لطالما شهدت الأحداث التاريخية سجلاً حافلاً بالإرهاب المروع والمأسوي، بيد أن الهجوم الذي نفذته “حماس” في إسرائيل في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) يعتبر بارزاً بشكل خاص، إذ إن مقاتلي “حماس” سلبوا بطريقة وحشية حياة أكثر من 1300 مواطن إسرائيلي، بمن فيهم كبار السن والأطفال الصغار والرضع. لقد كان عملاً همجياً قاسياً وعديم الإنسانية أزال النقاب عن غياب في الانضباط الأخلاقي وأثار ذكريات محرقة الهولوكوست اليهودية.
إن أية مقارنة مع هجوم آخر لم تتوقعه إسرائيل، مثل الهجوم العربي الذي أشعل حرب يوم الغفران (حرب تشرين) عام 1973، تعد مقارنة مضللة وخادعة في ما يتعلق بأحد الجوانب المهمة، وهو أن الإسرائيليين المقتولين حينذاك الذين بلغ عددهم 2656 كانوا كلهم جنوداً، ولكي نجد خسائر مماثلة في صفوف المدنيين الإسرائيليين، علينا العودة لحرب الاستقلال عام 1948. واستطراداً، تضمن الهجوم احتجاز عدد كبير من الرهائن، فتعرض ما يقرب من 150 شخصاً للأسر ونقلوا إلى غزة (كان معظمهم من الإسرائيليين، ولكن من بينهم أيضاً بعض الأميركيين وغيرهم من الرعايا الأجانب)، وتعهد أحد قادة “حماس” بأن الحركة ستنشر تسجيلات فيديو تظهر عمليات إعدام الرهائن إذا شنت إسرائيل هجوماً مضاداً.
لا شيء يبرر مثل هذه السادية، ولا يمكن استخدام الظلم المتكرر والقمع كحجة لارتكاب أعمال وحشية. في الواقع، إن غضب الإسرائيليين ورغبتهم في الانتقام أمر طبيعي ومفهوم، ويتمثل هدف إسرائيل، وفقاً لوزير الدفاع يوآف غالانت، في محو “حماس” من “فوق وجه الأرض”. بطريقة موازية، دعا المتحدث باسم وزارة الخارجية الإسرائيلية، إيمانويل نحشون، إلى “إلحاق هزيمة ساحقة وقاطعة بالعدو، مهما كان الثمن”.
ولكن كما يقول المثل، “الأمل ليس استراتيجية”، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الغضب. يعتبر تدمير قوات العدو القتالية مبدأ أساسياً في الاستراتيجية العسكرية، لكن الانخراط في قتل عشوائي دونما أي رادع يذكر، يجعل الانتقام يعمي المنطق. وعوضاً عن الاكتفاء بالرد، يتعين على إسرائيل أن تتخذ خيارات استراتيجية وسياسية صعبة، ليس لأنها ضعيفة بل لأنها قوية. وكما تعلمت الولايات المتحدة بعد هجمات الـ11 من سبتمبر عام 2001، فإن الطريقة التي ترد فيها الحكومة على هجوم إرهابي كبير يمكن أن تحدد مسار البلاد لعقود من الزمن. وعلى رغم أن هذا الهجوم كان مروعاً للغاية، إلا أنه لم يكن غير مسبوق. في عام 2008، شنت جماعة “عسكر الطيبة” المتطرفة، التي تتخذ من باكستان مقراً لها، هجوماً على مومباي جاء أيضاً من البر والبحر، وتضمن هجمات مسلحة ضد أهداف سهلة، وقتل عدداً كبيراً من المدنيين (لا يوازي عدد الضحايا الذين قتلوا في هجوم “حماس”). ويمكن للمسؤولين الإسرائيليين، حتى في وقت يشعرون فيه بالألم ويعربون عن حزن شديد، أن يتعلموا دروساً مما فعلته حكومات أخرى في أعقاب هجمات إرهابية ضخمة.
في الواقع، يشكل الإرهاب تحدياً هائلاً بالنسبة إلى الديمقراطيات لأنه يسرع الحرب. ويتعين على القادة المنتخبين أن يستعيدوا السيطرة على الوضع وأن يستبدلوا الخوف بالعزم. من الصعب التفكير بطريقة استراتيجية غير عاطفية في أعقاب الهجمات الإرهابية، ولكنه السبيل الوحيد للقضاء على جماعة معينة، وهو ما تقول إسرائيل إنها تريد فعله. وفي ذلك الإطار، يحمل تاريخ مكافحة الإرهاب الحديث درساً واضحاً، وهو أنه لا يمكن لدولة أن تسحق منظمة إرهابية ما بشكل دائم وأن تتجنب صراعاً أوسع، إلا من خلال استهداف تلك المنظمة بصرامة. ولهذا السبب، فإضافة إلى استخدام قواعد اللعبة التقليدية المتمثلة في الضربات الجوية، واستهداف القادة، ونشر القوات، يتعين على إسرائيل أن تحمي المدنيين الأبرياء، بمن في ذلك الرهائن الإسرائيليون. وهذه ليست مجرد مسألة أخلاقية وقانونية، بل هي ضرورة استراتيجية. إذا نفذت إسرائيل هذه الحملة على نحو يستهدف سكان غزة كافة، فإنها بذلك تخاطر بالفشل الذريع.
هل تتبع “حماس” استراتيجية معينة؟
هدف “حماس” الأساسي هو القضاء على إسرائيل. لكن “حماس” لا تملك الوسائل اللازمة لتحقيق زوال إسرائيل بشكل مباشر، والاعتقاد بخلاف ذلك سيكون وهماً، فإسرائيل قوية عسكرياً وتحظى بدعم الولايات المتحدة. إذاً، ما النتيجة التي اعتقدت “حماس” أنها ستحققها من سفك الدماء هذا؟
تتبنى جميع الجماعات الإرهابية استراتيجية واحدة في الأقل (وأحياناً اثنتين) من الاستراتيجيات الآتية: الإكراه، والاستقطاب، والاستفزاز، والتعبئة. قد يشير التفسير السطحي لهجوم السابع من أكتوبر إلى أن “حماس” سعت إلى إكراه إسرائيل على تغيير سلوكها من خلال إلحاق الأذى بها، مثلما فعل “حزب الله” عام 1983 بهجماته على أفراد ومدنيين أميركيين وفرنسيين في بيروت، مما دفع واشنطن وباريس إلى سحب قواتهما من لبنان. بيد أن الإكراه لا يتناسب مع سياق الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني اليوم. في الواقع، سحبت إسرائيل قواتها من غزة عام 2005، ولن يتمكن أي تغيير في السياسة الإسرائيلية من أن يسهم في تحقيق هدف “حماس” في الأمد البعيد. علاوة على ذلك، لو كان هدف “حماس” الوحيد هو قتل الإسرائيليين، لما صور مقاتلوها عملياتهم ولا احتجزوا الرهائن، وهي أفعال تظهر حقيقة أن الهجوم على إسرائيل كان يستهدف جماهير غير الإسرائيليين، وبالتالي كان يعزز ويخدم غرضاً استراتيجياً غير الإكراه.
واستكمالاً، كثيراً ما تحاول الجماعات الإرهابية خلق حال من الاستقطاب في الأنظمة السياسية التي تستهدفها، فتنفذ هجمات من شأنها أن تؤلب جزءاً من المجتمع على جزء آخر، على أمل أن تتفكك الدولة من الداخل. ومن بين الأمثلة على ذلك، الفظائع التي ارتكبتها “الجماعة الإسلامية المسلحة” في أواخر التسعينيات من القرن الماضي ضد قرى جزائرية بأكملها مليئة بالمدنيين الذين رفضوا مبادئها المتطرفة، والهجمات الانتحارية التي شنها تنظيم “القاعدة” في العراق على معاقل الشيعة وضد السنة المعتدلين في الفترة الممتدة بين عامي 2004 و2006. لكن المجتمع الإسرائيلي كان يعاني بالفعل انقساماً سياسياً شديد قبل هجوم “حماس” الذي أدى، في الأقل جزئياً، إلى جعل الإسرائيليين يداً واحدة. لم تكن “حماس” بحاجة إلى استقطاب المجتمع الإسرائيلي إذ إن الإسرائيليين سبق أن أنجزوا تلك الخطوة بأنفسهم في السنوات الأخيرة.
إذاً، ما كانت “حماس” تحاول فعله، بدلاً من ذلك، هو الاستفزاز والتعبئة. في الحقيقة، يحاول الإرهابيون في كثير من الأحيان استفزاز الدول ودفعها إلى ردود فعل مبالغ فيها تؤدي إلى نتائج عكسية. استخدمت جماعة “نارودنايا فوليا” (وتعني الإرادة الشعبية) الروسية في القرن الـ19 الاستفزاز بفعالية من أجل تقويض النظام القيصري، من خلال قتل القيصر ألكسندر الثاني، مما أثار رد فعل وحشياً من الدولة. كذلك، أسهم مقتل القيصر في إنهاء “نارودنايا فوليا” نفسها، لكن النظام لم يتمكن من إصلاح نفسه، وبعد 30 عاماً أطاحت به الثورة الروسية. والجدير بالذكر أن مجموعات أخرى عديدة حذت حذو “نارودنايا فوليا”، وأبرزها “اليد السوداء”، الجماعة القومية الصربية التي أشعلت فتيل الحرب العالمية الأولى باغتيالها الأرشيدوق النمسوي المجري فرانتز فرديناند عام 1914.
في الحالة الراهنة، تأمل “حماس” على الأرجح أن يؤدي رد الفعل الإسرائيلي المبالغ فيه إلى قلب المعادلة وإلغاء الزخم الدبلوماسي نحو “التطبيع” في الشرق الأوسط، إذ بدأ عدد من دول الخليج العربي في التحالف مع إسرائيل حتى في غياب أي تنازلات إسرائيلية للفلسطينيين. وقد يؤدي رد الفعل الإسرائيلي المبالغ فيه أيضاً إلى زيادة فرص انضمام “حزب الله” ورعاته في إيران إلى المعركة.
وفي الوقت نفسه، تسعى استراتيجيات التعبئة إلى لفت الانتباه وجذب المجندين وجمع الحلفاء من أجل القضية التي تتبناها جماعة إرهابية. إن تنظيم الدولة الإسلامية، المعروف باسم “داعش”، فعل ذلك في عام 2014، حين نفذ بعض المهمات الحكومية الأساسية في أجزاء من العراق وسوريا كان احتلها لكي يعطي انطباعاً بأنه فرض النظام، ونشر مقاطع فيديو مصورة تظهر عناصره يقطعون رؤوس الرهائن بوحشية لخلق صورة من القسوة المرعبة التي لا هوادة فيها. ويبدو أن “حماس” تأخذ صفحة من كتاب قواعد اللعبة الخاص بـ”داعش”، إذ إنها هددت بقتل رهينة في كل مرة تستهدف فيها إسرائيل “الأشخاص الذين يجلسون بأمان في بيوتهم من دون سابق إنذار”، على حد تعبير أبو عبيدة، المتحدث باسم الجناح العسكري لحركة “حماس”، كتائب القسام. وأضاف عبيدة أيضاً أن الجماعة ستقوم ببث عمليات الإعدام، على الأرجح عبر وسائل التواصل الاجتماعي. ربما يحسب قادة “حماس” أن مثل هذه المشاهد العنيفة قد تجذب مزيداً من الاهتمام لقضيتهم وتحشد الدعم، ليس بين الفلسطينيين فحسب بل أيضاً بين المتعاطفين والمتطرفين المعادين للسامية في جميع أنحاء المنطقة وفي جميع أنحاء العالم. وفي الأمد البعيد فإن استغلال أحط الغرائز الإنسانية من خلال مشاهد التسلط والانتقام من شأنه أن يؤدي إلى ردود فعل عالمية عنيفة ويدمر “حماس”. ولكن على غرار تنظيم “داعش” من قبلها، قد تعتقد حركة “حماس” أن مثل هذه التكتيكات ستدعمها على المدى القصير.
عودة المقموعين
في مواجهة خصم يعتمد على الاستفزاز والتعبئة، تحظى إسرائيل بعدد محدود من الخيارات الاستراتيجية. ويبدو أنها اختارت القمع، وهو أسلوب قديم ومعروف ولكنه نادراً ما كان ناجحاً في مكافحة الإرهاب.
من الممكن أن يتمكن الرد العسكري الساحق من قمع جماعة إرهابية. عام 2009، سحق الجيش السريلانكي حركة “نمور تحرير تاميل إيلام”، وهي جماعة انفصالية عرقية تضم ما بين 10 آلاف إلى 15 ألف عضو، مما أسفر عن مقتل ما يصل إلى 40 ألف مدني، وفق تقديرات الأمم المتحدة. وتحولت تلك النوبة الجنونية من التطهير العرقي والقتل خارج إطار القانون إلى حرب أهلية مروعة، مما أدى إلى وقوع مدنيي التاميل [المدنيين المنتمين إلى عرقية التاميل] في دائرة أعمال العنف، ولا يزال كثيرون منهم نازحين داخلياً، ومصير آلاف الضحايا مجهولاً. في تسعينيات القرن الـ20، استخدمت حكومة البيرو القوة العسكرية العشوائية لإلحاق الهزيمة بجماعة “الدرب الساطع”، وهي جماعة إرهابية ثورية ماوية. ولكن الديمقراطية في بيرو عانت، إذ قام الرئيس ألبرتو فوجيموري بحل كل من السلطة التشريعية والنظام القضائي، وبدأ سلسلة من الإجراءات التي أضفت طابعاً مؤسسياً وروتينياً على السياسات المتطرفة، مما أدى في النهاية إلى سقوطه. (في حين بقي حزب “سيندرو لومينوسو” [الدرب الساطع] موجوداً كحزب سياسي).
وبالاسترجاع، كان القمع أيضاً هو الاستراتيجية المفضلة لدى روسيا في مكافحة الإرهاب. في عام 1999، عندما ألقت السلطات اللوم في سلسلة من التفجيرات في موسكو وفولغودونسك على الإرهابيين الشيشان، تعهد الرئيس فلاديمير بوتين “بقتل كل الإرهابيين الشيشان حتى في المراحيض” واستخدم الأزمة لتعزيز سلطته، وشن حملة شرسة دمرت مدينة غروزني الشيشانية، وأسفرت عن مقتل ما لا يقل عن 25 ألف مدني، وشردت مئات الآلاف منهم. نتيجة لذلك، تناقص الإرهاب الشيشاني بشكل كبير ولكن لم يستأصل كلياً، ففي عام 2002، احتجز الإرهابيون الشيشان 912 رهينة في مسرح موسكو (فارق 175 شخصاً منهم الحياة في النهاية)، وبعد عامين قتل 344 شخصاً، أغلبهم من الأطفال، في مدرسة ابتدائية في جمهورية أوسيتيا الشمالية الروسية.
إذاً، فالقمع هو رد فعل طبيعي على الإرهاب، ولجأت البلدان في جميع أنحاء العالم إلى وسائل قمعية قبل أن تتعلم في نهاية المطاف استراتيجيات أكثر فعالية. وفي الواقع، فإن استخدام القمع، باعتباره شكلاً من أشكال مكافحة الإرهاب، يمثل تحدياً كبيراً بالنسبة إلى الدول الديمقراطية، ولا ينجح عادة في القضاء تماماً على الجهة التي تستهدفها تلك الدول. واستطراداً، يؤدي القمع إلى تكبد خسائر وتكاليف باهظة في الأموال والأرواح والحقوق الفردية، ويعمل بشكل أفضل في الأماكن حيث يمكن فصل أعضاء الجماعات الإرهابية عن عامة الناس. وتجدر الإشارة إلى أن استخدام القوة الساحقة يميل إلى جعل الخطر يتفشى وينتقل إلى المنطقة المجاورة. لذا، عندما يتحدث مسؤولو الحكومة الإسرائيلية عن تدمير “حماس” “بأي ثمن”، فهذا يثير تساؤلات حول ما إذا كان كل ما يفكرون به هو التكاليف المؤكدة التي ستتحملها “حماس” والمدنيون في غزة والرهائن والفلسطينيون في الضفة الغربية والعرب الإسرائيليون، أم أنهم يأخذون في الحسبان أيضاً التكاليف المحتملة على المدى الطويل بالنسبة إلى الاستقرار الإقليمي، والديمقراطية الإسرائيلية، والإسرائيليين اليهود.
والجدير بالذكر أن القمع ينجح في ظل ظروف معينة، بيد أن الوضع في غزة لا يتوافق مع تلك الظروف. سيكون من المستحيل قتل قادة “حماس” ومقاتليها من دون التسبب في مقتل أعداد كبيرة من المدنيين، وتشريد مئات الآلاف، والتسبب في البؤس والتعاسة لكل سكان غزة. هذه النتائج واضحة بالفعل. لقد قتل نحو 1900 من سكان غزة حتى الآن في الغارات الجوية الانتقامية الإسرائيلية. وفي الوقت نفسه، فرضت إسرائيل حصاراً، وقطعت إمدادات الكهرباء والغذاء والمياه عن غزة مع تجاهل واضح لتأثيراته في الغالبية العظمى من سكان القطاع، الذين لا علاقة لهم بـ”حماس”. (قال غالانت على سبيل التبرير: “إننا نحارب حيوانات بشرية ونتصرف وفقاً لذلك”، مستخدماً على وجه التحديد هذا النوع من الخطاب اللاإنساني الذي تسعى استراتيجية “حماس” الاستفزازية إلى توليده).
في الـ13 من أكتوبر، أمرت إسرائيل 1.1 مليون من سكان غزة بإخلاء منازلهم والتوجه إلى جنوب القطاع وإلا فسيواجهون عواقب حملة عسكرية إسرائيلية وحشية قد تكون مميتة لهم، فخلقت بالتالي ظروفاً أكثر ملاءمة للقمع، بيد أنها خاطرت في الوقت نفسه بحدوث كارثة إنسانية واسعة النطاق. والطريقة الوحيدة لمغادرة غزة الآن هي عبر معبر رفح على الحدود المشتركة مع مصر. لكن إسرائيل قصفت هذا المعبر بشكل متكرر في غارات جوية شنتها في الأيام الأخيرة، مما جعل من الصعب على أي شخص العبور بأمان أو إدخال المساعدات الإنسانية أو الإمدادات الطبية، التي استنفدت بالفعل.
وإذا مات الآلاف بعد من المدنيين نتيجة لرد إسرائيل، فإن “حماس” (أو أية جماعة تحل محلها) ستنشر هذه الوفيات على الملأ من أجل حشد الدعم وإطلاق دوامة أخرى من العنف ستجد القوات الإسرائيلية المحتلة صعوبة في احتوائها والسيطرة عليها. في ذلك الإطار، وصف المعلقون الإسرائيليون هذا الوضع بأنه لعبة المجموع الصفري [وضعية لا تحتمل سوى غالب ومغلوب]، فوفقاً لاعتقادهم، أية خسارة لـ”حماس” هي مكسب لإسرائيل. ولكن مع تطور الحرب، تندفع إسرائيل نحو نتيجة خاسرة للطرفين.
كيف تحقق النصر من خلال تجنب الهزيمة
إن القمع العسكري الساحق في غزة من شأنه أن يأتي بنتائج عكسية، فيؤدي إلى حشد الدعم للمقاومة وتحالف خصوم إسرائيل ضد تل أبيب. في المقابل، قد يسهم اعتماد استراتيجية سياسية أكثر دقة ووضوحاً في تفرقة أولئك الخصوم. يتعين على قادة إسرائيل أن يوضحوا أن أعداءهم هم مقاتلو “حماس” الـ30 ألفاً في غزة، وخصوصاً “كتائب القسام”، وليس المليونين الآخرين من سكان غزة. ومن أجل إضفاء الشرعية على همجيتها، زعمت “حماس” أن كل إسرائيلي هو مقاتل، تماماً كما فعل تنظيما “القاعدة” و”داعش” في حملاتهما في الغرب والشرق الأوسط. لذا، يجب على إسرائيل أن تتجنب ارتكاب الشيء نفسه وأن توضح أنها تستهدف “حماس” على وجه التحديد.
الرد العسكري الإسرائيلي الناجح سيكون بالاستخدام الحذر والانتقائي للقوة، ومن خلال التصريحات والأفعال التي توضح أن عدو إسرائيل هو “حماس”، وليس الشعب الفلسطيني. ينبغي على الحكومة الإسرائيلية أن تساعد سكان غزة الفارين في العثور على مكان يذهبون إليه، إما عن طريق إنشاء مناطق آمنة، أو مساعدة المصريين في القيام بذلك، أو السماح للجهات الفاعلة الإقليمية أو الدولية بإنشاء ممر إنساني، ثم السماح لمنظمات الإغاثة بتزويد المدنيين المحاصرين بالغذاء والماء. وحتى في الشمال، يجب عليهم تجنب استهداف مستشفيات غزة التي لا يمكن نقل الجرحى منها. ستستخدم “حماس” هؤلاء الأشخاص كدروع بشرية، وعندما تفعل ذلك، فإن مثل هذه الوحشية تجاه شعبها ستستنزف قدرتها على حشد دعم أوسع. ستعتمد قوات الدفاع الإسرائيلية القتال في الشوارع والأحياء الضيقة، وعلى أية حال لن تتمكن “حماس” من صد تلك القوات لفترة طويلة.
لا أحد يطالب الآن بمفاوضات سلام جديدة بين إسرائيل وفلسطين، ولكن يتعين على القادة الإسرائيليين أن يتوقفوا عن تشجيع توسع المستوطنات في الضفة الغربية، وهي عملية قضت تدريجاً على أي أمل في التوصل إلى حل الدولتين. وبطريقة موازية، يجب على إسرائيل أن تعطي السلطة الفلسطينية سبباً للامتناع عن المشاركة في هذا الصراع، وإلا فإن إسرائيل ستكون محاطة بالقتال في كلتا المنطقتين الفلسطينيتين. كذلك، يتعين على إسرائيل أن تعتمد على شركائها الدوليين لحث إيران على عدم تشجيع هجمات “حزب الله”. في الواقع، سبق أن وجهت الولايات المتحدة تحذيراً لطهران والجماعة الإرهابية بعدم مهاجمة إسرائيل وأرسلت مجموعة من حاملات الطائرات إلى المنطقة لردعهما وأي أطراف أخرى عن المشاركة في الصراع. يمكن لخطوات مثل الجولة التي قام بها وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في ست دول عربية والمناقشات مع رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس أن تساعد، شرط ألا تقوم إسرائيل بإلهاب أعدائها وإثارتهم من خلال القتل العشوائي في غزة.
وأخيراً، يتعين على الإسرائيليين أن يتحدوا سياسياً، وليس عسكرياً فحسب. قبل الهجمات، أسهمت جهود نتنياهو الرامية إلى إضعاف السلطة القضائية الإسرائيلية في تقسيم الرأي العام وأثارت ردود فعل في صفوف بعض جنود الاحتياط العسكريين وحتى بعض كبار أعضاء المؤسسة الأمنية، مما جعل البلاد أكثر عرضة للهجمات. ومن دون نهاية واضحة، فإن احتلال غزة مجدداً قد يؤدي إلى مزيد من الانقسام في البلاد. والجدير بالذكر أن نتنياهو شكل حكومة طوارئ موسعة مع أحد منافسيه، الجنرال السابق في الجيش بيني غانتس، لكن نتنياهو رفض التهميش الكامل لأعضاء اليمين المتطرف في ائتلافه، مما يشير إلى أنه لا يزال غير راغب في تجاوز السياسات المثيرة للانقسام التي شلت إسرائيل وربما شجعت “حماس” على شن هذا الهجوم. لا شيء قادراً على تحصين ديمقراطية إسرائيل استعداداً للعمليات العسكرية الصعبة المقبلة، ومنحها التفويض المحلي اللازم لبناء استراتيجية رابحة والقضاء على “حماس” إلى الأبد، سوى قيادة سياسية موحدة حقاً.
أودري كورث كرونين هي مديرة معهد كارنيغي ميلون للاستراتيجية والتكنولوجيا ومؤلفة كتاب “كيف ينتهي الإرهاب: فهم تراجع الحملات الإرهابية وزوالها” How Terrorism Ends: Understanding the Decline and Demise of Terrorist Campaigns.
المصدر: اندبندنت عربية