رغم الجهد الدبلوماسي والضخ الدعائي الذي تقوم به كتل الضغط الداعمة لإسرائيل في الدول الغربية، ورغم التواطؤ الحكومي معها في أكثر من بلد واعتماد بعض المصطلحات التي سعت لفرضها في وسائل الإعلام المرئي، إلا أن القسمة التي أرادها الإسرائيليون ومفادها غرب متحضّر تُمثّل إسرائيل رأس حربته من ناحية، ومسلمون برابرة يناصرون الفلسطينيين من ناحية ثانية، فشلت فشلاً ذريعاً.
ويمكن تلمّس معالم هذا الفشل من خلال أربع ظواهر.
الظاهرة الأولى، الاتّساع التدريجي للمظاهرات والاعتصامات والنشاطات الداعمة للفلسطينيين إن في أمريكا وبريطانيا وكندا وفرنسا وإسبانيا والسويد، أو في اليابان والبرازيل وبوليفيا وتشيلي وجنوب أفريقيا وإندونيسيا وماليزيا والمغرب وغيرها، واستقطابها ملايين الأشخاص من أعمار مختلفة، واستمرارها وتجدّدها أسبوعياً، بما جعلها حالة تضامنية كونية أفقية في تخطّيها الحدود الوطنية والقارّية لم يشهد أن رأينا ما يماثلها تجاه قضية سياسية – حقوقية – إنسانية – ترابية منذ زمن بعيد. وتشارك في هذه المظاهرات قوى حزبية وهيئات اجتماعية وطلاب ومنظمات مجتمع مدني (لنا عودة لما تمثّله في الخرائط السياسية) وأفراد وجماعات من خلفيات متعدّدة.
وبموازاة التظاهرات المذكورة، توسّعت المشاركة النقابية الغربية في الحركة التضامنية مع الفلسطينيين، وانضمّ إليها مئات عمّال المرافئ والشحن، ممّن باتوا في أمريكا أو أوروبا الغربية يتمنّعون عن تحميل حمولات بواخر تنقل عتاداً حربياً أو قطع غيار عسكري مرسلة إلى إسرائيل. وسيعمد بعضهم في المقبل من الأيام إلى تحرّكات لمنع مرافئ ومواقع حيوية أوروبية أطلسية ومتوسّطية من استقبال أو صيانة البواخر المذكورة.
كما بدأت المُقاطعة المواطنية لبعض الشركات الوثيقة الارتباط بالمؤسسات الرسمية الإسرائيلية تؤثّر اقتصادياً عليها في أكثر من دولة أوروبية، بما يؤكّد أهمّية المقاطعة المستوحاة فكرتها وفلسفتها من تجربة الصراع مع نظام التمييز العنصري البائد في جنوب أفريقيا.
الظاهرة الثانية، خوض طلاب وأكاديميين في أكثر الجامعات الغربية مواجهات مع إداراتهم لم تهدأ منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر الفائت، رفضاً للرقابة وتقييد الحرّيات والابتزاز وازدواجية المعايير. وقد ساهمت أبحاثٌ وتقارير ومصطلحات أصدرتها أو اعتمدتها منظمات غربية أو غربية المنشأ والمركز مثل “العفو الدولية” و”هيومن رايتس ووتش” و”أطباء بلا حدود” و”أطباء العالم” و”الفدرالية الدولية من أجل حقوق الإنسان” وسواها في مدّ الطلاب والأساتذة بالمعلومات الميدانية الدقيقة عن الأوضاع في غزّة كما في الضفة الغربية والقدس الشرقية المحتلّتين، وبتدعيم مقولاتهم ومواقفهم السياسية بمحتوى حقوقي لا يترك للتشكيك بمصداقيته مجالاً.
أدّى الأمر إلى خلق تقاطعات وتحالفات جديدة تجمع طلاباً وأساتذة لم ينشطوا سياسياً في السابق مع آخرين كانوا في حملات مناهضة للعنصرية أو معنية بالشأن البيئي أو بالمسألة النسوية، وباتوا اليوم متقاطعين في اعتبار القتل والتدمير الممنهج وخطاب الكراهية التي يتعرّض لها الفلسطينيون تكثيفاً للمظالم كلّها، بتواطؤ من “الأقوياء” في العالم، داعمي “حصانة المرتكبين”. وتقاطعاتهم هذه ليست تبسيطاً لأمور مركّبة أو شائكة، فجلّهم يدرك أيضاً أن المجتمعات جميعها، بما فيها المجتمع الفلسطيني، حمّالة تناقضات وديناميات سياسية واقتصادية وثقافية مختلفة، بعضها قد يكون شديد الرجعية. إلاّ أن هذا لا يحول دون مطلب وقف المجزرة ودعم الحق في تقرير المصير والتحرّر من الاحتلال.
الظاهرة الثالثة، وهي قديمة ومتجدّدة، ترتبط بالتماهي مع الفلسطينيين في ضواحي المدن الغربية وفي أحيائها الشعبية. يعود ذلك لأمرين. الأول على علاقة بالأصول المهاجرة (عربية أو أفريقية) لمئات الألوف من المقيمين في المناطق هذه وبهوياتهم الدينية والثقافية. والثاني ربطاً بما تمثّله الحالة الفلسطينية بالنسبة إليهم من تجسيد لمعنى التعرّض للقمع والظلم والتمييز، وهو ما تعرّضوا له أو تعرّض له أهلهم في بلدانهم الأصلية (السابقة)، وما يتعرّضون له في بلدانهم الغربية (اللاحقة أو الجديدة). والفلسطينيون هم بهذا المعنى أشقاؤهم أو حتى مرآتهم، وهم غير المرئيّين ومنزوعو الأنسنة مثلهم، في اللغة السلطوية والإعلامية المُهيمنة.
أما الظاهرة الرابعة، فمختلفة عن كلّ ما ورد، ومبعثها المواقف الشجاعة التي اتّخذها الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش والتي شجّعت مئات المسؤولين الأمميّين ثم عشرات المسؤولين داخل المفوّضية الأوروبية على التعبير عن سخطهم على أكثر المواقف الرسمية الغربية، وعلى الفيتو الأمريكي الذي أظهر حجم الغرور الإجرامي (الذي لا يختلف في شيء عن الفيتوات الروسية دعماً للنظام السوري) في منع قرارات تدعو لوقف إطلاق النار. ولعلّ تصريحات غوتيريش الأخيرة التي أشارت إلى العنف غير المسبوق الضراوة في التاريخ الحديث في الحرب على غزة، ومثلها التصريحات المستجدة لجوزيف بوريل، ممثل الاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية الذي قال إن الدمار اللاحق بغزة يفوق ذلك الذي شهدته الحرب العالمية الثانية، حتى في المدن الألمانية المقصوفة، ومعها تصريحات أكثر فأكثر وضوحاً من طرف الحكومات الإسبانية والإيرلندية والاسكتلندية والبلجيكية، لعلّها كلّها، تعكس إرادة تصعيد في ممارسة الضغط على باقي الحكومات الغربية لوقف استمرار دعمها للحرب الإسرائيلية أو صمتها تجاهها. وهو في ذاته بات يُعبّر عن تصدّع الجبهة الحكومية الغربية التي كانت إسرائيل تراهن عليها بعد فشلها في تشكيل جبهة “شعبية” تتخطّى جمهور حركات اليمين العنصري المتطرّف الداعمة الأبرز لها.
بهذا المعنى، سمحت الحركة العالمية التضامنية مع الفلسطينيين، أو الداعية إلى احترام القانون الدولي واتفاقيات جنيف، بتقويض الخطاب الماهوي “الحضاري” الذي أريد ترويجه في الأيام والأسابيع الأولى للحرب. ورسمت الحركة هذه خرائط بالسياسة في الكثير من دول الغرب لم تكن على الدوام قائمة، فتمركزت فوق الخرائط مع الوقت ثلاثة معسكرات. الأول يضم قوى من أقصى اليسار ومن اليسار البيئي والشيوعي ومن القوى النقابية والحركات الاجتماعية وحملات مناهضة العنصرية والكثير من الهيئات الطلابية والجامعية والحقوقية، ووسطهم وحولهم شرائح واسعة من المواطنين غير الملتزمين بأطر منظّمة ذوي أصول مهاجرة من آسيا وأفريقيا والمنطقة العربية. والمعسكر الثاني يضم قوى اليمين المتطرّف ومعظم اليمين وقسم من اليسار الاشتراكي الديمقراطي (ومن حزب العمّال في الحالة الإنكليزية). وبين هذين المعسكرين المتصادمين، يقبع في معسكر ثالث عدد إضافي من القوى اليسارية (من الاشتراكيين وبعض الاشتراكيين الديمقراطيين والعمّاليين) ومعظم القوى الوسطية وقلّة من قوى اليمين التقليدي، تجهد للنأي بنفسها عن موقف صريح وتكتفي بإدانة “القتل والتطرّف من الجهتين”.
الأهم ربما أن الحركة التضامنية الكونية مع الفلسطينيين أتاحت وتتيح لجيلٍ جديد التسيّس على وقع مظاهراتها وأنشطتها وردّها على الدعاية الإسرائيلية ومقولات الداعمين لها، وشجّعت فنانين في أوساط الـ”راب” الذي يتابعه عشرات ملايين الشبّان والمراهقين بشغف كبير، كما شجّعت شخصيات تحظى صفحاتها في مواقع التواصل الاجتماعي بتأثير واسع، على اتخاذ مواقف واضحة داعمة للفلسطينيين، دفعت إسرائيل إلى تخصيص موازنات لشراء خدمات “مؤثّرين” على نفس مواقع التواصل بهدف الردّ أو تقليص الأضرار، بلا نجاح يُذكر.
وهذا كلّه لن يبدّل في موازين القوى في غزة اليوم، وقد لا يؤثّر كثيراً على الموقف الأمريكي الرسمي لاعتبارات عديدة ترتبط بتاريخ سياسي وبنفوذ كتل الضغط ومراكز التأثير على القرار وعلى تمويل الحملات الانتخابية (في عام حاسم على هذا الصعيد). إلا أنه لا بدّ إن استمرّ وبُنيَ عليه أن ينجح في عزل إسرائيل أكثر فأكثر دولياً بعد أن أسقط مقولاتها ومزاعمها حول الحضارات والتحالفات، وأن يُثير الكثير من القضايا القانونية في وجه جرائمها ويرفع الدعاوى ضدها في محافل دولية ووطنية، ويدفع المزيد من الحكومات حول العالم إلى الاعتراف بدولة فلسطين أو إلى تقليص مجالات التعاون مع الصناعات العسكرية الاسرائيلية. والأمر تحدّ مهمّ سبق أن نجح في دعم الجنوب أفريقيين في كفاحهم ضد نظام التمييز العنصري، ولا بدّ أن يكون له مع الوقت تأثير في الحالة الفلسطينية.
٭ كاتب وأكاديمي لبناني
المصدر: القدس العربي
أثبتت وقائع المعارك ومجازر قوات الكيان الصهيوني بحربها على شعبنا بفلسطين/غزة بأن القسمة التي أرادوها الصهاينة ومفادها غرب متحضّر تُمثّل إسرائيل رأس حربته من ناحية، ومسلمون برابرة يناصرون الفلسطينيين من ناحية ثانية، فشلت فشلاً ذريعاً.، لتظهر قوات الاحتلال كوحوش بشرية فاقدة لكل معايير الإنسانية والتحضر .