قراءة في العقد الاجتماعي لقسد

د. مخلص الصيادي

نشرت قوات سوريا الديموقراطية “قسد” وثيقتها التي سمتها “العقد الاجتماعي للإدارة الذاتية الديموقراطية لإقليم شمال شرق سوريا”.

والوثيقة التي عرضت في عشرين صفحة تضم ديباجة هي بمثابة مقدمة مؤسسة للوثيقة كلها، وباب أول شمل المبادئ الأساسية عرضها في 36 مادة، وباب ثان تحت عنوان الحقوق والحريات الأساسية، تضمن 37 مادة، وباب ثالث تناول النظام المجتمعي في عشرة فصول احتوت على 47 مادة، ثم باب رابع ختامي تناول أحكاما عامة من 13 مادة لتكتمل بذلك مواد هذا العقد فتكون 134 مادة.

والحق أن هذا “العقد الاجتماعي” إذ يمثل قسد، فإن المدقق فيه لا يصعب عليه تقرير حقيقة أن مضمون هذا العقد وفلسفته إنما جاء تمثيلا لرؤية تنظيم حزب العمال الكردستاني pkk، وبالتبعية فرعه السوري حزب الاتحاد الديموقراطي ـbyd ـ  وهذا الفرع يمثل المكون الرئيسي في قسد،  والعقد يستند إلى، ويعرض، فلسفة زعيم هذا التنظيم “عبد الله أوجلان” التي عرضها في مختلف كتاباته عن مفهوم “الشعوب الديموقراطية، ومجتمع الشعوب الديموقراطية”، ومن هذه الكتابات ما ورد في “مانيفستو الحضارة الديموقراطية”، وكذلك في “القضية الكردية وحل الامة الديموقراطية”.

وحتى في المصطلحات المستخدمة في هذا العقد، فإنها هي نفسها المصطلحات المستخدمة في رؤية “أوجلان وحزب العمال الكردستاني” لمختلف المسائل الاجتماعية وفي مقدمتها بناء الدولة والمجتمع على قاعدة الكومنات، والمجالس، ودور المرأة والأسرة، ونسبة 50% للمرأة في كل الهيئات، وهو الذي أطلق مصطلح “جينولوجيا” أي “علم المرأة”.

تسليط الضوء على هذه النقطة بدايةً ضروري كمدخل يوضح أن هذا المشروع، وهذه الحركة، وهذا التنظيم بمستهدفاته، لا صلة له بثورة الشعب السوري التي انطلقت في مارس 2011، حين انطلق هذا الحراك مستهدفا” إصلاح السلطة والدولة في سوريا تغييرا جذريا لتمكين الشعب السوري الواحد، في دولته الواحدة من جعل إرادته هي السائدة، وهي المسيطرة وهي الموجهة، لكل مكونات الوطن الواحد ولكل ثروات الوطن الواحد، ولكل سياسات الوطن. وعن هذا الهدف عبر الشعار المركزي الذي رفعته قوى الشعب السوري في حراكها، شعار “الشعب السوري واحد”.

وإذ نسترجع هنا أن حزب الاتحاد الديموقراطي byd، كان أحد المكونات الرئيسية ل”هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديموقراطي في سوريا” التي انطلقت رسميا في تشرين أول / أكتوبر 2011   أي بعد شهور من بدء الحراك الثوري في سوريا فإنه في الحقيقة يظهر أن هذا التنظيم لم يكن مخلصا في هذا الانتماء، وإنما اتخذه مطية له للوصول إلى مشروعه الأصيل، وهو ما ظهر تدريجيا حتى استوى على سوقه بإعلان” الإدارة الذاتية” في تشرين الثاني / نوفمبر 2013   تحت ظل القوات الأمريكية وبالتحالف العضوي معها.

إن العقد الاجتماعي المطروح يريد استغلال الوضع السياسي والأمني المزري الذي تعيشه سوريا: الشعب، والجغرافيا، والثقافة، ليطرح برنامجا لتفكيك سوريا، تفكيك الجغرافيا السورية، وتفكيك الشعب السوري، وبالتالي التاريخ والحضارة والمستقبل، وبناء شيء آخر قد يكون أي شيء إلا أن يكون سوريا الدولة الموحدة أرضا وشعبا، والقادرة على المساهمة في أمن وسلامة وتقدم المنطقة كلها بدوائرها المختلفة: الحضارية، والجيوسياسية، والأمنية.

بعد هذا المدخل الذي يعبر عن رؤية عامة لهذه الوثيقة يمكن الوقوف على بعض الأمثلة التي تعزز هذه الرؤية:

1ـ نحن أمام وثيقة اطلق عليها” العقد الاجتماعي” وحين نقرأ هذه الوثيقة بكافة مكوناتها، لا نجد أمامنا عقدا اجتماعيا، وإنما خليطا من مفاهيم فكرية واجتماعية مؤسسة، ومواد قانونية رئيسية، وأخرى فرعية وجزئية، وهذا خلط يخرجها عن صفة “العقد الاجتماعي”، فالعقد الاجتماعي يمثل الأساس الفكري والمنهجي الذي توافق عليه “الناس” في مجتمع ما، وأقاموا عليه اجتماعهم وسلطاتهم المختلفة.

“العقد الاجتماعي” بطبيعته ومهمته لا يحتوي أي من هذه التفاصيل، التي بعضها يوجد في الدساتير، وبعضها يوجد في القوانين، والبعض يوجد في القرارات، ولكل من هذه المستويات قيمة مختلفة في بناء المجتمع وتماسكه وتقدمه، وكذلك طريقة التعامل معه، في ثباته وتغيره.

ويمثل العقد الاجتماعي الأساس الذي يقوم عليه الدستور، وما هو أدنى من الدستور، وقد يمثل الدستور أو مقدمته العقد الاجتماعي الذي يلتقي عليه المجتمع، وقد يكون يأخذ هذا العقد شكل “الوثيقة الخاصة المستقلة”.

استنادا لما سبق فإن المقدمة هي في الحقيقة تمثل “العقد الاجتماعي”، يضاف إليها بعض المفاهيم المركزية الموزعة في المواد المختلفة المطروحة مثل ما يخص المرأة، ومثل “المفهوم المضطرب للشعوب والمكونات الاجتماعية ” في سوريا، ومثل مفهوم الديموقراطية، وما عدا ذلك فليس مكانه في العقد الاجتماعي.

2ـ تحتوي الوثيقة المطروحة على اضطراب واضح في كل مكوناتها، انظر إلى المادة16 ، والمادة 17، فالأولى “تضمن الإدارة الذاتية الديموقراطية لشمال وشرق سوريا حقوق الشعب الكردي: السياسية والاقتصادية والثقافية وتحافظ على الخصائص التاريخية والبنى الديموغرافية للمناطق الكردية. والثانية “تضمن حقوق الشعب السرياني الاشوري السياسية والثقافية والاقتصادية، وتحافظ على قيمه ووجوده التاريخي، وترفض أي تغيير ديموغرافي في مناطقه بناء على عدالة التمثيل ومبدأ التوافقية.

لكن الديباجة ” المقدمة” التي افتتحت بها هذه الوثيقة تتحدث عن أن سوريا تتكون من الكرد والعرب والسريان والاشوريين والتركمان والارمن والشيشان وتتكون من مسلمين ومسيحيين وايزيديين وان هذا العقد جاء استجابة لحاجة هؤلاء جميعا.

والسؤال الذي يكشف حالة الاضطراب هنا والذي سيتكرر في مواضع كثيرة، لماذا لم تذكر هذه المقدمة المؤسسة للوثيقة انها كما تضمن كل الحقوق التي تحدثت عنها ـ وهي تشير إلى الأكراد والآشوريين ـ تضمن هذه الحقوق كذلك للشعب العربي والشعب التركماني والشعب الأرمني، والشعب الشيشاني، وللمسلمين والمسيحيين والإزيديين، وكان من الواجب على الوثيقة هنا أن تضيف ” العلويين، والاسماعيليين، والدروز، والشيعة، والمرشديين” ما دام ذلك يطرح تحت شعار المحافظة على كل الهويات الثقافية والدينية والعقائدية. إن طرح قضية الحقوق على هذا النحو يجعل صورة سوريا والمجتمع السوري صورة غير متزنة.

3ـ ومن أمثلة الاضطراب ما جاء بشان اللغة، وبشأن العلم، فالمادة 6 تؤكد أن كل اللغات الموجودة في جغرافية شمال شرق سوريا متساوية في جميع مجالات الحياة الاجتماعية والتعليمية والثقافية، ومن حق أي شعب او تجمع ثقافي ان ينظم حياته ويسير أموره بلغته الام.

وتنص المادة 7 على ان اللغات العربية والكردية والسريانية لغات رسمية في مناطق الإدارة الذاتية..  وتنص المادة 8   أن “للإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا مركز وعلم خاص يرفع إلى جانب علم جمهورية سوريا الديموقراطية ولها شعار وينظم ذلك بقانون”. وبالتبعية فإن من حق كل مقاطعة أو جماعة ثقافية واثنية أن يكون لها علمها الخاص….. وتنص المادة 60 أن “للمجموعات والمكونات الثقافية والاثنية والدينية الحق في تسمية وتشكيل تنظيماتها ومؤسساتها الديموقراطية والحفاظ على ثقافتها، لا يحق لاي شخص او مكون ان يفرض عقيدته وفكره وثقافته على الغير بالإكراه”.

هذه المواد تؤسس لوجود لغات في “جمهورية سوريا الديموقراطية” التي يدعون إليها بعدد هذه التكوينات العرقية والثقافية، وكذلك بوجود أعلام لكل جماعة، ووجود أحزاب لكل مكون من هذه المكونات.

لماذا تكون العربية والتركية والسريانية لغات معتمدة في منطقة الحكم الذاتي المشار إليها، ولا يضاف إليها لغة التركمان، ثم لماذا الحديث فقط عما هو موجود في مناطق شمال شرق سوريا، والوثيقة مطروحة لتكون حلا ل “المسألة السورية”، لذا وجب بمنطق هذه الوثيقة أن تكون كل اللغات التي لها وجود في ” الجغرافيا السورية” لغات رسمية، أين اللغة الآرامية، وهي متميزة عن اللغة السريانية !، ثم لماذا نتحدث عن اللغات، ولا نتحدث عن اللهجات، ولكل لهجة الحق في التعبير عن نفسها…!، عن هذا كله يعزز ما خلصنا إليه في الفقرة السابقة من أن “طرح قضية الحقوق على هذا النحو يجعل صورة سوريا والمجتمع السوري صورة غير متزنة”.

ثم حين التحدث عن “مجلس التربية والتعليم” فإن المادة 98 التي يستند إليه وضع استراتيجية التعليم، تسند له وظيفة “القيام بتعليم اللغات الرسمية واللغات الأخرى المتواجدة ضمن الإدارة الذاتية الديموقراطية”، ولعل أول سؤال يطرح هنا، ما المعيار الذي يجعل لغة ما رسمية وأخرى غير رسمية، لماذا اعتبرت الوثيقة اللغة الكردية والعربية والسريانية رسمية وغيرها غير رسمية، ما المعيار في ذلك؟ ثم أليس في إطلاق اسم ” مجلس شعوب شمال وشرق سوريا” على ما كان يسمى المجلس العام للإدارة الذاتية يعتبر خطوة رئيسة أولى نحو تفكيك سوريا، ونحن إذا تصورنا تعميم هذه التجربة التي تبشر بها الوثيقة على سوريا نصبح أمام “جمهورية شعوب سوريا”.

4ـ وحتى على مستوى التمثيل السيادي للدولة السورية ـ المستند إلى مثل هذه الوثيقةـ، فإنه يكون  عمليا مفتقد، فالأمن والدفاع والتمثيل الدبلوماسي الخارجي ليس موحدا، فلكل مقاطعة “وهي تسمية لتقسيم إداري” وفق المادة 87 الحق بتطوير علاقات دبلوماسية واقتصادية واجتماعية وثقافية مع الشعوب والبلدان الأخرى، وإذا كانت الوثيقة تقسم منطقة الحكم الذاتي الراهنة الى سبع مقاطعات هي الجزيرة ، دير الزور، الرقة، الفرات، منبج، عفرين، الطبقة. فلكل واحدة من هذه المقاطعات هذا الحق، ولكل مقاطعة وفق المادة 87 أن تدافع عن نفسها تجاه ” الهجمات الخارجية”.

وإذا كان “القسم” الذي يؤدى حين تسلم مسؤولية سيادية أو تشريعية، يعبر عن معقد الارتباط والالتزام، فإن القسم في هذه العقد في المادة 10 جاء مضطربا، شأن العقد كله، لأنه يتضمن القسم بالله العظيم …على الالتزام ب “العقد الاجتماعي” ومواده … والعمل وفق مبدأ الأمة الديموقراطية” وفي هذا العقد الاجتماعي أحاديث فرعية وجزئية كثيرة، ونسب مئوية….، وتوزيع صاحيات، مما لا يصح معه أن يكون جزءا من قسم، لأنه بطبيعته يخص تفاصيل وقضايا من طبيعتها التغير والتطور.

كل هذه المفاهيم والخطوات التنفيذية يطرح حين اعتماد مثل هذه الوثيقة السؤال الملح والواقعي، ماذا تبقى من حقيقة وجود دولة واحدة اسمها “سوريا”، ما دامت: اللغات مختلفة، الديانات مختلفة، الأعلام مختلفة، الأحزاب مختلفة. والتسمية المعتمدة تنص على” شعوب شمال وشرق سوريا”، لقد تحولت سوريا هنا الى مجرد موقع جغرافي، أو “نقطة علام” جغرافية لهذه الشعوب. وبات كل حديث عن “سورية ” الدولة الواحدة حديث لا معنى له.

5ـ واضح من كل ما يطرح أن المفهوم الغامض ل” الأمة الديموقراطية”، مفهوم مركزي، بل هو مفهوم ديني / عقدي، وليس مفهوما سياسيا اجتماعيا، أو مفهوما تاريخيا / اجتماعيا.

والنظر إلى المادة 107 يعطي مزيد من الدلائل على هذه النظرة لمفهوم “الامة الديموقراطية”، حيث تنيط المادة المذكورة ل “مجلس الأديان والمعتقدات” تطوير المؤسسات الدينية المنسجمة مع ذهنية الأمة الديموقراطية. وحتى حين راحت المادة 61 تتحدث عن حرص الإدارة الذاتية على تعزيز القيم التاريخية للقبائل والعشائر، ربط هذا التعزيز بتلك الأعراف التي لا تتنافى مع “العقد الاجتماعي”….لكن المادة 41 التي تحدثت عن الديانة الأزيدية أعطت الحق لمعتنقيها في الحفاظ على خصوصيتهم الدينية والاجتماعية والثقافية..، وإذا كان الدافع لهذا المنطق حق الأزيديين في ذلك، وهو حق لا جدال فيه، فلماذا لم يعط هذا الحق للمسلمين في الحفاظ على خصوصيتهم الدينية والاجتماعية والثقافية، واسندت الوثيقة هذا الحق ل”مجلس الأديان والمعتقدات”.

منطوق الوثيقة يجعل مفهوم “الأمة الديموقراطية” مفهوم حاكم لغيره ومهيمن عليه، أي مفهوم “معياري، ومقدس”، والذي يراجع ما كتبه “أوجلان” بشأن هذا المفهوم يدرك أننا أمام نص ومصطلح له كل خصائص “النص والمصطلح الديني”، بل ويدرك أن صاحب هذا المفهوم “يتلبسه” الإحساس بالقدسية، قدسية هذه الرسالة وقدسية حاملها، وأن أتباعه وأنصاره ينطلقون في التعامل مع هذا المفهوم وما يتصل به وهم مؤمنون بهذه القدسية والمكانة الخاصة لمثل هذه الأفكار، ولمؤسسها.

6 ـ وخاتمة ما يمكن الوقوف عليه من أفكار مركزية في هذه الوثيقة، هو الموقف من المرأة، والإلحاح على إظهار موقف متميز منها، فنصت في ديباجة عقدها الاجتماعي  أن”الثورة المجتمعية في شمال شرق سوريا تحققت بقيادة المرأة”، رافعا في المادة الثانية شعار “حرية المرأة”، وملتزما في المادة 25 ضمان المساواة بين الجنسين ، ومؤكدا في المادة 26 تمتع المرأة بإرادتها الحرة في العائلة الديموقراطية التي تؤسس على أساس الحياة الندية المشتركة، وضامنا لها التمثيل بنسبة خمسين في المائة في كل التشكيلات والمؤسسات والهيئات المجتمعية. ومعتمدا بدءا من الديباجة مبدأ الرئاسة المشتركة بين الجنسين لكل المؤسسات ذات الشأن.

والحق أن الحديث عن المرأة مغرٍ، وأن شعار تحرير المرأة جذاب، لكنه هنا يعني شيئا آخر، أو شيئا أكثر وضوحا مما نراه في أي كتابات أخرى، هنا الحديث في جوهره يخص العائلة، ولا يخص مفهوم رفع الظلم، يخص إنهاء فكرة بناء الحياة الأسرية على “ذكر وأنثى”، وبناؤها على غير هذا الاعتبار، أي تجاوز المفهوم العام التي استقر عليه المجتمع وهو مفهوم يقوم على أن أساس المجتمع هو “الأسرة”، الأسرة بالمفهوم الديني والاجتماعي والتاريخي، وأن سننا إلهية وخلقة تحكم أدوار كل من الرجل والمرأة في هذه الأسرة، وأن الحقوق والواجبات تجاه الأسرة تتكامل بين طرفيها “الرجل والمرأة”، بحيث يؤدي كل منها واجبه تجاهها، وأن على مؤسسات المجتمع توفير الرعاية اللازمة لتحقق هذا الهدف، ومنع التجاوز على هذه الحقوق والواحبات.

هذا المفهوم الجديد للأسرة ولمكانة ودور المرأة في مثل هذا العقد هو من المفاهيم المركزية التي طرحها أوجلان في مفهوم” الأمة الديموقراطية” وطرحها بشكل “رسولي، مقدس” معتبرا أن فيها حلا للمشكلة التي تصورها للمجتمعات البشرية.

ننبه أن المسألة هنا ليست قضية ديموقراطية ولا قضية حرية المرأة، وإنما هي القيام بجراحة دامية لجسد المجتمع والأسرة، وإخراج هذا الجسد عن مساره الطبيعي، إلى متاهات مدمرة، وهنا يكون اللقاء الطبيعي بين هذه الطروحات ودعوات الشذوذ الجنسي المنتشرة اليوم في المجتمعات الغربية على اختلاف أنواعها، والشذوذ في تكوين الأسرة على اختلاف هيئاتها، والدعوات الملحة لتكون أسر على غير الطبيعة البشرية.

وهذه الدعوة وإن تكرر فيها كثيرا مصطلحات “الديموقراطية”، و”المجتمع الديموقراطي”، و”الأمة الديموقراطية”، “الحداثة الديموقراطية”، لا تمتلك في داخلها أي مفهوم ديموقراطي إنساني، وليس لها مفهوم إيجابي محدد، وهي في جوهرها تجسد أقصى حالات “الديكتاتورية والاستبداد” الاجتماعي لأنها تبنى على القهر وعلى مخالفة الطبيعة البيولوجية والنفسية والفطرية والخلقية للمجتمع الإنساني.

وهذه الصفة” الديكتاتورية والاستبدادية” تتلبس مختلف جوانب هذه الدعوة، ما يخص بالمرأة، وما يخص بالمجتمع، بل وما يخص أيضا فكرة أن أصحابها المؤسسون يمثلون “الأكراد”، هذا غير حقيقي، فالأكراد كمكون من مكونات الشعب السوري، أصيل في التزامه الديني والأخلاقي والقيمي، وهو كذلك في غير سوريا  ايضا، والذين يتحدثون باسمه بمثل هذا الحديث لا يمثلونه، وإنما هم يقهرونه كما يقهرون مكونات الشعب السوري الأخرى، وقد عايش السوريون في شمال وشرق سوريا، هذا القهر من خلال سياسات التهجير، والتصفية الجسدية، والاستيلاء على الأراضي، وحرق المحاصيل، التي اتبعها تنظيم pyd قبل أن يتحول ويشكل قسد بتوجيه من قيادة القوات ألأمريكية في تلك المنطقة.

في الختام

يمكن اختصار الموقف من هذا” العقد الاجتماعي” بنقاط محددة:

1ـ العقد الاجتماعي المعروض يستهدف و يؤدي إلى تفتيت المجتمع السوري، وإلى تفتيت الجغرافيا السورية، والثقافة السورية، وإلى خلق وضع في سورية يكون أساسا لنسف الاستقرار والأمن في المنطقة، ولعل تسمية ” شعوب شمال وشرق الفرات تعبير لا يحتمل التأويل ويكشف عن هذا المعنى الحقيقي لهذا التوجه.

2ـ كل حديث عن الديموقراطي في هذا العقد ليس له أساس حقيقي، وإنما هي مصطلح تم إطلاقه لتغطية الطبيعة الاستبدادية لهذا العقد، وهو حين يذكر المكونات الأخرى فيي المجتمع السوري يذكرها لمجرد التغطية على إرادة تفتيت المجتمع التي يستبطنها هذا العقد.

3ـ يتضمن هذا العقد “مفاهيم أوجلان” عن الأمة الديموقراطية، والاسرة الديموقراطية، وهذه المفاهيم لم تنبع من إرادة شعبية، ولا من ” المظلومية الكردية” التي تطالعنا بها الأحزاب الكردية حين الحديث عن الحقوق الثقافية والاجتماعية للأكراد في سوريا، وإنما هي تعبير عن إرادة استبدادية تريد ان تفرض نفسها بالقوة ومستعينة بالقوات الأمريكية على المجتمع السوري، وعلى المحيط الإقليمي، وهذا أمر لا يمكن له النجاح إلا من خلال حروب وصراعات ودماء لا حدود لها.

4ـ يمثل هذا العقد عدوانا على كل مكونات المجتمع السوري وعلى تاريخه وبيئته الثقافية، فالمجتمع السوري ذو أغلبية عربية تصل إلى نحو 85% من عدد السكان، على اختلاف دياناتهم، والمجتمع السوري ذو أغلبية إسلامية لا تقل عن 93%، على اختلاف أعراقهم، ولم يعرف هذا المجتمع السوري وجود صراع قومي أو ديني، وكل ما جرى فيه خلال حكم البعث / الأسد لا يعدو أن يكون حكما طائفيا استبداديا فاسدا، أصاب الجميع، جميع السوريين، ولعل المسلمين، والعرب، هم الأكثر من بين من أصابتهم لعنة هذا النظام بحكم كونهم الأغلبية، قوميا ودينيا.

وسوريا في جغرافيتها السياسية عرفت باسم سوريا، وباسم بلاد الشام، وحديثا حين استقلت عرفت أولا باسم المملكة العربية السورية، ثم الجمهورية السورية، ثم الإقليم الشمالي في الجمهورية العربية المتحدة، ثم الجمهورية العربية السورية، وفي كل هذا المسار لم يكن هناك مشكلة في الاسم الذي أطلق عليها، لأنه كان دائما تعبيرا على تلاقي الجغرافيا مع التاريخ الحضاري مع دورها في الاقليمي.

إن الحديث عن صيانة وتنمية كل اللغات في سوريا، وكل الثقافات، وكل الديانات وكل المذاهب، ثم الحديث عن شعوب شمال شرق سوريا، حديث مخادع يستهدف اغواء المكونات ذات الوجود المحدود لكي تدعم مثل هذا الطرح الخيالي / المخرب الذي لا يمكن تطبيقه، ولا حتى تقنيا، وليس له أي علاقة بمفهوم تنمية الثقافة الذاتية للأقليات، أو المحافظة على لغاتها الأصلية، فهذه كلها ممكنة وواجبة لكن في إطار الهوية الحضارية ” اللغوية والدينية” للمجتمع. وليس من خلال تفتيت المجتمع وتغييب هويته التي بنتها حركة التاريخية عبر مئات أو آلاف السنوات.

5ـ ومهم في هذه الخلاصة الانتباه إلى الاستغلال المريب لقضية المرأة والأسرة، حيث يجري تحت شعار “تحرير المرأة” ورفع الظلم عنها، إغراقها في أتون مفاهيم منحرفة تريد أن تدمر الأسرة، وتخرجها عن أخلاقيتها المبنية على أسس دينية واجتماعية راسخة، وليس لهذه الدعوة أي علاقة بمفاهيم تحرير المرأة من الظلم الذي أصابها في مراحل مختلفة من التاريخ الاجتماعي.

وهذه المفاهيم التي تحاول الوثيقة تمريرها تنسجم مع مطالب العولمة الراهنة التي تسعى إلى مثل هذا الهدف من خلال تفكيك الأسرة، وإخراجها من طبيعتها الحقيقية الموضوعية.

6 ـ إن أي توقع بأن الحوار مع هذه الجماعة الانفصالية في هذه الظروف الداخلية والإقليمية والدولية يمكن أن يثمر توقع فيه الكثير من السذاجة، نحن أمام مشروع انفصالي بدأت خطوات تنفيذه العملية بالنضوج، وتقف وراءه قوى عالمية هي نفسها التي وقفت وراء المشروع والكيان الصهيوني تتقدمها الولايات المتحدة، وجهات عديدة أخرى، وإن لم يتم الانتباه لذلك فإننا أمام مرحلة جديدة من التفتت والصراع ستدخلها المنطقة، وسنكون نحن السوريين وخصوصا: العرب والأكراد، وقودها الرئيسي، لكن أفقها سيمتد إلى دول المحيط الإقليمي: تركيا وإيران والعراق، وإلى دول أخرى، وسيكون لهذا الصراع مظاهر تخريب في هذه المجتمعات عرقي وديني وأخلاقي قد لا تكون محدودة.

7 ـ وعلينا أن نذكر هنا أن بروز هذا التحدي الانفصالي لهذه الجماعة الكردية ـ وهي جماعة خارجة عن السياق العام للمكون الكردي في سوريا والمنطقة ـ  هو نتاج سياسة النظام الأسدي: الأب الذي تبنى تنظيم حزب العمال الكردستاني ورعاه واستخدمه أداة في وجه تركيا، والأبن الذي دمر البنية الوطنية للمجتمع السوري بسياساته الطائفية الدموية، وعمل على تهجير وتخريب هذا المجتمع، ورفض مطالب الإصلاح الوطني والاقتصادي، وأدخل إلى سوريا الاحتلالات، والميليشيات المختلفة ما أفسح المجال وأعطى المبرر، ووفر الظرف لنمو مثل هذا الورم الخبيث.

8 ـ سوريا التي تعاني من نظام الاستبداد والفساد والطائفية والقتل والتهجير القسري، باتت في هذا الظرف  تعاني  من خطر حقيقي ماثل يستهدف تفتيتها وتمزقها، وتحويلها إلى بؤرة صراع إقليمية، ولذا فإنها بأمس الحاجة لبناء تحالف وطني سوري، عماده التحالف العربي الكردي، يستوعب كل أطياف ومكونات المجتمع السوري، ويقوم على مفهوم إقامة نظام المواطنة الديموقراطي، ونظام الانتماء الحضاري والروحي لسوريا، نظام يتلاءم ويعزز دوائر العمل  المختلفة “القومية والدينية والجيوسياسية” لسوريا. ويعيد هذا الوطن إلى دوره الحيوي الفعال في محيطه، ويمكنه من بناء تحالفات استراتيجية قومية وإقليمية ترسخ قيم التفاعل والأمن في الإقليم كله، نظام يحافظ على قيم المجتمع ويصون الأسرة ويحميها، وفي إطار هذه الحماية يحقق تحرر كل أبنائه: رجالا ونساء وأطفال وشيوخا، وفي كل حالاتهم وأوضاعهم. ويوفر لهذه المكونات جميعا الرعاية الصحية والتعليمية والأمان الإنساني، والاطمئنان للمستقبل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى