك المؤامرة، ليكون وجودها ( الافتراضي) مقنعاً، على الأقل في نظر مواليه وحاضنته الحزبية، وبالتالي فإن ثمة خصماً مركزياً للأسد يتجسّد بأمريكا وإسرائيل، وليس الإخوان المسلمون والعراق وكل ما ناهض النظام، حتى بعض القوى اليسارية والشيوعية، سوى أذرع للخصم المركزي الذي يهدف إلى النيل من صمود الأسد وإخلاصه لقضايا الأمة، ومن اجل تعزيز تصوّر حسّي اكثر لحضور أركان المؤامرة وفاعليتها، لجأت السلطات الأمنية – آنذاك – إلى إظهار عدد من المعتقلين السوريين على وسائل إعلام النظام، وإجبارهم على تلاوة اعترافات تؤكّد سرديّة المؤامرة التي أعلن عنها النظام، ولعلّه من الطبيعي أن يكون التركيز الإعلامي على صنفين من المعتقلين، الإخوان المسلمين وبعث العراق، باعتبارهما يمثلان مصدريْ الخطورة الرئيسيين، وربما تكون جميع هذه الممارسات منسجمة مع التوجّه الأمني للنظام، بل هي من صميم العمل المخابراتي الذي يتقوّم في جزء كبير منه – في تلك المرحلة – على إحكام صياغة المسرحيات الأمنية لتكون رافداً معزّزاً لخطاب النظام السياسي، ولكنّ اللافت في هذا الشأن، بل ما كان يدعو إلى الدهشة في ذلك الوقت، أن السلطات الأمنية بادرت إلى اعتقال عدد من البعثيين القدامى، ممن لم يعلنوا ولاءهم لانقلاب حافظ الأسد عام 1970 ، وكانت مناهضتهم لنظام الأسد قائمة على أساس انحيازهم للقيادة القومية للحزب، فضلاً عن كونها سابقة لمجيء صدام حسين إلى السلطة، ومع ذلك لم ينج بعض هؤلاء من إجباره على الظهور في مسرحية إعلامية يزعم فيها بأن المخابرات العراقية أوكلت إليه نقل السلاح والمتفجرات إلى سورية بغية القيام بأعمال إجرامية تستهدف مؤسسات الدولة والمواطنين، من هؤلاء المعتقل عبد الكريم المروّح .
ظهر عبد الكريم في سجن تدمر عام 1983 ، في الباحة الرابعة، في المهجع رقم 17 ، وخلال إحدى ورشات التعذيب الجماعي ( التنفّس)، لمحه أحد الرقباء في الشرطة العسكرية، ويبدو أن الرقيب هو أحد الذين شاهدوا عبد الكريم وهو يدلو بما أُملي عليه على شاشة التلفزيون، فسأله عما إذا كان هو ذاته، فلم يستطع عبد الكريم الإنكار، وفي تلك اللحظة نادى الرقيب بقية أفراد الشرطة الذين كانوا منهمكين بجلد السجناء بالهراوات والكرابيج، إذ أمرهم بأن يتوقفوا عن ضرب السجناء الآخرين الجاثين على ركبهم ومنكسي رؤوسهم إلى الأسفل، وأشار إليهم بأن يتحلّقوا جميعاً حول عبد الكريم، بعد أن عرّوه من ثيابه، و تحوّل إلى كرةٍ بين أقدامهم، وبات ظهره وسائر جسده أشبه ما يكون بأخاديد سوداء وحمراء نازفة، ولم يعد يقوى على إطلاق آهات الوجع، حينها أمر الرقيب بسحل عبد الكريم ورمْيِ جسده على باب المهجع بشكل معترض، كما امر بقية السجناء بالدخول إلى المهجع واحداً واحداً، وبهدوء، على غير المعتاد، طالباً منهم في الوقت ذاته، ألّا يضع احدهم خطوته على عتبة باب المهجع، قبل ان يبصق على عبد الكريم ثم يدوسه بقدمه.
في لحظات كهذه، في سجن تدمر على وجه التحديد، لا وقت للتفكير مطلقاً، إذ ليس لدى السجين سوى خيارين إثنين، التنفيذ الفوري للأوامر مهما كانت طبيعتها، أو عدم التنفيذ، وهو ما لم يحصل سوى في أحداث معدودة جدّاً وكانت نهايتها مأسوية، علماً أن مجرّد التلكؤ بتنفيذ الأوامر يُعدّ امتناعاً عن التنفيذ، وفي حالة كهذه تصبح استجابة السجين اللاشعورية لتنفيذ الأوامر متماهية تماماً مع حرصه وتمسّكه بالبقاء حياً، وسوى ذلك ليس إلّا انتحاراً.
الذين امتنعوا عن تنفيذ الأوامر في ذلك اليوم المشهود، ولم يبصقا ويدوسا على جسد عبد الكريم هما إثنان: خالد عقلة السليمان، وفهيم مريم، اللذين نالهما ما نال عبد الكريم من التعذيب، وربما أكثر، إلّا أن الثلاثة ( عبد الكريم وخالد وفهيم) لم يموتوا في ذلك المشهد، وظلوا جميعهم أحياء، إذ اقتضت أقدارهم ألّا تكون نهاياتهم متشابهة، أمّا عبد الكريم المروّح فقد صدر بحقه حكم بالإعدام عام 1984 ، ونُفِّذ حكم الإعدام شنقاً عام 1989 ، فيما نجا شقيقه ( عبد الجبار المروّح وهو مهندس بترول) من حكم الإعدام.
أما فهيم مريم، وهو أحد قادة تنظيم البعث في حمص، من الطائفة العلوية، فقد استطاع أهله وأقاربه التوسّط له لدى كبار المسؤولين في السلطة، وبناء على هذه الوساطة ، جاءت التعليمات إلى اللواء سليمان الخطيب ( رئيس المحكمة الميدانية) بإيجاد الذرائع الكافية لتبرئته، تمهيداً لإخلاء سبيله، وبالفعل كان سليمان الخطيب لطيفاً معه أثناء المحاكمة، قياساً لمحاكمة الآخرين، وأبدى لفهيم مريم إشارات واضحة توحي له أن ينكر ما نُسب إليه من اعترافات سابقة، وأن يبدي تبرأه من موقفه وعدائه للسلطة، ولكن فهيم كان له رأي آخر، إذ كان شديد الثقة بنفسه إلى درجة التورّم، وربّما دفعته هذه الثقة الزائدة بالنفس إلى الاعتقاد بأن سليمان الخطيب هو شخص وضيع جداً أمام صلابة موقف فهيم وإيمانه بسلامة معتقده وآرائه، بل ربما اعتقد أن سليمان الخطيب لن يقوى على إصدار حكم الإعدام بحق فهيم مهما تفاقمت الأمور، ما جعله يصرخ بوجه رئيس المحكمة، موجّها له ردّاً صاعقاً لا أحد يتوقع صدوره من سجين تدمري، عندها انتفض سليمان الخطيب صارخاً: ولكْ بحضّي رح أعدمك لو مو تكون علوي وموَصّى فيك، رح أعدمك لو تكون ابن الله. وبالفعل أعدم فهيم بن يوسف مريم تولد 1936 في سجن تدمر في شهر تشرين أول من عام 1983 .
أما خالد عقلة السليمان، أبن قرية (خيارة) في الريف الشرقي لمعرة النعمان، فقد كان محكوما بالسجن المؤبد، اعتقلَ عام 1977 ، وأخلي سبيله عام 2004 بسبب مرضه وتقدمه في العمر، أمضى في السجن ( 27 ) سنة، عشرون منهن في سجن تدمر، ومازال حيّاً حتى الآن، يقيم مع أسرته في خيمة على أطراف بلدة عفرين، بسبب نزوحه من قريته التي تعرّضت – كبقية بلدات وقرى ريف إدلب الجنوبي – لاجتياح قوات الأسد، في شهر كانون أول من العام الجاري.
المصدر: تلفزيون سوريا