الاستراتيجية التي أدت إلى الحرب وما تعنيه في المستقبل. ثمة، بين الجوانب الكثيرة التي تستوقف من هجوم “حماس” على إسرائيل في السابع من أكتوبر (تشرين الأول)، جانب لم يحظ بالانتباه الذي يستحقه، هو مكان الهجوم. ففي أثناء معظم العقد الأخير، لم تبرز غزة على شاكلة ساحة معركة حاسمة في نظر المقاومة الفلسطينية. وعمليات اقتحام الجيش الإسرائيلي المتكررة، وعلى الخصوص عملية “السور الواقي”- وهذه دامت شهرين في 2014، سجنت “حماس” في موقف دفاعي. وفي هذه الأثناء، عطلت الدفاعات الإسرائيلية المضادة للصواريخ، والمتعاظمة الفعالية، الصواريخ التي تطلقها “حماس” من غزة. وعزل الحصار القطاع عن العالم.
وعلى خلاف هذا، كانت الضفة الغربية منطقة نزاع ظاهرة للعيان. ولفت انتباه الصحافة العالمية، على الدوام، توسع المستوطنات الإسرائيلية، واقتحام الجنود والمستوطنين المتكرر القرى الفلسطينية والأماكن المقدسة في القدس. ورأت “حماس”، شأن المنظمات الناشطة الأخرى، أن الضفة الغربية الحقل الأكثر مناسبة للمقاومة المسلحة والوطنية الفلسطينية. والقرينة على إقرار إسرائيل بالأمر هو انشغال معظم القوات الإسرائيلية، عشية السابع من أكتوبر، بمراقبة فلسطينيي الضفة، وذلك في ضوء اقتصار تهديد غزة على إطلاق الصواريخ بين الحين والآخر.
وخالفت عملية السابع من أكتوبر هذا التقدير مخالفة تامة. وباشر الجناح العسكري من “حماس”، في غزة، هجومه الدامي بتفجير بوابة إيريز الحدودية، الفاصلة بين غزة وإسرائيل، واقتحم الحزام الأمني في عدد من المواقع. واستبق المهاجمون الذين قتلوا أكثر من 1200 إسرائيلي، واحتجزوا أكثر من 240 رهينة، رداً عسكرياً على نطاق واسع على غزة وفيها. وسرعان ما حقق هذا التوقع الهجوم الجوي والأرضي العنيف، وغير مسبوق العنف، الذي شنه الجيش الإسرائيلي. وبدورها، قتلت الحملة الإسرائيلية أكثر من 17 ألف فلسطيني، وأنزلت خسائر هائلة في القطاع كله، وغلبت على انتباه قادة العالم طوال أسابيع. فبعد أعوام من نزول غزة مرتبة ثانية، أمست في القلب من النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني.
وتثير مركزية غزة المتجددة أسئلة كبيرة تتعلق بكبار قادة “حماس”. وساد من قبل اعتقاد أن “حماس” تقاد من خارج القطاع، من عمان، أو دمشق، أو الدوحة. والحق أن هذه الحال بطلت من زمن طويل، أي منذ 2017، على أقرب تقدير. وحين آلت قيادة “حماس” في غزة إلى يحيى السنوار حصل انعطاف تنظيمي صوب غزة نفسها. فاستقل القطاع عن قيادات الخارج. وجدد السنوار استراتيجية “حماس” القتالية والنضالية. فسعى في صوغ عقيدة هجومية، وفي ربط غزة بالنضال الفلسطيني العام. وفي الوقت نفسه ضبط خططه على تطور أوضاع الضفة الغربية والقدس، والتوتر الحاد الذي يثيره المسجد الأقصى. وبدلاً من أن يعزل الحصار الإسرائيلي غزة، أسهم في جعلها في مركز انتباه العالم.
الطريق إلى دمشق
تتوسط منظمة “حماس” السياسية والعسكرية أربعة مراكز سلطة: غزة، والضفة الغربية، والسجون الإسرائيلية، حيث يقبع بعض كبار قادة “حماس”، و”الخارج”، قيادة وراء الحدود. ويدير قادة الخارج مكتب “حماس” السياسي، وحظوا عموماً بتأثير من سياستها. وفي 1989، في أثناء الانتفاضة الأولى، قمعت إسرائيل “حماس”، واضطرت قياداتها إلى الهرب إلى الأردن ولبنان وسوريا. وفي عام 2000 تقريباً، أصبحت دمشق مركز قيادة الحركة.
وحافظت هذه القيادة، من الخارج، على سيطرتها على جناح الحركة العسكري، “كتائب القسام” في غزة، وقامت القيادة بأنشطة دبلوماسية مع مسؤولين أجانب واستمالت دعم أثرياء أجانب، ودعم جمعيات خيرية على الخصوص، وتأييد إيران، بعد عملية السلام في مدريد واتفاق أوسلو. وفي أثناء هذه المدة، كانت الصدارة لقادة الخارج. وبعضهم، مثل خالد مشعل، رئيس مكتب “حماس” السياسي، شب في المنفى، وعاد إلى مشعل، وأقرانه من القادة، البت في قرار السلم والحرب من عمان، وبعدها من دمشق، وامتثلت “كتائب القسام”، في الأراضي الفلسطينية لقراراتهم، طوعاً أو كرهاً.
إلا أن صدارة قيادات الخارج لم تلبث أن أعيد النظر فيها، تدريجاً بعد اغتيال إسرائيل الشيخ أحمد ياسين، مرشد “حماس” الروحي، في 2004، بغزة. والعوامل التي اجتمعت على إعادة النظر هذه، وترجيح نفوذ الداخل، كثيرة، وأحد هذه العوامل فوز “حماس” في انتخابات 2006، وتأليف حكومة قبل استيلاء الحركة على قطاع غزة في 2007، وبعده. وأفلح قادة “حماس”، بعد ضرب إسرائيل الحصار على القطاع، في استدراج عوائد من طريق شبكة أنفاق سرية، حررت بعض الشيء المنظمة الغزاوية من الاتكال على مساعدة الشتات الاقتصادية.
وسرع الربيع العربي، والانتفاضة السورية على الخصوص انتقال مركز الثقل إلى غزة. وحاول قادة “حماس” المقيمون في دمشق، في مراحل الحرب الأهلية السورية الأولى، التوسط بين النظام السوري والسنة المنتفضين عليه، ورفضوا الدعوات الإيرانية الملحة إلى إعلان دعمهم غير المشروط للرئيس السوري بشار الأسد، وقرروا، في فبراير (شباط) 2012، مغادرة سوريا. فاستقر نائب الرئيس، موسى أبو مرزوق، في القاهرة. وقصد مشعل الدوحة. ومنها وجه نقداً حاداً إلى إيران و”حزب الله”، سند نظام الأسد. فردت إيران بتعليق دعمها المالي لـ”حماس”، على مرحلتين، صيف 2012، وفي مايو (أيار) 2013، حين قاتلت “كتائب القسام” قوات النظام السوري و”حزب الله” في معركة القصير. فقلصت المساعدة المالية إلى النصف، من 150 مليون دولار في السنة إلى 75 مليوناً.
وأضعف النزاع هذا، معطوفاً على تشتت إقامة القيادات، تنظيم “حماس” الخارجي. وأقر غازي حمد، أحد مسؤولي “حماس” الكبار بالأمر. وقال حين أجريت مقابلة معه في غزة، في الـ10 من مايو 2013، إن “مغادرة سوريا قوت قيادات غزة. وأنا لا أقول إن القيادات المقيمة في غزة، تخطت القيادات المقيمة خارج غزة، ولكن بعض التوازن حكم العلاقات بين الطرفين”. وحافظت قيادات غزة على علاقات وثيقة بإيران، ومن هذه القيادات، خصوصاً قادة “كتائب القسام”، مثل مروان عيسى، قائد الجناح العسكري المساعد، الذي كان يتردد إلى طهران كلما دعت الحاجة.
وبدا الاستقلال الذاتي العسكري جلياً في واقعة أسر جلعاد شاليط، وهو المجند الإسرائيلي الذي خطف ونقل إلى غزة، في 2006. وكان أحمد الجعبري، قائد “كتائب القسام”، من أمر بخطف شاليط، وفاوض، مع غازي حمد، على صفقة إطلاقه التي أثارت خلافات ومناقشات حادة، في 2011، لقاء إطلاق 1027 أسيراً فلسطينياً في السجون الإسرائيلية. ورأى كثير من الفلسطينيين في الصفقة نصراً كبيراً لـ”حماس” في غزة. واغتالت إسرائيل الجعبري، بعد سنة على الاتفاق، مفتتحة هجوماً عسكرياً جديداً على القطاع سمته “عمود السحاب”.
وفي الأثناء، أدت العمليات الإسرائيلية المتكررة على غزة دوراً في تقوية نفوذ “كتائب القسام”. ووسع المقاتلون على جبهات غزة الاضطلاع بدور مركزي في النضال ضد إسرائيل، على خلاف قيادات الخارج، المهمشة. وإقراراً بتعاظم مكانة قيادات الداخل، ضم ثلاثة منهم، في 2013، إلى مكتب “حماس” السياسي. وأدى الجناح العسكري دوراً مباشراً وجديداً في صوغ القرار السياسي.
ومع دوام الحصار، تبوأت غزة مكانة عالية على مراتب التضحية ورموزها. واضطرت القيادات السياسية إلى الإقرار بهذه المكانة، واستثمارها في تقوية مشروعيتها. فعمد مشعل، في الذكرى الـ25 لتأسيس الحركة، في 2012، والاحتفال بها، إلى دخول غزة تثبيتاً لترشحه إلى رئاسة المكتب السياسي. وخطب الجمهور مستظلاً بركة دم الشهداء، وتضحية أمهات غزة “الخالدة”. وقال “أقول إنني عائد إلى غزة، على رغم أنها المرة الأولى التي أجيء فيها إليها، لأن غزة كانت دائماً في قلبي”.
ولكن مركزية غزة تعاظمت في نظر كبار قادة “حماس”، فعلاً في السنوات التي أعقبت عام 2017. ففي هذه السنة، حل إسماعيل هنية محل خالد مشعل في رئاسة المكتب السياسي. ومهد هذا القرار الطريق إلى توثيق علاقات “حماس” بالإيرانيين، من غير واسطة ولا وسيط. وانتقل هنية إلى الدوحة، في ديسمبر (كانون الأول) 2019، تلافياً لمعوقات السفر والتنقل داخل غزة وخارجها، ولتحكم المصريين في الأمر. وصادفت مغادرة هنية تسلم يحيى السنوار السلطة في غزة. والسنوار قائد عسكري سابق نافس هنية على النفوذ والقيادة.
تسليح المقاومة
وكان السنوار اضطلع بدور حاسم في إنشاء جناح “حماس” العسكري، في ثمانينيات القرن الماضي. وقضى بعدها، 22 سنة في السجون الإسرائيلية، إذ أسهم في بناء صدارة “حماس” وقيادتها. وأفرج عنه، في أكتوبر 2011، ممن أطلق سراحهم لقاء إطلاق شاليط. ودعا السنوار إلى صيغة كفاح مسلح هجومية ومبادرة. فالهجوم وإثبات القوة في مستطاعهما شق الطريق إلى مفاوضات متوازنة مع إسرائيل. وشرع في تطبيق هذا الرأي، وحمل إسرائيل على التنازل عن بعض الإجراءات، مع تسلمه قيادة “حماس” في غزة. ومضى في تطوير “كتائب القسام”، فرفع عدد مقاتليها، على تقدير المحللين، منذ 10 آلاف مقاتل إلى 30 ألفاً أو أكثر.
ووحده أحمد يوسف، مستشار إسماعيل هنية السابق، في صفوف قيادات “حماس” السياسية، أبدى تحفظه على تعيين السنوار. فهو خشي انتقال سلطة القرار إلى الأراضي الفلسطينية. ورأى أن الأولوية ينبغي أن تبقى لقيادات الخارج، وأن علاقات السنوار الوثيقة بالجناح العسكري قد تنزل الضرر بـ”حماس”، وتسمح للإسرائيليين بحمل غزة على حقل يرتع فيه الإرهاب الإسلاموي.
وبرهن السنوار سريعاً على قدرته على تحصيل نتائج ملموسة من إسرائيل. ففي 2018 و2019، أضفى الإسرائيليون بعض المرونة على حصارهم على غزة، غداة تنظيم “حماس” مسيرات العودة قرب الحواجز الحدودية بين غزة وإسرائيل. واستفادت “حماس” من تظاهرات عشرات آلاف الغزاويين الأسبوعية على الحدود احتجاجاً على الحصار، وأطلقت الصواريخ والبالونات المشتعلة على إسرائيل. وجواباً عن استراتيجية الضغط هذه، عقدت إسرائيل سلسلة اتفاقات أجازت بموجبها فتح معابر حدودية فتحاً محدوداً، وزيادة تمويل قطر رواتب الموظفين.
ولم يحل هذا دون تشكيك شطر كبير من الفلسطينيين في “حماس”، وتهمتها باستعمال مسيرات العودة في سبيل حرف الانتباه عن الانتقادات المتعاظمة لنظامها، والتوسل بالقوة إلى حماية مصالحها الخاصة في غزة.
وفي 2021، انتهز السنوار الفرصة لمعالجة مسألة صدقية “حماس”. فيومها، شنت إسرائيل حملة قمع قاسية على الفلسطينيين، المحتجين على طرد المقيمين منهم من منازلهم في حي الشيخ الجراح في القدس الشرقية. وفي الـ20 من مايو (أيار)، أطلقت “كتائب القسام” بعد إنذار صارم، آلاف الصواريخ على أشدود وعسقلان والقدس وتل أبيب. فانتفض، عفوياً وتضامناً، مع فلسطينيي القدس، آلاف العرب الإسرائيليين في مدن إسرائيلية كثيرة. وكانت الانتفاضة والتضامن ذريعة “حماس” إلى نسج روابط بالفلسطينيين خارج غزة، والاضطلاع بدور حامي المدينة المقدسة. ومذاك، تردد اسم أبو عبيدة، الناطق باسم “كتائب القسام”، على ألسنة المتظاهرين الفلسطينيين في القدس والضفة الغربية.
ويلاحظ أن انفتاح قيادات “حماس” المتعاظم على الفلسطينيين خارج غزة اتفق، مع فرق وقت قليل، مع تطبيع البحرين والمغرب والإمارات العربية علاقاتها بإسرائيل. وكان توقيع هذه الاتفاقات التي تولت الولايات المتحدة المفاوضة عليها، وتعرف باسم اتفاقات أبراهام، قرينة على أن البلدان العربية هذه مستعدة لخطو هذه الخطوة التاريخية على رغم وشك ضم إسرائيل الضفة الغربية من غير بقية. ورأى معظم الفلسطينيين في الأمر خيانة صريحة. وعلى هذا، لما أعلنت الدول العربية إحجامها بعد اليوم عن الدفاع عن الفلسطينيين، رفعت “حماس” في غزة لواء الدفاع عن الضفة والقدس.
ومنذ 2021، تجهر “حماس” بعزمها وتنتحي بتضامنها مع الفلسطينيين في وجه التهديد الإسرائيلي المتعاظم للمسجد الأقصى في القدس، رمز الفلسطينيين الوطني والقومي. وفي ضوء هذا الظرف، تندرج عملية “حماس” في السابع من أكتوبر- واسمها “طوفان الأقصى”-في سياق استعمال القوة الهجومية دفاعاً عن جميع الأراضي الفلسطينية. ويبدو، على وجه التخصيص، أن قرار الهجوم صدر عن منظمة “حماس” الغزاوية، ولم تضلع فيه قيادة الحركة الخارجية.
سرد رواية مختلفة
ومنذ بداية حربها على إسرائيل، صاغت “حماس” استراتيجية إعلامية متعمدة شددت على دور غزة المركزي في الكفاح الفلسطيني. وأبرزت الحركة، في أثناء القتال، قدرتها على التواصل مع الخارج. وعلى رغم قطع الإنترنت، والقصف الإسرائيلي العنيف، وتدمير أبنية الاتصالات التحتية في القطاع كله، استمرت “حماس” على بث معلومات من ميدان المعركة، وصاغت رواية متصلة على خلاف الأخبار الإسرائيلية عن الحرب. وتوسلت “كتائب القسام” و”حماس” ببثها فيديوهات يومية، تقريباً، تصور تدمير المدرعات الإسرائيلية، وتنفي المزاعم عن استعمال المستشفيات دروعاً بشرية، إلى نقض الأقوال الإسرائيلية، والمحافظة على بعض التأثير في تغطية الإعلام العالمي أخبار الحرب.
ولا يبدو أن قيادات “حماس” الخارجية، في الدوحة، منخرطة في حملة الإعلام التي تملى وتقاد من غزة. وعلى خلاف بيانات “حماس” في أثناء عملية “الرصاص المصبوب”، وهي الحملة الإسرائيلية على غزة في 2008، و2009، ليس رئيس المكتب السياسي من يتولى التعليق على الحوادث من الخارج، بل يتولاه قيادي عسكري – أبو عبيدة – في الميدان، وعلى أرض غزة نفسها. وأصبح جلياً، والحق يقال، أن السنوار، وغيره من قادة “حماس” في غزة، يحتقرون أعضاء الحركة في الدوحة، هم المقيمون في محل آمن، وثير وفاخر، على حدة من النزاع.
أما ممثلو “حماس” في لبنان، فأدوا دوراً بارزاً في الحرب الإعلامية المستعرة اليوم. فعقد أسامة حمدان، رئيس قسم العلاقات الخارجية في “حماس” سابقاً، وإحدى شخصيات المكتب السياسي الوازنة، مؤتمرات صحافية دورية في بيروت ناقضت الروايات الإسرائيلية عن الحرب، وعلى خلاف قيادات أخرى في “حماس” تخشى قرب السنوار من “كتائب الأقصى”، يرى حمدان أن تشابك الجناحين العسكري والسياسي وتلاقيهما أمر طبيعي. وهو يشاطر السنوار رأيه في استعمال القوة وخدمتها وحدها القضية الفلسطينية (في مقابلة أجريتها مع حمدان، في 2017، ببيروت، قارن قيادات “حماس” بالقيادات الإسرائيلية، ولاحظ أن “قادة إسرائيل السياسيين، مثل نتنياهو، ورابين، وباراك أو بيريس، كلهم كانوا أسياد حرب قبل اضطلاعهم بمسؤوليات سياسية”).
وصور حمدان، في بياناته وتصريحاته، الحرب في صورة حرب تحرير فلسطينية عامة، وليس في صورة معركة “حماس” وحدها. ودعا العالم إلى مساندة الفلسطينيين على ما يسميه “الإمبريالية الأميركية – الصهيونية”. وهو يرى أن هجوم السابع من أكتوبر عاد على الفلسطينيين بأرباح، منها: تحرير الفلسطينيين الأسرى في إسرائيل، وجر الجيش الإسرائيلي إلى وضع ميداني محرج، وإجلاء السكان الإسرائيليين من مدن الشمال المتاخمة للبنان وفي غلاف غزة. ويقول حمدان إن المصاعب المتعاظمة التي يتعثر بها الجيش الإسرائيلي في الميدان هي التي حملت إسرائيل على تعليق العمليات البرية في غزة، وتحرير المعتقلين الفلسطينيين لقاء بعض الرهائن الإسرائيليين. ويقول حمدان كذلك إن إسرائيل قررت استئناف العمليات العسكرية في الـ24 من نوفمبر (تشرين الثاني) جراء إخفاقها في بلوغ أهدافها في المرحلة الأولى من الحرب.
ولم تنج مقالة “حماس” من تشكيك وسائل الإعلام العربية الرسمية. إلا أن بيانات وتصريحات أبو عبيدة وحمدان لاقت صدى قوياً في العالم الفلسطيني، وفي أوساط السكان العرب وبعضهم ربما أشد ميلاً إلى “حماس” بعد الحرب منهم قبلها. فالهجوم الذي شنته “حماس” برهن على ضعف مناعة إسرائيل، على خلاف حال منظمة التحرير الفلسطينية التي عجزت عن تقديم إنجاز ملموس للفلسطينيين. وحمل الهجوم إسرائيل على شن غزو مدمر، وارتكاب مجازر في حق المدنيين، ولكنه نبه العالم، على نحو استثنائي، إلى فظاظة الاحتلال الإسرائيلي وقساوته على الأراضي الفلسطينية وتترتب على هذا كله نتائج عميقة على مستقبل النزاع.
ما عسى يكون اليوم التالي؟
غداة هجوم “حماس”، شغلت المجزرة غير المسبوقة في حق المدنيين الإسرائيليين معظم انتباه العالم. أما ما كشف عنه الهجوم من تغيرات استراتيجية داخل “حماس” نفسها فلم يحظ بمثل هذا الانتباه. فجر “حماس” إسرائيل إلى شن حملتها الكبيرة على غزة قلب، رأساً على عقب، النظرة التقليدية إلى غزة. وتعريف غزة أرضاً محررة من الاحتلال الإسرائيلي، ولا حاجة إلى تغيير وضعها المستقر على هذه الحال إلى الأبد. وبالغاً ما بلغ الثمن الذي يسدده الغزاويون، وتسدده “حماس”، فالحرب بلغت، منذ اليوم، هدف استواء غزة عنصراً مركزياً في معركة التحرير الفلسطينية، وفي تسليط الانتباه العالمي على هذه المعركة.
ووصلت الحرب الفلسطينيين ببعض إحباطات تجربتهم التاريخية الأساسية. فالتهجير القسري صوب الطرف الجنوبي من القطاع الساحلي – وتلبسه إسرائيل لباس إجراء إنساني عاجل، شأن الخطط التي تلمح إليها إدارة نتنياهو وتقضي بإسكان الغزاويين صحراء سيناء – أدخل غزة في إطار قريب، وأدرجها في تاريخ طرد الفلسطينيين الطويل منذ 1948. وللجهود الحالية الرامية إلى طرد الغزاويين وتهجيرهم، دلالة عميقة، وذلك أن معظم الذين قسروا على الانتقال يتحدرون من عائلات لجأت في أثناء أزمة 1948. فالحال اليوم، في نظر كثير منهم، وبينهم مئات الآلاف من الذين رفضوا مغادرة شمال القطاع، هي تكرار للانقلابات والاضطرابات السابقة. والسبيل الوحيد لتفادي احتمال “نكبة” جديدة هو البقاء في غزة، بالغاً ما بلغ التدمير من الاتساع.
وبينما تقصف غزة من جديد قصفاً عنيفاً، بعد الرجوع عن هدنة الأيام السبعة، ناقشت إسرائيل والولايات المتحدة سيناريوهات “اليوم التالي”. وعلى رغم خلاف البلدين على مسائل كثيرة، وخصوصاً على حكومة على رأسها رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس – الذي لا يحظى بقبول إسرائيل – يجمع البلدان على استئصال “حماس” من جذورها. ولا يحتسب هذا الهدف واقع المنظمة الحالي، ولا يرسو على فهم هذا الواقع. فإلى اليوم، وعلى رغم خمسة أسابيع انقضت على هجوم أحد أقوى جيوش العالم – أجلى الهجوم في أثنائها معظم أهل غزة من منازلهم وقتل 17 ألف شخص – لا تظهر أمارات الهزيمة على “حماس” أو الاستئصال. فهي لم تنجح في البقاء، فقط، بل حافظت على استقلالها عن قيادات الحركة في الخارج، وعن حلفائها العرب، وعن إيران التي لم تخطر بالهجوم.
وتدعو قدرة المنظمة الغزاوية على البقاء قوة فاعلة، ومحافظتها على قيادة متماسكة، وحضور إعلامي وشبكة مساندة، إلى إعادة النظر جدياً في المناقشات الحالية التي تتناول حكم قطاع غزة غداً.
وفي الأثناء، بينما لم تبلغ قواتها أهدافها في غزة، شددت إسرائيل عملياتها العسكرية في الضفة الغربية وشنت غارات يومية، واعتقالات واسعة، وتمارس قمعاً لا قيد عليه. ولا يقتصر الأمر على احتمال حرب على جبهتين، بعد أعوام طويلة من بذل جهود مضنية في سبيل فصل الأراضي الفلسطينية المحتلة عن غزة، بل يوحي باحتمال إسهام الجيش الإسرائيلي في تغذية هدف “حماس” وتحقيقه، أي في شبك غزة ووصلها بالنضال الأشمل في سبيل التحرر الفلسطيني.
* ليلى سورا باحثة في مركز البحث والدراسات السياسية العربية – باريس ومؤلفة كتاب سياسة “حماس” الخارجية: الأيديولوجيا، اتخاذ القرار والصدارة السياسية.
مترجم من فورين أفيرز، 11 ديسمبر (كانون الأول) 2023
المصدر: اندبندنت عربية
قراءة موضوعية لمسيرة حركة حماS ودور قياداتها بغزة والضفة والسجون والخارج ، والتناغم بين القيادات الثلاث ، وكيف استفرد يحيى الSنوار قيادة حماS بالداخل ليحولها الى حرب وانتصارات إسلاموية ، ماذا تريد حماS باليوم التالي ؟، هل تنظر برؤية شمولية لفلسطين وقيادتها للنضال الوطني الفلسطيني ؟ أم سيكون التحول الى تنظيم سياسي مدني بعيداً عن المقاومة ، الأيام ستظهر المخفي .