عن أصواتٍ غربيةٍ تواجه الإرهاب الفكري

ولاء سعيد السامرائي

بينما يستمرّ الإعلام الغربي الموالي والداعم لدولة الاحتلال، سواء في أميركا أو أوروبا، بترديد سرديات إعلام الجيش الإسرائيلي والأكاذيب التي انفضحت والضجيج والإلحاح الهستيري والضغط على من يستنكر الحرب الوحشية على غزّة لانتزاع جملة على سؤال: هل تدين هجوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول؟ أو هل “حماس” منظمّة إرهابية؟ خرجت من هذا السيرك المرفوض أصوات كثيرة ترفض هذا الإرهاب الفكري الذي يمارسه صحافيون في الإعلام الفرنسي بالذات، وكأنهم يعملون في إعلام جيش الاحتلال. ولعل ما حدث قبل أيام من ملاسنة على الهواء بين الصحافية روث الكريف، صديقة “الليكود”، والنائب عن حزب فرنسا الأبية مانويل بومبار، أوضح دليل. تأهب “للمعركة” الكلامية ثلاثة صحافيين، ليمطروا النائب بالأسئلة، الواحد بعد الآخر، في مشهد لم يحصل أبدا ربما حتى لدى دولة الاحتلال، بهدف الضغط عليه وإحراجه، ودفعه إلى اتهام المسلمين بمعاداة السامية. وضعت هذه الترتيبات لإرهاب النائب بسبب عدم مشاركة حزب فرنسا الأبية في تظاهرة دعائية وداعمة لدولة الاحتلال “ضد معاداة السامية”، بكذبة تصاعدها في فرنسا، بينما غزّة تُقصف بشراسة، ويقترف جيش الاحتلال أبشع الجرائم التي يندى لها جبين الإنسانية، بنية تهجير الشعب الفلسطيني وإبادته، ما يعدّ في القانون الدولي جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.

من وسط هذا الإرهاب الفكري الخانق غالبية الشعب الفرنسي، برز صوت المحامي جيل دوفير ليقول للشعب الفلسطيني منذ بداية العدوان: ليس لديكم جيش، لذا سنكون جيشكم. … جمع المحامي من مدينة ليون الفرنسية أكثر من 500 زميل له في العالم، وجرى تشكيل لجنة من أساتذة القانون الدولي للدفاع عن الشعب الفلسطيني، واستعادة حقوقه المسلوبة ومقاضاة مجرمي الحرب والمجرمين بتهم الإبادة الجماعية، فقد رفع دوفير في 9 الشهر الماضي (نوفمبر/ تشرين الثاني)، شكوى جماعية لدى محكمة الجنايات الدولية التي يسمح نظامها بتقديم هذه الشكاوى، وسبق لها أن بتّت بمثل هذه الجرائم في يوغسلافيا ورواندا، وحكمت عليها كجرائم حرب، ولم تكن بوحشية (وحجم) الجرائم التي يقترفها الكيان الصهيوني منذ نحو 70 يوما.

كان توقيع الجانب الفلسطيني ميثاق روما قبل سنوات خطوة في الاتجاه الصحيح، سمح بأن يتم الاعتراف من المحكمة الجنائية بفلسطين دولة ذات سيادة في الضفة الغربية وغزّة والقدس الشرقية، وأن هذا القرار يعني قانونيا عدم شرعية مصادرة الأراضي الفلسطينية، وبالأخص عدم مصادرة القدس الشرقية التي لا ينفكّ الداعمون للاحتلال في فرنسا، حيث تنكتب هذه السطور، عن ادّعاءات ملكيتها، وفي مقدمتهم جاك أتالي، المستشار الدائم لكل رؤساء فرنسا منذ عهد الرئيس فرانسوا ميتران، على الرغم من قرار المحكمة الجنائية الواضح الذي لا لبس فيه. بدءا، سيقوم المدّعي العام للمحكمة بالتحقيق بكل ما حصل، وكل ما قام به نتنياهو وبايدن لمعرفة مصدر أوامر الجرائم المقترفة.

يقول المحامي جيل دوفير إن كل شروط الإبادة متوفّرة، ولكل ما يحدث قواعد شرعية في ميثاق المحكمة الجنائية. إذ وفقا للمادة السابعة من هذا الميثاق، فان قصف السكان بالفوسفور الأبيض وحرقهم جريمة حربٍ صارخة، وواضحة للعيان وللشروط المحدّدة لتوصيف جريمة الحرب. أما اعتقال الفلسطينيين وتعريتهم من ملابسهم وإذلالهم والاستهزاء والضحك عليهم فهي جريمة ضد الإنسانية. وتتعلق المادّة السادسة بالإبادة الجماعية، وهي أعلى مراتب هذه الجرائم، وتعرّف بفعل مؤكّد لتدمير مجتمع أو مجموعة اجتماعية، وهو ما يحصل ليس في غزّة فقط، بل في كل فلسطين. وليس هذا التعريف خاصا بمحكمة الجنايات الدولية، بل تتشارك أكثر المحاكم بهذا التعريف، مثل العدل الدولية والمحكمة الجنائية ليوغسلافيا ورواندا. فقد صدرت أحكام بجرائم حرب لصالح شعب الروهينغا بسبب قطع الماء والكهرباء وتنظيم المجاعة وصعوبة الحصول على العناية الصحية وتدمير البيوت وتهجير الناس. وهو ما اقترفه جيش الاحتلال الصهيوني وما زال، بل يضاف إلى ذلك أن ضحايا جل قصفه الواسع والكثيف ضد غزّة من المدنيين أطفال ونساء وكبار السن.

الأمر الآخر الذي ستحقّق فيه المحكمة شرط النيات، إذ يجب إثبات نية المقابل في تدمير السكان، وهذا ما يشهد عليه قول وزير الدفاع، غالانت، إن “الفلسطينيين حيوانات بشرية وسوف نتعامل معهم كذلك”. أما نتنياهو فهو القائل إن “غزّة لن تعود كما كانت، وإننا سنضرب كل من يدعم حماس”. نيات هذا الكلام واضحة لتهجير الفلسطينيين من أرضهم، كذلك تكرار الحرب عليهم كل بضع سنوات لتنغيص حياتهم وجعلهم يكرهونها ليغادروا غزّة. ولعل استهداف المستشفيات وكوادرها الأبطال الأطباء والممرضين والموظفين الإجرامي مثل صارخ على جريمة الإبادة الجماعية في القانون الدولي. كل هذه الوحشية والإجرام الصهيوني هو نية وإصرار على نزع إنسانية الفلسطينيين وتدميرها.

أهم ما يقوم به المحامي جيل دوفير وزملاؤه من المحامين وأساتذة القانون في العالم تقديم الشكوى باعتبارها تبدأ قبل النكبة وبعدها وليس فقط جرائم اليوم، أي من تاريخ وعد بلفور المشؤوم لأن هذا الوعد غير الشرعي بإعطاء مجموعة بشرية دولة شعب آخر هو جريمة بحد ذاته، تبعته النكبة وتهجير الفلسطينيين من ارضهم، فالنية التي هي إحدى شروط تعريف الإبادة موجودة أصلا في الوعد والنكبة، ولا تزال هذه النية مستمرّة، فقد سمع العالم من وزراء حكومة نتياهو يتكلمون بفرح عن احتلال أراضي غزة واستثمارها وإعطائها للمستعمرين.

لم تقتصر الشكاوى ضد الكيان الصهيوني على فرنسا، بل جرى رفع شكوى ثانية في الولايات المتحدة من المستشارة القانونية العليا في المحكمة الدستورية، وهذه المرّة لمقاضاة الرئيس بايدن ووزير الخارجية بلينكن ووزير الدفاع أوستن بتهمة التواطؤ على الإبادة الجماعية في غزّة. وتقول المستشارة إنه سيجري تقديم كل الأدلة التي تدين إسرائيل بالإبادة الجماعية وبجرائم الحرب، ومنها، كما تقول، كلام نتنياهو ووزير الدفاع وكبار المسؤولين ونياتهم المعلنة بشأن غزّة.

تساهم الولايات المتحدة في الإبادة الجماعية، عبر تزويد إسرائيل بالسلاح وإرسال المستشارين العسكريين والتسريع بالمساعدات والدعم المعنوي والسياسي. وبحقّ، أظهر أحد كبار الموظفين في الخارجية الأميركية، جوش بول، الذي قدّم استقالته بعد تصريح الوزير بلينكن أمام نتنياهو أنه جاء إلى إسرائيل ليس بصفته وزيرا للخارجية فقط، وإنما أيضا بصفته يهوديا، والذي أثار حفيظة موظفين في الخارجية، ودعا بعضهم إلى الاستقالة فضلاً عن استخدام الولايات المتحدة حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن، أخيرا، ضد الدعوة المعلنة والمكرّرة لتقليل الخسائر المدنية. وبقوة وحزم، دانت المقرّرة لحقوق الإنسان فرانشيسكا البانيز جرائم دولة الاحتلال، وردّت على الصحافيين الفرنسيين المدافعين عن سرديات الجيش الإسرائيلي وأكاذيبه بأن على المتكلّم أن يعرف القانون قبل أن يساند الجرائم المقترفة، لأن ما تقوم به حكومة نتنياهو جرائم حرب وإبادة واضحة في القانون الدولي.

أصدرت محكمة العدل الدولية عام 2004 حكما يفيد بأنه لا يحقّ لإسرائيل الدفاع عن نفسها في الأراضي الفلسطينية المحتلة، لكن بعض الدول، وخصوصا فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة، ما زالت تردّد من دون خجل، وتتكلم عن حقّ الدفاع عن النفس، حتى عندما برزت أصوات المحامين والحقوقيين وأساتذة القانون الدولي. ومن الممكن إيجاد سبب مفهوم لهذه الدول التي أوجدت هذا الكيان في فلسطين، لكن المحزن والمأساة ما نشاهده من مواقف مخزية ومشينة للدول العربية التي تنظم حفلات الرقص والغناء ومآدب الأكل الفاحشة، بينما يصبّ القتلة حمم القنابل والفوسفور على أطفال غزّة وأهلها الصابرين. وفي الوقت الذي يكشف القتلة في الحكومة الإسرائيلية خططهم لتهجير الشعب الفلسطيني واحتلال مزيد من أراضي دول عربية، لا يرمش جفن لهذه الأنظمة المستسلمة والمطبّعة، على الأقل في ما يخصّ الحد الأدنى من أمنها الوطني ووجودها المهدّد من الكيان الصهيوني الذي لا يكفيه استسلام هذه الدول، بل نيته المعلنة تدميرها وإنهائها من الوجود.

تمارس بعض الدول الإقليمية في المشرق، منذ عقدين، سياساتها التي تستغلّ كل صغيرة وكبيرة لصالحها وصالح أمنها وسيادتها، تفاوض وتتاجر. لكن، ورغم أوراق كثيرة تمتلكها هذه الحكومات والإمكانات باتخاذ مواقف بسيطة، وحد أدنى فيه من الكرامة لتستخدمها وتحمي أمن دولها ومنطقتنا، وتمنع الإبادة وجرائم الحرب، ونكبات جديدة ليس في فلسطين فقط، بل في عموم المنطقة، فإنها تتفرّج بطريقة مخزية، مذلة ومهينة، لا تبشّر إلا بما لا يحمد عقباه.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. إعلام الغرب بقيادة الولايات المتحدة أصبح بوق للسرديات الصhيونية ، ضمن الدعم المادي واللوجستي الذي قدمته لهذه الدويلة المصطنعة بعد انهيارها بـ 7 أكتوبر ، ليكون الأسئلة المحرجة لكم الأفواه هل تدين هجوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول؟ و هل “حماS” منظمّة إرهابية؟ ولك Hdk قرار محكمة العدل الدولية عام 2004 بأنه لا يحقّ لإSرائيل الدفاع عن نفسها في فلسطين لأنها دولة احتلال ، أليست ممارساتها إرهاب الدولة ؟ أين حقوق الإنسان ؟ وحق الشعوب بتقرير المصير ؟

زر الذهاب إلى الأعلى